وهم السلطة الدينية

08-10-2011

وهم السلطة الدينية

تقوم مشروعية السلطة الدينية على أساس ادّعاء أنها قادرة على تفسير كلام الله. لكن، خطوة إضافية قد تخطوها غالباً أو دائماً، قبل أن تزعم أنها ليست قادرة وحسب، وإنما هي الأقدر على تفسير كلام الله. وبعد هذه الخطوة تصبح السلطة الدينية تسلطاً دينياً. تلك معضلة كل الديانات بلا استثناء، لكن بودنا الحديث الآن حصراً عن بيتنا الداخلي؛ فنحن مقبلون على معارك ما بعد الثورة وما قبل الدولة، ومقصود القول بالتأكيد، يشمل السلطة الدينية في كافة الطوائف والديانات.
بين السلطة الدينية والتسلط الديني نفس الفرضية. إنها الفرضية التي تزعم أن تفسير كلام الله متاح فعلا، لكنه متاح فقط للقليلين. وبهذا المنطق تتحول المعرفة الدينية إلى سلطة دينية، بل وإلى سلطة اجتماعية وأخلاقية وسياسية أيضاً، تمارسها قلة قليلة على أكثرية كثيرة.
متى أدركنا هذا المنطق، بوسعنا التحرر من أوهام السلطة الدينية، كما تمارسها أو تحاول أن تمارسها بعض المؤسسات أو الجامعات أو الفضائيات أو الدول في العالم الإسلامي. لكن، أمامنا فقط خياران: إما أن نذهب بالمنهج الظاهري إلى أقصى مداه فنقرر أن كلام الله واضح بسيط، وفهمه ميسر لسائر الناس بلا استثناء ومن دون حاجة لوكلاء في الشرح والتفسير؛ وإما أن نذهب بالمنهج الباطني إلى مداه الأقصى فنقرر استحالة التفسير، بحيث نعتبر أن كلام الله لا يمكن لأي إنسان، كيفما كان، أن يدرك معناه ويبلغ فحواه، أكان إماماً أو عالماً أو واعظاً أو كاهناً أو كائناً من كان.
الخيار الأول قد يبدو مغرياً للعقل المؤمن بالحرية وبالمساواة؛ لأنه يتيح لكافة الناس - وعلى قدم المساواة - إمكانية فهم واستيعاب كلام الله من دون حاجة إلى أي مرجعية تفسيرية أو سلطة تأويلية من شأنهما أن تفرضا الحجر والوصاية لبعض العقول على سائر العقول. إلا أن القدرات الإقناعية لهذا الخيار تصطدم بعقبتين: العقبة الأولى، تتعلق بالتفاهة التي ستبدو عليها الكثير من الآيات القرآنية إن حملت على محمل الظاهر، مثل آيات الاستواء على العرش، على سبيل الاستدلال. والعقبة الثانية تتعلق بالغموض الشديد الذي يكتنف الكثير من الجمل القرآنية، إن بسبب الأصول اللغوية لبعض الألفاظ، أو بسبب قوة المجاز والاستعارة في عدد من الآيات القرآنية. وفي كل الأحوال، فإن الخيار الظاهري في التفسير قد جُرب في تاريخ الثقافة الإسلامية مراراً، ولم يكن يمنع طائفة من الناس أن تدّعي امتلاك الفهم الصحيح للنص كلما اختلف سائر الناس في التأويل.
أما عن الخيار الثاني، حول عدم قابلية القرآن لأي تفسير بشري، فنحن هنا أمام فرضية قد تبدو جديدة، لكنها تقوم على بداهة قديمة وتكاد تكون منسية.
وتوضيحاً نقول، ليس الوحي في جوهره ألفاظا وكلمات، وإنما إشارات إلهية "مبهمة" اخترقت وجدان الرسول وأدركها بقوته التخييلية، ثم حاول تأويلها وترجمتها إلى لغة بشرية. هذا يعني أن التنزيل مجرد مقاربة تأويلية لإشارات الوحي. وهي مقاربة خاضعة لحمولة اللغة البشرية ولثقل الثقافة السائدة ولضغط التقاليد المحلية، إبان زمن النزول، والذي يمثل العالم القديم بمفاهيمه وتصوراته ومعتقداته. من هنا أصل الناسخ والمنسوخ بكافة أنواعه، سواء ما نسخ لفظه، أو ما نسخ حكمه، أو ما نسخ كلاهما. وإذا كانت السلطة الدينية تستمد مشروعيتها من ادّعاء القدرة على تفسير أو توضيح أو شرح أو تأويل كلام الله، فإن كلام الله في حقيقته، لا يقبل أي تفسير بشري. لماذا؟ ليس فقط لأن التنزيل مجرد تأويل تقريبي للوحي، وإنما أيضاً لاستحالة التأويل المطابق للأصل، بقرار وبإقرار من الوحي نفسه في قوله: "وما يعلم تأويله إلا الله".
وإذ يقال لا كهنوت في الإسلام - وهذا صحيح من حيث المبدأ - فإن مشروعية سلطة التفسير في الإسلام، تعاني من أزمة في الأسس ومن قصور في المستندات. ليس ذلك بسبب أن كل حقيقة مجرد خطأ لم يفند بعد، كما يردد مؤرخو المعرفة العلمية، وإنما لأن القدرة على امتلاك جوهر المعاني القرآنية يظل منذ البدء محض ادّعاء لم يكن يدّعيه سلف الأمس وإن أصبح يدّعيه سلفيو اليوم.
فسواء بالاستناد إلى العقل أو بالعودة إلى النص، أو باعتمادهما معاً، تبدو القدرة على تفسير النص الديني مجرد ادّعاء لم يكن يزعمه حتى النبي نفسه. هذا الأخير الذي لم يعرف عنه أنه كان مفسرا للقرآن، ولم يكن يشرح للصحابة سوى النزر القليل من الآيات وفي مناسبات محدودة.
صدقاً ونزاهة وتجرداً، لا أحد يملك سلطة تفسير كلام الله، والذي هو في جوهره كلام غير قابل لأي تفسير بشري. عدا ذلك تظل وظيفته بالأساس وظيفة تعبدية روحية. ولعلها أسمى وأسلم وظيفة.
أليست السلطة الدينية مجرد وهم من الأوهام؟

سعيد ناشيد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...