محنة المثقف في «الخندق الغميق» سهيل ادريس نموذجاً

10-04-2010

محنة المثقف في «الخندق الغميق» سهيل ادريس نموذجاً

هل المثقف كاتب عمومي رهينُ العادات والتقاليد، والاهواء والتسلط يصوغُ فيرفِّه، يروي فيزيل الملل والرتابة، يغرّد كبلبل طلق، فإذا ما نشَّز اقتنص فانتهى دوره، أم هو ضميرٌ ثقافي، وحالةٌ حضارية تستوجب الوقوف عندها بحيث تصبح قابلة للدسهيل ادريسراسة والبحث؟
والسؤال عن المثقف هو السؤال عن دوره بين متناقضات المجتمع وتحولاته، وإرادة هذا المجتمع في لعب دور ما في الحياة. لكن المثقف العربي سواء أكان في مشرقه ام في مغربه، هو ضحية معلنة، وقربان بارد لواقع مأزوم، اشبه بمتاهة لا حدود لها.
من هنا تبدو اشكالية "المثقف المأزوم" مجموعة متشابكة من الاشكاليات، وهي بذلك اشكاليات متعددة، متباينة، مختلفة، تحمل في داخلها خصوصيات هذا المجتمع او ذاك، وتراثه الثقافي، وتجربته مع الابداع والخلق الفني، وعاداته وتقاليده ومحاولته العبور نحو التطور وتحقيق الطموحات.
والذين درسوا سهيل ادريس "لم يفلحوا، او ربما، في جعلهم ادبه صورة مطابقة لحياته دائما، اذ ليس للفن وظيفة تصوير الحياة وتكثيفها فحسب، بل له ايضا عدة وظائف سيكولوجية اخرى، منها ان يكون علاجا نفسيا فيه تعويض او عزاء عن الواقع، او اكمال له، او فرارٌ منه.
ففي الوقت الذي غلبت فيه الانقيادية على معظم فصول رواية "الخندق الغميق" بدافع الاغراء حينا، والخوف احيانا، والاستلاب ومصادرة القرار احيانا اخرى، كانت ردات الفعل اللاشعورية تطفو على السطح لإثبات الذات من جديد.
فبعد أن غرق الفتى بإغراءات دينية ومادية، كانت تترى عليه، من هنا وهناك: المشايخ وجلوسهم على موائد اسبوعية في منزل والده – الشيخ – واحياؤهم لمجالس الذكر – وما لحضور رجل الدين عند اليوافع آنذاك – من مكانة ومهابة في احياء يعتورها الجهل والتعتيم – كل هذه العوامل كانت تذكي في نفسه احلام الطموح والسيطرة، وتزخر بالآمال التي لا يرجو اطالتها.
وثمة موقف اغرائي آخر حين كوفئ بقلم حبر مذهب لحفظه بعضًا من آيات القرآن الكريم. وما تشجيع والده الشيخ ولفه بعطفه ورعايته ومنحه مصحفا مذهبا إلا رغبة ملحة وفضولا لمعايشة جمعية العلماء. وهكذا غدت فرص الوصول الى الارائك التي يشغلها المشايخ اثناء الولائم، والمسايرة على قاب قوسين او ادنى فشاب قبل الاوان، وكأنه راح يحث الخطى ليقطع الطفولة موثبا، ويصل الى نهاية المطاف، فلقد اشعره هذا الجو المغري بعبثية طفولته، وسلخها، واستلابها. لذا كانت محطات الطفولة عنده نادرة، معدومة او تكاد، فهو لم يعش كبقية الاطفال، وكأنه دفع الى دس رأسه في العمامة دسًّا، وعلى حد قوله: فقد رأيتني، ولا زلت اتمثلني الآن، وأنا في الحادية عشرة تقريبا، قد ارتديت زيا دينيا لا يمكن معه ان يشعر الانسان إلا بالرصانة والرزانة، وتحمل المسؤولية.
ولعل هذه المهابة المشوبة من شخصية رجل الدين، كانت ممزوجة بعض خوف وهلع، جراء حادثة اصابته يوما، فعجلت به للتهافت على المشيخة. وهذا يعني، ان خوف الفتى وهلعه من زمجرة الشيخ الذي طارده سلباه حرية الاختيار، وأورثا في نفسه عقدة المشيخة، كمن يعالج مرضه على مبدأ: "وداوني بالتي كانت هي الداء". وهذا "فوزي" اخوه البكر يبادره ساخرا: انه عار عليك... عار على عمتك أن... تحب!
ويضيف الروائي في احدى مقابلاته لمجلة "المقاصد" قائلا: "ان ذكريات الطفولة كانت عندي مختلطة بذكريات دراستي الدينية، وفي بعض هذه الذكريات ما يحمل على روح الفكاهة الاليمة، فمن ذلك انه بسبب قامتي القصيرة، وارتدائي الزي الديني، كنت اشكل ظاهرة تلفت النظر اذا ما سرت في الشارع او جلست بين الناس".
ونحن يجب أن لا نغفل اثر البيئة العامة في تكوين شخصية "مثقف ادريس" وأثرها الادبي. اذ ان المحيط الفاعل في الانسان وانتاجه، انما هو مجاله النفسي. وعلى حد قول (جيلفورد) في "ميادين علم النفس": ان بيئة المرء الحقيقية لا يدخل فيها إلا ما له تأثير في خبرات الفرد الشخصية". ولا شك في ان للعوامل الثقافية دورا جليلا في تكوين شخصية "ادريس"، وتوجيه ادبه وفكره. ففي "الخندق الغميق"، يؤدي الشيخ "سامي" مثلا، الفرائض الدينية في اوقاتها، ولا ينسى ان يزور السينما مع رفاقه، الذين يتمادون في غيهم حين ينحرفون الى زقاق معتم مجاور للسينما، لا يعرف هو تماما، ماذا يوجد او يحدث هناك. فإذا كان المضمون الانساني لأعمالنا اليومية يفرض شكله المناسب، فإن الجبة والعمامة، لا مكان لهما – في ذلك الوقت على الاقل – في السينما، والصلاة والصوم لا يمنعانه من "الكذب" عند اللزوم لكن، يجب ان لا يفوتنا ان وراء هذا الانحراف مجموعة من التفاعلات التي تكدست ايام الطفولة جراء الترغيب والترهيب اللذين لحقا به، ودخوله في المشيخة.
وما الاسلوب الطاغي الذي جابهه به والده حينما حاول الهروب من حقيقة انحرافه هذا بقوله: لقد اصبحت وقحا... إلا نذير انطلاقة حرة جريئة للانعتاق والتحرر.
فتتبع الاهل ومطاردتهم له، والقهر الاجتماعي جعلاه يتوق للتمرد والثورة لأنه "موضوع الساعة، لا بل موضوع كل ساعة، موضوع الصراع المستمر بين جيل يشق طريقه، وجيل يسد الطريق".
ويقوّم ميخائيل نعيمة رواية "الخندق الغميق" بقوله: ولقد اندحر الجيل القديم في وجه الجيل الجديد ابشع الاندحار ومضى الجيل الآخر يشق طريقه الى حيث تدفعه اشواقه الملحة... فسهيل ادريس عاش اجيالا خلف سجف كثيفة من العادات القديمة والتقاليد المتحدرة من خلال "الخندق الغميق"، ينفتح بغتة على العالم الاوسع، فيدرك ان ما من مقدسات في الارض غير اشواق الانسان الى المعرفة، الى الانطلاق، الى الحرية. انتهى كلام نعيمة.
فصراع الاجيال يتجلى في اوضح صوره حين تشتد قبضة التقاليد على رقاب الناس، فلا تترك لهم خيارا في ملبس، أو مأكل، او اي وضع من اوضاع الحياة، فتضيق النفوس بهذه القيود كلها، فينفجر الشباب ثائرا، ساخطا بحيث لا يدع شيئا إلا حاول تغييره، فتتبدل الحياة والعلاقات الاجتماعية تبدلا جوهريا يقلب القيم القديمة رأسا على عقب. وباعتماد هذه الدراسة المبادئ النفسية اظهرت ان البيئة الثقافية كالبيئات الاخرى، لا تشكل سوى الاطار العام التي ستعالجها، وتكيفها طاقات ادريس النفسية، فتكشف هذه الدراسة كوامن عديدة كانت لا تزال قائمة في ادبه وفنه وفكره. فمحصلته الادبية والفكرية تضافرت على صياغتها طاقات نفسية وعوامل متأصلة جذورها في طفولته الواعية واللاواعية، وجهد ارادي متمثل بهدف معين. ان اول ضربة سددها ادريس كانت الى ذلك الزي الديني المحترم، الذي اعتبره المشكلة الكبرى التي تعترض سبيله في الحياة، والعبء الثقيل الذي يحول دون تحقيق احلامه ونيل امانيه. لقد رفض الاذعان لهذا الواقع، وعقد العزم على ان لا ينثني عن هدفه وأن لا يقف دون بلوغ غايته فقرر طلاق عقدة المشيخة (في نظره) الى غير رجعة.
مذ ذاك استشعر ادريس بلون جديد من السعادة، منشأه انه تحرر من ثقل زيه الديني فغدا حرا طليقا، لا يحد فضاءه اي افق ولا يثقل كاهله اي كابوس "فغدا خفيفا كالعصفور".
حمل سهيل ادريس جرحه ومشى. "فللمرة الاولى منذ ان بدأ يعي، شعر بقوة هذه الارادة التي تعصف بوجوده، وكأنه كان يولد من جديد، انه يريد ان ينسى حداثته وأصحابه، وبضع فتيات عبرن حياته بغموض، ليبدأ من اول الطريق انسانا جديدا يستلهم الحياة شخصية جديدة". وهكذا اراد ان يختبر العالم، فشعر بأن دائرة فضائه لا يحدها حدود، فحسبه ذلك الجمود الذي ملأ حياته بالروتين، وغشى فكره بغشاوة ما يني الغبار يتكاثف عليها فيفعم برائحتها انفه، ويضيق بنفسه وبالناس.
فمن زنزانة الشرق وعاداته، وقيوده المطبقة على عواطف الشباب وأهوائه وتطلعاته، انطلق سهيل ادريس الى ارجاء باريس وليون بما يتخللها من معالم الحضارة والحرية والانفتاح، مخلفا وراء تلك الصور البالية التي كان يعيشها في احياء الخندق الغميق وأزقته، عابثا بكل التقاليد التي كانت تحاول كبح جماح عاطفته وانطلاقه شابا في مقتبل العمر. فالذي كان يريده هو أن يضع حدًّا لحياته القديمة، فأي شأن هو شأنه في هذه الحياة؟ وأي قيمة كانت له في وطنه وقومه ومجتمعه؟
وجد نفسه ومن خلال تجربة روايته (الحي اللاتيني) شاهد عدل على الحياة الباريسية المتحررة التي كان يحلم، والتي ينطلق فيها الشباب الغض بجنسيه ملبيا نداء اعماقه، ومطلقا لنفسه العنان لا يحد حريته اي نظام او تقليد، ولا تفسدها اي هواجس، ولا يهيبها اي رقابة، "فاستطاع ان يجعل النفس الانسانية مسرحا للصراع بين بيروت وباريس، بين الشرق والغرب، الشرق بأديانه وأخلاقه وتقاليده وصموده ورغبته في التحرر، والغرب بحريته وتقدمه وثقافته ونزعته الاستعمارية ايضا".
انتقل ادريس فجأة الى اجواء باريس، فتاة في اهوائها، وهام في يمها المغري لمتطلبات عواطف الشباب، يريد اشباع رغبته المتعطشة. "كنت احس فيضا من الاسى يخيم على تفكيري، وكابوسا من الغم، والضيق يجثم على صدري، حتى وجدتني اتتبع كل طيف امرأة يلم بي".
لم تستطع اجواء باريس ان تخمد في نفسه العاطفة التي كان يكنها لأمه او تخفف اوارها فكان طيفها لا يفارقه، وان سها غير مرة عن ان يبعث العزاء في نفسها، وهي التي تحملت اعباء طفولته وما لحق بها من متاعب، لما قاسته من قهر وتنكيل من قبل والده (الشيخ) ولما عانته ايضا اثناء منحه وشقيقته نوعا من الحرية الشخصية. "فحدس امه لا يفارقه، فتراه مرارا يتصور طيفها امامه تحدثه كالعادة، وكأنها تعلم بما اصاب قلبه وحبه، وتحذره من ان يعقد علاقة بينه وبين اي امرأة فرنسية تدحض بحججها وحركاتها كل ما يفكر به".
وأخيرا: نسمع الكاتب يسأل نفسه: وهل هناك اصدق وأنبل من الادب الذاتي في محاكاة النفس الانسانية ومعالجة قضاياها؟
"فماذا تريدنا ان نكتب نحن ممتهني الحرف والكلمة، ان لم نكتب قصص حيواتنا وأهلنا وأصدقائنا؟ وهل هناك اصدق وأروع من "الادب الذاتي" الذي ينبع من صميم النفس ليتسع صدقا وانسانية"؟
 
د.أحمد سرحان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...