(المنحى الخطر) بحث في أغوار النفس البشرية

20-03-2011

(المنحى الخطر) بحث في أغوار النفس البشرية

كتب الأديب والكاتب الانكليزي بريستلي مسرحيته (منحى خطر ) عام 1932 وصدرت في سلسلة (من المسرح العالمي) الكويتية عام 1988 (127صفحة) أي قبل وفاته بعدة سنوات وبريستلي كاتب متعدد المواهب والفنون فقد كتب المقالة والرواية والمسرحية وأدب الرحلات والنقد الأدبي والتاريخ الاجتماعي...

في مسرحية (منحى خطر) يثبت بريستلي قدرة على امتلاك موهبة الكتابة المسرحية، فهي (المسرحية) وفية لعناصر الدراما التقليدية (وحدة الزمن- والمكان والموضوع) وتعالج معالجة لافتة الزمن المنقسم حيث نرى على خشبة المسرح ما يحدث إلى جانب ما يحتمل أن يكون قد حدث، المسرحية تحاول قول الحقيقة المجردة بلا أدنى زيف أو مداراة فالعلاقات الإنسانية بحسب بريستلي لا تحتمل التجريد المطلق، وهو هنا مقتنع تماماً بقول ستانتون إحدى شخصيات منحى خطر: (إن قول الحقيقة يشبه التزلج حول منعطف في الطريق لشخص في الستين من عمره وهي صورته المجازية المعبرة عن احتمال أن يسقط وتدق عنقه...) وتعد منحى خطر من أكثر مسرحيات بريستلي متانة من الناحية الدرامية رغم أنها أول نص مسرحي له) وهي بالوقت نفسه تتسم ببساطة الفكرة والمضمون وعرضها على الخشبة بحسب النقاد يتطلب أثاثاً بسيطاً كما أن أحداثها تدور في مكانين فقط، ما يجعل نص (منحى خطر) جذاباً للشباب والهواة من المخرجين لتجريب رؤاهم الفنية نظرا لتكاليف إنتاجها البسيطة..
 


نص (منحى خطر) دار ولف عشرات المسارح بالعالم منذ ثمانين عاماً وقدم العديد من المخرجين في كل دول العالم رؤيتهم الخاصة للنص الذي يعد حقيقة منجم أفكار وتعقيدات نفسية لشخوصها..وقدمت أول مرة عام 1932 في لندن على المسرح الغنائي، ولفهم النص ينبغي فهم الظروف الاقتصادية والسياسية التي كتبت فيها حيث ألف بريستلي النص في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية وكساد الأسواق والفقر الذي ضرب الملايين من السكان، هذا الظرف الذي شهد بداية صعود النازية والديكتاتوريات الأوروبية، كل ذلك كان له انعكاسات كبيرة على الناس ونفسياتهم والمعاناة الكبيرة التي فرضها الظرف القاهر عليهم وتجليات هذه الأزمة التي نتج عنها التفسخ والانحلال والتفكك الأسري والغدر وتزايد نسبة الإجرام... ‏

(منحى خطر) ترصد بعمق التفكك والانحلال الأخلاقي من خلال مجموعة أقارب وأصدقاء يعملون في شركة واحدة وفي سهرة تجمعهم تنفتح الأحاديث المتوالية بينهم على كشف أسرارهم الواحد تلو الآخر فقصة موت (مارتين) وانفضاح تفاصيلها تفضي لإظهار كل الشخصيات على حقيقتهم فكل النفاق والخيانات والشذوذ الجنسي توضع على طاولة السهرة لنرى بوضوح لوحة بانورامية لمجتمع متفسخ مغلف بالرياء والادعاءات والأقنعة المزيفة التي تخفي الحقائق بتلميعها.. ‏

المخرج الشاب عروة العربي نقل النص من زمن عام 1932 إلى زمننا الحاضر عبر استخدام ذكي ومتقن لمفردات العرض المسرحي الإكسسوارات والديكور والأسماء العربية والمناخ وإعداد الحوار أي قام بعملية تبييء للنص (إعادة تأليفه وفق متطلبات البيئة المحلية) لكن مع الحفاظ على الخط العام وعلى مقولات وفكرة العرض.. ‏

في عرض عروة نرى صالون منزل يظهر عليه الثراء، ففي المنتصف هناك طاولة وكراس وعلى يمين الخشبة مكتبة وتلفزيون يعرض أفلام وعلى اليسار يتوضع بيانو وعازف مع صورة كبيرة لمامر (القتيل) (مارتين) في النص الأصلي وفي العمق ثمة درج ومدخل وزجاج يظهر حديقة المنزل قرب مدخل البيت ‏

مجموعة من الأصدقاء والأزواج (سبعة وعازف بيانو) يجلسون على الطاولة وقربهم بوفيه مشروبات يتسامرون ويضحكون ويتبادلون الأحاديث والذكريات والطرائف ويسود بينهم المرح والألفة.. ‏

لكن رؤية صندوق على الطاولة يحرف مسار الأحاديث، والمرح ينقلب لغضب وصراخ، ظهور الصندوق شكل الانعطافة الدرامية التي تقودنا لمعرفة حقيقة انتحار مامر.. ‏

تقول نادين: لقد رأيت هذا الصندوق من قبل؟ يجيب مثنى: رأيته، ولكن أين؟ سلمى: حبيبي وين ممكن تكون شايفو؟ نادين: أنا متأكدة إني شايفتو.. إيه عند مامر. سلمى: إيه صح بعد ما مات مامر جيبتو. تيم يحاول تغيير الموضوع وكذلك الجميع إلا أن غيث يصر على الموضوع. (مامر وصى على الصندوق يوم الأربعاء ومامر مات يوم الخميس.. في شيء مو صح...) ‏

بعد جدل وشجار يتبين أن سلمى زوجة مثنى قد كانت عند أخيه مامر بعد غيث.. أي إنها آخر شخص رأى مامر قبل انتحاره... ‏

تعترف سلمى أن نادين آخر شخص رآه مامر. مثنى يسأل نادين هل الموضوع مرتبط بالشيك. ‏

ينسحب البعض ليبقى مثنى ونادين وسلمى.. يثار موضوع الشيك الذي سرق (في النص الأصلي خمسمئة جنيه المبلغ المسروق) والذي سبب انتحار مامر كما كان يظن مثنى شقيق مامر، نادين تؤكد له أن مامر لم يسرق الشيك.. هكذا قال لها تيم. إذاً من سرق الشيك..؟ ‏

في سياق الصراع بين أشخاص المسرحية تعترف نادين بحب مثنى منذ سنوات لكنها اضطرت للصمت، و سلمى زوجة مثنى تزوجته لتتقرب من شقيقه مامر الذي كانت مغرمة به ‏

و تيم الشاب الفقير الذي ربطته علاقة صداقة مع مثنى أدت لاقتناص فرصة عمل في الشركة وأصبح صديقا لمالكيها، ورغم ذلك يخون أصدقاءه ويسرق الشيك وبالوقت نفسه يتقمص شخصية باسم قيس الشخص المجهول الهوية الذي يرسل رسائل الحب والغرام لنادين وهو أيضاً الشخص الذي يخون صديقه غيث مع زوجته، أما غيث فتظهر في هذه الليلة الصاخبة ميوله الشاذة، ويشتبك الجميع بشجار وعراك كاد أن يؤدي إلى قتل تيم وغيث وهنا نصل إلى الحل والذروة الدرامية حيث تنهار نادي وتعترف أنها قتلت مامر فتنكشف الحقائق فمامر لم ينتحر بل قتل بيد نادين بعد محاولته التحرش بها.. ‏

مامر صاحب الصورة الكبيرة المعلقة في ركن البيانو يشكل في العرض خطاً درامياً فاعلاً، فهو محور الأحداث رغم غيابه وهو الشخص الذي ربط الجميع به لما يتمتع به من جاذبية وخبث وحضور وبالوقت نفسه عقد وشذوذ وتهتك. ‏

في العرض ينجح عروة العربي المخرج الشاب مع مجموعته من ممثلين وفنيين بقراءة جديدة لنص بريستلي من خلال إعداده إعداداً جيداً ليوافق مع رؤيته للمجتمع العربي الذي يغلف تفسخه وانهياره بعباءة الأخلاق الحميدة. ‏

البعض رأى العرض سطحياً يشبه أحد مسلسلات (العشق) وهذا يعود لعدم الاطلاع على النص الأصلي وعمقه كما أنه يظهر مدى رغبة الكثيرين بعدم إظهار مشكلات المجتمع وانحرافاته... ‏

(منحى خطر) دراما تغوص في أغوار النفس البشرية وتفضح أسراره التي تقف وراء كل سلوكه وحركته... ‏

(منحى خطر) إنتاج مديرية المسارح والموسيقا- إعداد وإخراج: عروة العربي. ‏

أداء: جلال الطويل.. ربا الحلبي.. أريج خضور.. جوان الخضر.. وسيم قزق.. علا باشا، داني القصار. ‏

أحمد الخليل

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...