عجباً لمن يقبل تمويلاً ويرفض شروطه!

07-04-2006

عجباً لمن يقبل تمويلاً ويرفض شروطه!

احتفظت بالصفحة التي كتبتها سوسن الأبطح في ملحق «المنتدى الثقافي»، 23/11/2005، تحت عنوان «فنانون ومثقفون يطالبون بإنقاذهم من شروط الممولين الغربيين»، والذي غاظني بعد ذلك، هو التعميم الذي ورد في العنوان المكمل: «ماذا بقي للعرب بعد أن باعوا ثقافتهم بالدولار؟». كان المفروض أن يكون القول: «ماذا بقي لهؤلاء.. » وليس لـ«العرب»، فإذا كان هناك من يقبل أو يطلب أو يسعى لتحصيل «التمويل»، من أي جهة، ولأي سبب حقيقي أو مزعوم، فليس معنى ذلك أن أمة العرب «كلها» قد باعت ثقافتها، فهناك الكثير الذي يرفض العلاج على حساب الدولة، دولته، حتى وإن كان هذا من حقه، لأن القرارات لا تصدر بـ«الحق»، وإنما بـ«الولاء».
الذي أضحكني، من شر البلية، ما سجلته سوسن الأبطح من استغاثات لبعض الفنانين، الذين قبلوا تمويلات من جهات أجنبية، يشتكون: «المانحون يجعلوننا جزءاً من مشروعهم التنموي، هذه السنة يجب أن نتكلم عن الجندر، والسنة المقبلة عن المعاقين.. يصعب على واحدنا أن يضبط نفسه مع إيقاع الممولين، يقال لنا إنه فن في خدمة التنمية، أين قيمة الخيال والتعبير عن المتعة.. مجتمعاتنا لا تنمو وإنما تنمّى..»! يا سلاااام!
أأقول: ما كل هذه الرقاعة، أم: ما كل هذا «الاستهبال»؟ من حق «المانح» أن يشترط، ومن حرية «طالب المنحة» أن يرفضها، فأين القهر الذي يبرر الشكوى؟ ثم: ما هو الباعث الذي يدفع فناناً أو مثقفاً لكي يمد يده ويتسول «منحة»؟ المسرحي الذي يبحث عن «قيمة الخيال» أمامه فنية «المسرح الفقير»، التي من أصولها «الاستغناء»، ليحقق إطلاق سراح تعبيره متعالياً على الخضوع للشروط وقيودها وفخاخها، والمثقف الذي لا يريد أن يكون ترساً في عجلة «مشروعات» لا يرضاها، أمامه ابتكار مشروعه الخاص وإلا فلا!
فيما مضى كان هناك «شعراء البلاط»، الذين أسسوا في تراثنا الشعري باب «المديح» وباب «الهجاء»، بالنهاية كانوا يقفون على عتبات حكامهم وأصحاب السلطة في بلادهم، يمدحونهم، صدقاً أو كذباً، بأنهم قد حققوا لناسهم الرخاء والهناء والفوز على الأعداء، يعني أنهم كانوا يؤكدون على القيمة المشتركة، المتفق على إعلائها، بين الحاكم والمحكوم، ومع ذلك فمن ذا الذي احترم يوماً «شاعر بلاط»؟ نذكر مما قاله «المتنبي» وهو «يمدح» كافور الإخشيدي، راغباً في عطاياه: «وما أنا بالباغي على الحب رشوة.. ضعيف هوى يُبغى عليه ثواب»، ثم قوله: «وإن مديح الناس حق وباطل.. ومدحك حق ليس فيه كذاب. إذا نلت منك الوُدّ فالمال هين.. وكل الذي فوق التراب ترابً. الطريف أن المتنبي، رغم الحكمة في قوله، كان أكبر مخالف لها! فبعد أن تأكد أن كافور «جوده من اللسان»، هجاه قائلاً: «لا شيء أقبح من فحل له ذكر.. تقوده أمة ليست لها رحم»! وظل المتنبي، وقد وضع نفسه في خانة العبيد ـ بطلبه التمويل ـ يدعي الحرية: «حصلت بأرض مصر على عبيد.. كأن الحر بينهم يتيم». وهذا، وغيره، من هجاء المتنبي لكافور، سببه أن كافور لم يعطه مليماً، أو درهماً، أو سحتوتاً، ولم يخش لسانه الحاد، وعبقريته الشعرية في الهجاء «العنصري»، قليل القيمة في الأخلاق، وإن أصبح من «عيون» الشعر العربي، مما يثبت أن الإبداع الفني ليس فضيلة في كل أحواله. والحقيقة أنني من أشد المعجبين بموقف كافور الإخشيدي، لأنه صمد أمام نفاق المتنبي، ولم يفتح خزائن مصر، المؤتمن عليها، ليتقي شر شاعر جاء يمدحه من تحت ضرسه، لقاء أجر. ولقد اتهم الموالون للمتنبي والمؤرخون كافور بأنه: «استمال العبيد وأفسدهم على ساداتهم» و«... لا يصفو قلبه إلا لعبد كأنه يطلب الأحرار بحقه...» ولم لا؟ ألا يحق لكافور، بعد كل الإذلال الذي لاقاه من «الأسياد» المحقرين له، بسبب لونه وجنسه، أن ينتصر لمن استشعر لهم الظلم؟
مدح المتنبي كافور قائلاً: «قواصد كافور توارك غيره...» وحين نهض كافور ليلبس نعله رأى أبو الطيب، غير الطيب، شقوقاً بقدميه استغلها في شتمه، حين انقلب عليه، قائلاً: «تظن ابتساماتي رجاء وغبطة.. وما أنا إلا ضاحك من رجائياً. وتعجبني رجلاك في النعل إنني.. رأيتك ذا نعل إذا كنت حافياً. وإنك لا تدري ألونك أسود من الجهل.. أم قد صار أبيض صافياً. ويذكرني تخييط كعبك شقه.. ومشيك في ثوب من الزفت عارياً. ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة.. ليضحك ربات الحداد البواكيا». والذي أراه أن «كافور» كان ذكياً، عالماً، وليس جاهلاً بدوافع المتنبي وأمثاله، فحين كتب إليه المتنبي يستأذنه في المسير إلى الرملة، بحجة إنجاز مال له بها، أجابه كافور: «لا والله ما نكلفك المسير لتنجز مالك، ولكنا ننفذ رسولاً يقبضه ويأتيك به في أسرع مدة، ولا نؤخر ذلك إن شاء الله». وكان من الطبيعي أن تملأ هذا الإجابة، الداهية المتهكمة، المتنبي بالغل والغضب. المتنبي شاعر عظيم لكنه، مع ذلك، منحط إنسانياً، أما كافور الإخشيدي، الذي رفض تمويله و«بعزقة» أموال الخزينة المصرية، فيقول عنه قاموس المنجد باختصار:" مملوك أسود اشتراه محمد الإخشيدي، واستوزره، قبض على زمام الأمر في مصر وسوريا وانتصر في الحروب. قصده العلماء والشعراء، مدحه المتنبي. توفي بمصر سنة 968 ميلادية".
ولا أدري لماذا لم يشر القاموس إلى هجاء المتنبي، الذي قتل في الطريق إلى بغداد سنة 965 ميلادية، قبل وفاة كافور بسنوات ثلاث.

 

صافيناز كاظم
المصدر : الشرق الأوسط

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...