القانون يمنع والفقر يجيز «الحشيشة» في لبنان

04-09-2006

القانون يمنع والفقر يجيز «الحشيشة» في لبنان

يواجه اهل البقاع أصنافاً عدة من الحرمان: تقصير الدولة التاريخي، وهمجية العدوان الإسرائيلي، ثم إصراراً على تطبيق القوانين في ما يختص بإتلاف مزروعات “الحشيشة” وإن كان على حساب أرزاق الناس وموارد عيشهم
أكّد المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي لـ“الأخبار” أن “لا شيء يبرّر استمرار زراعة الحشيشة التي تسيء إلى سمعة البلد”، وقال بلهجة صارمة إن الدولة عازمة على إرسال “قوة كبيرة جدّّاً” لمواجهة مزارعي الحشيشة إذا ما أرادوا مقاومة رجال الأمن خلال عملية الإتلاف.
غير أن هذه القوانين لا تأخذ في الحسبان أن المواطنين في هذه المناطق قد حرموا من أبسط الحقوق الإنسانية، وهذا لا يعفيهم، من وجهة نظر الدولة، من واجب الامتثال لأوامرها التي لم يتلقفوا منها سوى الوعود البراقة على مدى سنين طويلة. واللافت أن قسماً كبيراً من المواطنين أبدى “الاستعداد للمواجهة مع القوى الأمنية ولتحدي أوامر الدولة دفاعاً عن الحقوق” كما حصل اول من أمس في منطقة جرود الهرمل حيث أطلق مزارعون النار على القوى الامنية اثناء إتلافها المزروعات الممنوعة. وثمّة من يبرر ردة الفعل هذه، لأن الحرمان من الحقوق يولّد العنف ويدفع الناس إلى ارتكاب الكثير من المخالفات وأعمال الشغب.
فأهالي البقاع الذين تضرروا من العدوان الإسرائيلي، يطلقون صرخات الاستغاثة ويصبّون جام غضبهم على أجهزة الدولة التي تعتزم القيام بعملية التلف لأنها تهددهم في أرزاقهم ومعيشتهم. ويقول احد هؤلاء العاملين في زراعة الحشيشة “بتنا مثل النمل، نخزن ونمون في الصيف لنأكل ونعيش في الشتاء”، حيث يغمر الثلج الحقول والطرقات، فلا يقوى الناس على العمل وبخاصة في الفترات التي تهبط فيها الحرارة إلى درجات متدنية جدّاً والتي يحتاجون فيها إلى شراء كميات كبيرة من المازوت من أجل التدفئة، علماً أن هذه المادة شهدت ارتفاعاً حادّاً في الأسعار وخصوصاً في الآونة الاخيرة.
وهذه السنة لم يقدم أهالي المنطقة على زراعة الحشيشة لاعتقادهم أن “دولة القانون والمؤسسات” ستعود لنشر سلطتها والقيام بعملية التلف. لذلك لم يزرعوا سوى ثلث الكمية التي يزرعونها عادة. هذا في الوقت الذي يعلن فيه العديد من المزارعين في منطقة البقاع عن استعدادهم لإتلاف مزروعاتهم إذا تكفلت الدولة بسد حاجاتهم الاساسية من المال، علماً أن تكاليف التلف توازي تكاليف مشروع الزراعات البديلة.
تجدر الإشارة إلى أن ثمة مشاعر كراهية يكنّها مزارعو الحشيشة لمزارعي الأفيون (الخشخاش) نظرًا لكون الأفيون مادة “مدمّرة” وتسبّب الإدمان الذي تنتج منه مشاكل اجتماعية خطيرة، بينما يقتصر ضرر حشيشة الكيف على الخطر نفسه الذي يسببه الكحول أو التبغ على الصحة العامة، إذ يقول عدد من المزارعين إن “الابيض (الافيون) ضرب الحشيشة غير المسببة للإدمان عبر تشويه صورتها بربطها بصورة الافيون أو الهيرويين المدمنة والمدمّرة”. غير أن عملية التلف هذه تستهدف الحشيشة حصوصاً لأن الخشخاش يحصد في نيسان وآذار، ولذلك يقتصر التلف الآن على الحشيشة فحسب.
وقد بدأ المزارعون في المناطق المنكوبة من البقاع يتأسفون ويترحمون على عهد الرئيس كميل شمعون والرئيس صبري بك حمادة وعهد السوريين في الوقت نفسه! ويقول هؤلاء: “السوريون لم يتدخلوا يوماً ولم يزيدوا من آلامنا ولم يتكبّروا علينا كما يفعل الامن اللبناني”. إن هذا التعاطف مع السوريين من جهة والرئيس شمعون من جهة اخرى لا يبدو منسجماً سياسياً لكنه منسجم اجتماعياً، فهم كانوا يسهّلون لهم طرق معيشتهم بفتح الطرقات وجرف الثلج أيام الشتاء القاسية، في الوقت الذي تتخلى فيه الدولة اليوم عن أقل الواجبات المترتبة عليها تجاه المواطنين وتتركهم فريسة للجوع والفقر والعوز.
ويضاف إلى أسباب المعاناة أن بعض المناطق المزروعة بالتفاح، قد ضربها الصقيع في الربيع المنصرم، فتجلّدت زهرات التفاح، الأمر الذي أدى إلى الإضرار بجزء من الموسم، ولم يسلم من هذا الضرر سوى التفاح المزروع في المرتفعات.
وتعاني هذه المناطق فقراً مدقعاً وانعداماً للخدمات المختلفة، فأنابيب الصرف الصحي في غاية السوء، ولا تكاد توجد مدارس تصلح لاستقبال الطلبة والمدرسين. ويُرجع بعض الأهالي سبب هذا الوضع المزري إلى حالة “التمدن” السريعة التي شهدتها هذه المناطق والتي جعلت الناس يرفضون نمط العيش التقليدي بالاعتماد على الزراعة.
ومن الطريف أن بعض أهالي تلك القرى يلجأون إلى التداوي بالحشيشة، وبخاصة أولئك الذين يعانون مرض السكري، وذلك ضمن إطار الطب الشعبي الرائج في تلك المناطق، الأمر الذي يعني أنهم سيفقدون بالتلف علاوة على موارد الرزق، مصدراً من مصادر العلاج المجاني.
يقوم افراد من العشائر اللبنانية بزراعة الجزء الأكبر من "الحشيشة" في سهل البقاع ولتلك العشائر خصوصيات ثقافية وتقاليد عريقة معروفة. فأبناء العشائر لا يهون عليهم الإذلال ولا يرضون بالتساهل مع الذلّ والفقر والتعتير. ويبدو أنهم مسلّحون بأكثر من سلاحهم الفردي وقادرون على مواجهة من يعدّونهم ظالمين بحقّهم لكنهم أعربوا عن استعدادهم لإتلاف المزروعات الممنوعة بأنفسهم. ومن المستحسن معالجة المشكلة عبر التفاوض والحوار والتجاوب مع الدولة المنصفة قبل الاحتكام الى السلاح.

الحكومة لا تتذكر جرود الهرمل المنسية إلا في موسم الحشيشة

يحظر القانون اللبناني الخاص زراعة النباتات التي ينجم عنها مخدرات. وينص القانون رقم 673 (16 آذار 1998) وفي المادة 11منه على الآتي: "تحظر زراعة خشخاش الأفيون ونبتة الكوكا ونبتة القنّب وبصورة عامة جميع النباتات التي تنتج عنها مخدرات وذلك سواء كانت بشكل بذور أو في سائر أطوار نموّها. يلتزم مالك الارض أو من يقوم باستغلالها أو من يشغلها بأية صفة كانت بإتلاف النباتات المذكورة إذا نبتت فيها وثبت علمهم بالأمر تحت طائلة الملاحقة. وعلى نواطير القرى ومخاتيرها إبلاغ السلطات المختصة عن وجود نباتات نبتت أو زُرعت في محلّتهم فور علمهم بالأمر تحت طائلة المسؤولية. وفي حال زرع هذه النباتات تقوم النيابة العامة دون انتظار صدور الحكم على المخالف بإتلاف المزروعات بالطرق الفنية المناسبة بعد أخذ العيّنات وضمّها الى محضر التحقيق، وتحصّل وزارة المالية نفقات الإتلاف من المخالف وفقاً لأصول تحصيل الأموال الأميرية أو تضاف الى نفقات الدعوة في حال الملاحقة”.
المستغرب هو عدم تمييز هذا القانون بين مختلف الزراعات الممنوعة فزراعة الأفيون (الخشخاش) مثلاً تختلف كلّياً عن زراعة الحشيشة (القنب) والخصوصيات الجرمية كما الظروف الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى الامنية تختلف في كلتا الحالتين وتقتضي تعاملاً خاصاً، ليس في اطار تطبيق نص القانون فقط بل في المعالجة والتحقيقات الجنائية أيضاً، إذ إن بعض الباحثين يرون أن الهدف الرئيسي من زراعة القنب لا يكمن في استخراج المادة المخدرة التي يحتويها، بل في الاستفادة من أليافه وأحياناً من بذوره نظراً لقيمتها الغذائية العالية، إذ تحتوي هذه البذور على زيت أصفر غني بالأحماض الدهنية غير المشبعة، التي كانت تستخدم في الماضي وقوداً للقناديل، وكانت تدخل كذلك في صناعة الصابون. وإن كانت هناك دراسات علمية تقول بأن استخدام هذه المادة ليس فيه الضرر الذي يجري الحديث عنه عموماً، وأنه ليس من دراسة تقول بأن “متعاطي” الحشيشية سوف ينتقل حكماً الى الإدمان على بقية المواد المخدرة.
                                                                                                           عمر نشابة

لم يجد المزارعون في البقاع الشمالي سوى نبتة «الحشيشة» التي تورق «أموالاً» تكفل عيشهم وحياتهم اليومية. فالبطاطا لا «تورق» سوى المزيد من الفقر والعوز، والقمح لا يعطي إلا المزيد من الديون، وكل أنواع الخضر والفواكه لا يحصدون منها سوى «سيف» البنوك والمصارف المصلت على رقابهم في كل موسم زراعي، أو بالأحرى في كل مواسمهم الزراعية التي تنبت «كساداً» ووجعاً.
زراعة «الحشيشة» كانت الزراعة الوحيدة التي لا ترهق المزارع بالديون. إنها زراعة سهلة. فهي بعلية تنبت بين الصخور، وليست بحاجة إلى مبيدات ولا إلى عناية خاصة. فيكفي المزارع أن يرش كيلوغراماً من القنبز المخصص لأكل العصافير على دونم واحد من الأرض لينبت حشيشة تعطي «مالاً» وفيراً. فمنطقة بعلبك، على سبيل المثال لا الحصر، كانت تنتج أكثر من 180 ألف قنطار من حشيشة الكيف في السنة، تفوق قيمتها المالية الـ 250 مليار ليرة لبنانية. أما منطقة الهرمل فكمية إنتاجها تصل إلى 60 ألف قنطار تبلغ قيمتها 85 مليار ليرة. فيما يذهب خبراء إلى القول إن زراعة الحشيشة والاتجار بها درّ على لبنان سنة 1989 حوالى أربعة مليارات دولار. وفضلاً عن ذلك فإن حشيشة جرود الهرمل البعلية تعدّ أجود أنواع الحشيشة في العالم، بسبب طبيعة المناخ البارد الذي تعيش فيه.
هذا المال الوفير، لم تجد الدولة اللبنانية بديلاً منه منذ أن أخذت تقمع هذه الزراعة. فدوار الشمس في أواسط السبعينيات أعطى إنتاجاً وهمياً، وبرنامج «التنمية الريفية الشاملة» الذي أطلقته الأمم المتحدة في بلاد بعلبك ـ الهرمل في 1993 أو «الزراعات البديلة»، مني بفشل كبير رغم أن أبناء المنطقة التزموا بقرار الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي بوقف ومنع زراعة الممنوعات. فقد كانت بعثة الأمم المتحدة التي زارت بعلبك ــ الهرمل عام 1992 قد أعلنت أن الأموال المطلوبة لبرنامج الزراعات البديلة هو300 مليون دولار، وفي 1994 دفعت فقط 4,25 ملايين، ووضعت خطة لمدة 12 عاماً (1994 ــ 2006)، ولكنها لم تنفذ.
ومنذ 2001 وبعد فشل كل الزراعات البديلة، عاد المزارعون في بعلبك والهرمل إلى زراعة «الحشيشة» و «الأفيون» (الخشخاش) الذي تراجع لمصلحة الزراعة الأولى، لأنه الأسهل والأقل تكلفة. ولكن السلطة اللبنانية كانت تنظم سنوياً عمليات إتلاف منظمة تستمر لأسابيع، وآخرها العملية الجارية حالياً في جرود بعلبك والهرمل منذ أيام والمتوقع لها نحو 3 أسابيع حتى «تتلف» أكثر من 30 ألف دونم من «حشيشة الكيف».
تزرع نبتة «الحشيشة» في شهر نيسان من كلّ عام وتقطف في شهر ايلول، او تحديداً في عيد الصليب (14 ايلول)، ويعطي كل دونم من الاراضي المزروعة بـ«الحشيشة» اكثر من 45 كليوغراماً من المواد الجاهزة للترويج.
انطلقت عملية «الإتلاف» السنوية هذا العام متأخرة عن موعدها. فالعدوان الإسرائيلي لم يترك مجالاً للقوى الأمنية للقيام بحملة الإتلاف التي تحولت إلى تقليد سنوي يعرفه جيداً المزارعون الذين حفظوها عن ظهر قلب. فالدولة اللبنانية تقوم بزيارة سنوية «وحيدة» لهؤلاء المزارعين في جرود الهرمل المنسية أو تلال وهضاب دير الأحمر وجرود بعلبك وغيرها من المناطق الشمالية في سهل البقاع. غير أن الجدير ذكره أن مصادر متابعة في البقاع تحدثت عن أن السوق المحلية «مغرقة» بالحشيش التركي بسبب ندرة الحشيش اللبناني.
ويقول متابعون هنا إن المساحة المزروعة حالياً بالحشيشة لا تزيد على بضعة دونومات، فيما القوى الأمنية تتحدث عن مساحة تتراوح ما بين 25 إلى 30 ألف دونم، وأن القوى الأمنية لم تلق مقاومة من المزارعين، سوى بعض الطلقات النارية التي سجلت في أعالي جرود الهرمل، وهي طلقات متفرقة لم تؤثر في عملية الإتلاف المستمرة على ستة محاور.
لكن مصادر اخرى في البقاع تحدّثت عن استخدام المزارعين قاذفات صواريخ في مواجهة مع القوى الامنية اللبنانية خلال عملية الإتلاف في منطقة الهرمل.

عفيف دياب

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...