رحلة في سوق لوبية: المكان الذي تتزاحم فيه الأحلام والأقدام

26-06-2006

رحلة في سوق لوبية: المكان الذي تتزاحم فيه الأحلام والأقدام

الجمل: تحقيق -سعاد جروس: فاق تلَهفْ عمر للذهاب إلى شارع لوبية في مخيم اليرموك، مجرد الرغبة بالحصول على بنطلون جينز آخر موضة بنصف السعر، الفضول كان دافعه الأول للتعرف على سوق شبابي يسمع عنه من أقرانه الأقاويل عن أسعاره المخفضة، والموديلات الحديثة التي لا يحظى بها  أوسع وأكبر الأسواق الدمشقية. فضلاً عن سوق الأقراص الليزرية المضغوطة لموسيقا الراب والميتال. تلك أسباب وجيهة، ليلح عمر ذو الخمسة عشر عاماً على والده ليوافق على ذهابه مع أصدقائه إلى مخيم اليرموك، لابتياع ملابس من شارع لوبية. حجة الوالد في رفض الطلب، ألا توجد تلك البضائع في القصاع؟ السوق الذي يقطنون في محيطه. نعم، توجد لكن في لوبية الأسعار بنصف القيمة، بل ويمكن المفاصلة والحصول على على أسعار مدهشة.
هذا عدا مراعاة أمزجة الزبائن. فمثلاً، بالنسبة إلى ألبومات الموسيقا والغناء، يدعك البائعون تجرب السي دي حتى الصباح، وإذا لم يعجبك لا تشتري. في الأسواق الفخمة، البائع غالباً ما يكون نافد الصبر جداً، وقد يضجر من أول مرة تطلب منه تجريب السي دي، أو عرض أكبر كمية ممكنة من الملابس، حكمتهم "اللي ما منو خير تركو خير" .
"تشخيص"
بمجرد الوصول إلى مخيم اليرموك جنوبي دمشق، والتوجه نحو شارع اليرموك الرئيسي سيبتلعك السيل البشري، واجهات المتاجر الأنيقة تحتل جانبي الشارع العريض، خلف واجهاتها باعة موظفون وزبائن شباب أغلبهم حريص على مظهره، اناقة مميزة وتسريحات مغمسة بالجل وعطوارات فواحة، مع عدم إغفال إبراز أجهزة الموبايلات بحركات استعراضية، يصطلح عليها الشباب بتعبير "التشخيص"  تستكمل بعرض القدرة على المفاصلة والحصول على مبتغاهم. البائع يبيع بسعر معقول يعتمد على أسلوب ربح أقل وبيع أكثر، والشاري ينشد سعراً لقطة، لم يقطع هذه المسافة الطويلة إلا ليحصل عليه.
على الأرصفة، يكتمل المشهد أمام المحلات، بسطات على مد النظر بمثابة سوق مصغر على هامش السوق الأكبر، بضائع متنوعة: ملابس حسب التعبير الدمشقي مكومة من البابوج إلى الطربوش، بجوار الهدايا والتذكارات، ألعاب أطفال، أقراص مضغوطة ( أغاني، أفلام، ألعاب، برامج وغيرها) جنباً إلى جنب مع الأدوات المنزلية، والشراشف والملاءات... إلخ  يحرسها باعة بؤساء، بسحنات مسمرة، وقسمات شقية. الزبائن أغلبهم من ربات البيوت والاطفال يقلبون البضاعة ويتجادلون حول الأسعار، قد تنتهي بإتمام البيعة، أو برمي البضاعة وانتظار نداء أخير من البائع يستجيب فيها لرغبة الزبون.

تزاحم الأقدام
المشهد لا يختلف كثيراً في شارع لوبية، أحد أفرع الشارع الرئيسي. المحلات تبدو مكتظة أكثر، في شارع ضيق نوعاً ما، وأرصفة تتضاءل مساحاتها تحت تزاحم الأقدام، حيث يكثر الرزق. المعروضات يغلب عليها ملابس السبور الشبابية بألوان الصيف القادم. كتل بشرية  يختلط فيها سكان المخيم مع زبائن وافدين من الأحياء الدمشقية البعيدة، تتحرك ببطء ودأب، تمور في محيط تطغى عليه ذكورة تتحدى مظاهر الفقر والقهر، وتتحايل عليها بمتابعة آخر صيحات الموضة.
ثمة شاب 17 عاماً، جاء من حي القصور الراقي والهادئ، جال غالبية المحلات بحثاً عن بنطال جينز يتميز بإهتراء جيوبه الأمامية، لقد شاهد أحد المغنين الأجانب المفضلين لديه يرتديه، لم يجد ضالته، لكنه نال وعوداً قاطعة من الباعة بتأمينه بعد ايام معدودة، إن لم يكن مستعجلاً. في غرفة القياس، وقف محمد رافعاً الستارة يجرب بنطالاً، ويستعرضه أمام فتاتين اصطحبهما ليستعين برأيهما. صاحب المحل انصرف لتلبية طلبات شبان آخرين ضاقت عليهم مساحة المحل الصغيرة، واحد يسأل عن تي شيرت بادي سوداء ، وآخر عن قماط رأس قطني، وثالث عن جاكيت جينز أسود ... أشخاص وقفوا خارجاً يدققون النظر في البضائع المعروضة، ويسألون عن حاجتهم من عند الباب.
يوم الحشر
سر الإقبال على هذا السوق من قبل الباعة، يوضحه أحد القاطنين في مخيم اليرموك، يسعى التجار إلى هذه المنطقة ليستثمروا الاكتظاظ السكاني الكبير فيها، بطرح بضائع نخب ثاني وثالث، تماثل من حيث الشكل النخب الأول، تلبية لحاجة محدودي الدخل، حيث لا يتجاوز دخل الفرد في المخيم  1200 دولار سنوياً، كما يتم التركيز على مراعاة أذواق واحتياجات الشريحة الأكبر المتمثلة بالأطفال والمراهقين في مجتمع فتي بالمقاييس الديموغرافية، إذ تبلغ نسبة الأطفال فيه خلال الفترة 2000 ـ 2002 بنحو 43.2 % .
تدني الأسعار في سوق لوبية، كفل له ذيوع صيته في كافة أرجاء دمشق، فراح يقبل عليه الراغبون من كل حدب وصوب. سائق تاكسي جديد على الكار، ضل الطريق ودخل سوق المخيم، شغلته الدهشة من الزحام الكثيف وامتداد سوق بدا له بلا نهاية، تورط ولم يعد يعرف كيف يخرج، كأن سكان دمشق احتشدوا فيه. أخذ يسأل، شو صاير اليوم؟ ليش كل هالعجقة؟ رد أحد المارة بسخرية، ما بتعرف أن اليوم يوم الحشر.
حي وحيوي
مجتمع اللاجئين في سورية، حي وحيوي بكل معنى الكلمة، يسعى لتحسين واقعه المعيشي ومستواه التعليمي رغم الظروف الصعبة، فمعدلات التعليم بين الكبار تتعدى نسبة الـ70 %. فقد لعبت الأونروا دوراً في التعليم الأساسي بنشر خدماتها، وسهولة الانتساب إلى المرحلة الثانوية والجامعية حيث يعامل الفلسطيني كالسوري تماماً، ولا تتعدى كلفة التسجيل والكتب الجامعية في السنة الجامعية الواحدة 100 دولار.
مناطق المخيمات، وتحديداً مخيم اليرموك، ذات طابع شبابي، يتميز باستهلاك نهم، لما تطرحه الاسواق المحلية من بضائع تقلد ماركات مشهورة تروجها سوق عالمية تجد في قطاع الفضائيات والانترنيت سبيلاً لعبور إعلاناتها إلى مجتمعاتنا، وإذا عرفنا أن مخيم اليرموك من أهم المناطق في دمشق، التي تنتشر فيها معاهد خاصة للتدريب على استخدام  برامج الكومبيوتر، نستطيع تفسير سر ازدهار سوق الكومبيوتر، فالشباب يعتبرون ما تطرحه السوق من الأساسيات لا الكماليات، عدا عن تشجيع الحكومة السورية على استخدام الكومبيوتر عبر دورات تدريب برسوم رمزية لا تتجاوز  300 ليرة (6$) تقريباً، هذا ناهيك عن أندية للرياضة، وأخرى لتعليم الموسيقى، في وقت تكاد تنعدم فيه الأندية المشابهة في مخيمات أخرى مثل خان الشيخ، وخان ذي النون، وسبينة.البعض يعزو أسباب ذلك إلى تركز المقاومة الفلسطينية في مخيم اليرموك عندما كان لها مكاتب في دمشق، وهو ما جعل أبناء اليرموك موضع حسد من أقرانهم في المخيمات الأخرى ما عزز في نفوس شباب اليرموك إحساس التفوق. إذ  لا يعتبر مخيم اليرموك جنوبي دمشق، في عداد المخيمات التي تديرها الأونروا، رغم انتشار الخدمات الصحية والتربوية فيه، فهو يدار عبر إدارة محلية في بلدية اليرموك تابعة لوزارة الإدارة المحلية. اتساع المخيم وتنظيمه وواقعه الخدمي، بالإضافة لكون معظم اللاجئين فيه وفدوا من المدن الفلسطينية، يمنحه مواصفات المدن الصغيرة إذ يضم أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين في سوريا، وعددهم يقارب  (130) ألف لاجئ وفق دراسات خاصة، وأقل من ذلك بقليل وفق مؤسسة اللاجئين والأونروا.
وطن مؤجل
 يعيش سكان اليرموك كباقي سكان المخيمات في سورية، ضمن تجمعات وفق قرية أو مدينة المنشأ في فلسطين. فنجد في اليرموك تجمعاً لأهالي قرية لوبية، وتجمعاً لأهالي قرية صفورية، حارة الطيرة، حارة بلد الشيخ، وحارة عين غزال، في محاولة رمزية تستعيد جغرافية الوطن المفتقد في واقع ووجدان لاجئين يتمسكون بحق العودة، ويتعهدون بتوريثه لأبنائهم. عدا الرموز الفلسطينية المنتشرة في كل مكان، شكلات مفاتيح واكسسوارات تحمل شكل خارطة فلسطين، شعارات المقاومة، العلم الفلسطيني، الكوفية، حنظلة (توقيع الفنان ناجي العلي)، ومؤخراً ملصقات صور الشيخ أحمد ياسين في كل ركن وزاوية، لترسم وجه وطن مقاتل ومؤجل، تتألق بألوان حماسية تتوهج بالدم والتراب الفلسطيني. هذه المظاهر تجعل من مخيم اليرموك وطناً مؤقتاً للفلسطينيين، رغم الاستقرار الطافي على السطح، وهو سبب إضافي  يجعل من السوق، موقعاً مثالياً لرواج بضائع تعتمد على ذوي الدخل المحدود من العمالة الفلسطينية التي غالباً ما تسعى للعيش يوماً بيوم على أمل العودة.
 في دراسة خاصة، بينت استطلاعات الرأي على عينة من 200 فلسطيني، أن 98 % من لاجئي سورية يحبذون العودة إلى منطقة المنشأ في فلسطين التي هُجروا منها عام 1948 في حال أثمرت الاتفاقيات.  ونسبة 1 %  فقط لا يرون مانعاً من العودة إلى مناطق محررة من الضفة والقطاع. بينما 99 في المائة من إجمالي الذين شملهم الاستطلاع رفضوا من حيث المبدأ أي مشروع للتوطين أو التجنيس أو التهجير, ورأوا أن حق العودة هو المدخل الأساسي لتحقيق السلام.
أحلام في السوق
الحلم قائم، والسوق يستفيد من الحلم، فلا يرغب أحد بإدخار القرش الأبيض لليوم الأسود، إذ ليس هناك يوم اسود بعد نكبة 48، والنكبات التي توالت بعده دونما انقطاع. وإذا كانوا ينتظرون يومهم الابيض بفارغ الصبر ويلونون الطريق إليه بالمقاومة والصمود، فقروشهم القليلة لا تعني الكثير بالنسبة إليهم، فتذهب إلى الباعة الذين ساهم إقبالهم على سوق المخيم في رفع اسعار العقارات التجارية إلى درجة اصبحت فيه تتساوى، إن لم تتفوق على نظيرتها في اسواق دمشق العريقة كالصالحية والحمرا والقصاع وحتى الحميدية.
أنس شاب ابن تاجر معروف في الصالحية غامر بتسعة ملايين ليرة سورية لشراء محل خمسين متر من طابقين في شارع لوبية، اصدقاء والده نصحوه بعوائد جيدة واستثمار مجزي وسريع، فالرزقة هناك كبيرة وافضل من الاسواق الأخرى، إلا أن أنس لم يصمد أكثر من ستة اشهر اضطر فيها لبيع المحل بخسارة، ليجنب نفسه الافلاس. يقول تحكم سوق المخيم الفهلوة واللعب بالبيضة والحجر، ولا تقاليد أخلاقية للمهنة؛ كنت أجلب ألبسة نسائية نخب أول، وجاري يضارب علي ويبيعها نفسها بسعر الكلفة، علمت لاحقاً أنه يأخذ الموديل والقماش ويفصله على حسابه. بالإضافة إلى أن المفاصلة داء لا محيد عنه، يجبرك على البيع بأقل ربح. أحياناً كنت أخشى من تعنيف الزبائن وفظاظتهم في المجادلة، فلا أبيعهم، وإذا بعت فبالخسارة. هذا إذا لم نتكلم عن المفاجآت السيئة التي يحملها ازدحام البشر، كالتعرض للسرقة، فقد سرق من محلي سيري كامل من ستة قطع دون أن أشعر ، هذا عدا النشل. يصمت انس، ثم يستأنف: كانت تجربة فاشلة بكل معنى الكلمة.
أسرار الشهرة
التجربة السيئة التي خاضها أنس سببها عدم انسجامه مع طبيعة السوق، وعدم قدرته على فك شيفرة التعاطي التجاري، فهناك أكثر من تاجر اعتبر سوق المخيم مثالياً للبيع بكميات كبيرة، تعوض ضآلة الربح، والكثير من شركات الألبسة الجاهزة الحاصلة على امتيازات عالمية افتتحت فروعاً لها في المنطقة، وأصبحت تعتمد على سوق المخيم لتصريف فائض كميات بضائعها بأسعار مخفضة؛ القميص النسائي المسعر بـ 1500 ليرة(30 $)  يباع بـ550 ليرة، (11$) ومع ذلك لن تدفع الزبونة أكثر من 500 ليرة، لأن المفاصلة أحد تقاليد شارع لوبيا الراسخة، مهما كانت التخفيضات محددة والسعر محدود.
في شارع اليرموك، لا بد من التوقف عند محل حلويات، لتناول الهريسة والمعجوقة في فرع افتتح حديثاً، يبدو أنه الأكبر بين الأفرع الأخرى المنتشرة في كافة أنحاء دمشق. على الرصيف، أحذية رياضية معروضة، وسيدة  تتفحص واحداً منها، بعد أن سألت عن سعره، الذي لم يتجاوز 275 ليرة سورية، ابنتها 16 عام كانت تشجعها على شرائه وتهمس بأذنها خشية أن يسمعها البائع، هذا الحذاء في سوق آخر، لا يقل ثمنه عن 1000 ليرة رفعت السيدة ترفع متوجهة نحو البائع.
" هل تبيعه بـ 150 ليرة؟"
" رأسماله 200 ليرة، ماشي الحال هاتي  225 ليرة."
"لن أدفع غير 150"
"  نقسم البيدر بالنصف هاتي 175 "
تتردد السيدة قليلاً، ثم تخرج على مضض محفظة النقود الصغيرة، وينصرف البائع للبحث عن كيس لوضع الحذاء.
هل كانت الصفقة رابحة؟ تجيب السيدة، ليس تماماً، الغالي حقه معه، هذه بضاعة ستوك، لكنها تُمشّي الحال شهر، أو شهرين، ليس المطلوب أكثر، الموضة تتسارع وتتبدل من موسم لآخر.
  ربما هذا سر آخر من أسرار شهرة شارع لوبية.
 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...