تمكين النساء في القرار الأكاديمي

31-10-2007

تمكين النساء في القرار الأكاديمي

لا تفصل مسافة بعيدة، قصر الملك فاروق في منطقة «المنتزه»، حيث تجاور حدائق كثيرة الأشجار فائقة التنظيم ما يشبه الخليج البحري المزدوج على شاطئ مدينة الاسكندرية، عن فندق «هالينان فلسطين» الذي استضاف وجوهاً كثيرة ممن دعتهم «مكتبة الاسكندرية» الى المساهمة في مؤتمر «المرأة في العلم» يومي 23 و24 تشرين الأول (اكتوبر) الجاري. وامتد خط وهمي بين ذلك القصر، الذي لا تُخطئ العين الفن المبذول بذكاء في هندسته، وبين المبنى المُرَكّب لـ «مكتبة الاسكندرية»، وقد بات معلماً أساسياً في المدينة وخيالها بفضل أشياء كثيرة منها الذائقة الفنية القوية في هندسته أيضاً. والأرجح أن الخط الخفي بين القصر والمكتبة، اللذين يقعان في منطقتي «المنتزه» و»الشاطبي» على التوالي، لا يقتصر على الفن المعماري بل يمتد إلى الأخيلة التي يرسمها التاريخ وما يتضمنه من تقلّب في الثقافة والمجتمع وأحوالهما. يسهل القول أن ثمة ذائقة ملكية، بل امبراطورية، تهيمن على مدخل مبنى «مكتبة الاسكندرية»، تأتي من الآثار الفرعونية (وهيروغليفيتها) والتماثيل الرومانية التي تسيطر على المدى البصري لذلك المدخل.

نظّمت المكتبة المؤتمر ضمن احتفالها بمرور 5 سنوات على تأسيسها، فتقاطع مع نشاطات مثل المؤتمر الهندسي الذي نسّقته مع «مؤسسة الآغا خان» إذ كُرّمت ذكرى المهندس المصري حسن فتحي، إضافة الى مَعرِضَيْ «ألف امرأة للسلام» و»55 شخصية نسوية في الشرق الأوسط» وغيرها.

وفي يومه الأول، حَلّ المؤتمر العلمي- النسوي ضيفاً على فندق «الرينيسانس» في منطقة «سيدي بِشْر» وهي مكان كأنه وسط بين «المنتزه» و»الشاطبي» على شاطئ الاسكندرية المتوسطي. وانتقل المؤتمر إلى مبنى المكتبة في اليوم الثاني. وبقيت اللغة الانكليزية لسانه في اليومين، ربما بسبب المشاركة العالمية الكثيفة فيه.

وساهمت في مداخلاته نساء تألّقن في العلم عالمياً وعربياً مثل نينا فيدروف (اختصاصية في الجينات ومستشارة العلوم في وزارة الخارجية الأميركية) ورفيعة غباش (رئيسة «جامعة الخليج العربي») وفرخاندة حسن (استاذة الجيولوجيا في «الجامعة الأميركية» في القاهرة) وفريدة علاقي (الاختصاصية الدولية في شؤون التنمية) ومنى مرعي (رئيسة «مختبر هندسة الأنسجة» في جامعة الاسكندرية) وسيري سينداشونغا (المنسقة الاقليمية لـ «المركز الدولي لبحوث الغابات») وسودها نير (مديرة المركز الأيكولوجي في «مؤسسة سواميناثان للبحوث») ومانجو شرما (المستشارة في مؤسسة «مستوك كلوب» الهندية للتعليم) ومارسيلا فيلاريال (رئيسة قسم «المساواة والجنوسة والتنمية» في منظمة «الفاو») ومارغريت كارتلي كارلسون (رئيسة مؤسسة «المشاركة في المياه» الدولية) وسينثيا شنايدر (استاذة التاريخ في جامعة «جورج تاون» الأميركية) وكريستين بيرنيل (استاذة الهندسة التحليلية في «معهد الفنون والمهن» في باريس) وغيرهن. كما شهد المؤتمر اجتماعاً خاصاً لـ»الشبكة العربية للمرأة في العلوم والتكنولوجيا» Arab Network for Women in Science & Technology، واختصاراً «أنوست» ANWST، التي انطلقت في مطلع شباط (فبراير) 2005، في البحرين. وحضر الاجتماع رفيعة غباش ومشاعل بنت محمد السعود (استاذة في «معهد بحوث الفضاء» في «مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا») والباحثة اللبنانية روز- ماري البستاني، وشارك فيه العالِم المصري الشهير فاروق الباز، الاختصاصي في جيولوجيا الفضاء في جامعة «بوسطن» الأميركية. واختتم المؤتمر أعماله بكلمة من المصرية الأولى السيدة سوزان مبارك، سبقت الاجتماع الخاص لشبكة «أنوست».

ومن الممكن القول أن الفكرة الأساسية التي ربطت المداخلات المتنوعة للمؤتمر تتمثل في أن المرأة عانت تمييزاً قوياً ضدها في الحقل العلمي، بأثر من عقلية ذكورية وضعتها دوماً في موضع الأدنى ما أدى الى تهميشها تاريخياً، كما أن ذلك التمييز (والعقلية المرتبطة به) مازال قوياً راهناً وحاضراً (وبتفاوت نسبي) شرقاً وغرباً، وأن عمليات كثيرة في الحداثة، مثل التوسع في تعليم النساء ودخولهن الى مجالات العمل والبحوث العلمية وحضورهن في الأوساط الأكاديمية، لم تفلح في إيصال المرأة الى وضع يرفع عنها الظلم الذكوري في العلم. والمعلوم أن الأمم المتحدة، مثلاً، أقرت مبدأ المساواة بين الجنسين في ميثاقها الأساسي عام 1945.

والأرجح أن التقرير الإرشادي الصادر عن «المجلس المشترك بين الأكاديميات» InterAcademy Council عام 2006 في هذه المسألة، يلخّص هذه الوجهة التي ترى الحل في تمكين المرأة من المشاركة المتوسعة في العلوم والتكنولوجيا وبحوثهما، مع تشديد قوي على ضرورة وصول النساء الى موقع القرار في المؤسسات العلمية والبحثية والأكاديمية كجزء من ضمان المشاركة الفعلية للمرأة في العلوم. وأطلق المؤتمر الاسكندراني النسخة العربية من ذلك التقرير، بعنوان «المرأة والعلم»، التي أعدتها «مكتبة الاسكندرية» بترجمة من أحمد فؤاد باشا.

ألقت علوم الجينات ظلالاً قوية على مجريات كثير من نقاشات المؤتمر الاسكندراني. والأرجح ان العلاقة بين المرأة والجينات أقوى مما قد يبدو ظاهراً، ويبدو ذلك خصوصاً عند استعراض المنجزات القوية لعلوم الجينات، مثل الاستنساخ والجينوم وخلايا المنشأ وتجميد البيوض الانثوية والحمل في أرحام بديلة وغيرها.

تحدثت اختصاصية علوم الجراثيم، الهندية سودها نير، عن تجربة «بيوبارك» في منطقة «شاناي» في الهند، الذي ينسق عمل المرأة في مجالات متصلة بعلوم الجينات مثل الزراعة والأغذية والنباتات وغيرها. وركّزت على ضرورة الحفاظ على التنوّع البيولوجي Biodiversity، وبالتالي على الجينات التي تزخر بها الطبيعة. وشدّدت على أنها لا تتردد في تأييد المنتجات المعدلّة وراثياً Genetically Modified Organisms، التي يشار اليها بمصطلح «جي ام او» GMO، إذا ثبت عدم خطرها العالي على الطبيعة والبشر. ولذا أبدت قلقها من المخاطر العالية لتلك الأطعمة، فمثلاً فقدت منطقة «أريا» 65 في المئة من التنوّع الجيني بسبب انتشار النباتات المُعدّلة وراثياً التي تنتجها شركات مثل «مونسانتو» الأميركية. والمعلوم أن تلك النباتات تُعدّ بطريقة تموت فيها عند نهاية كل محصول، ما يضطر المزارع للعودة الى الشركات لشراء البذور المُعدلة وراثياً بصورة مستمرة، وكذلك فإن انتاج البذور في المصانع يؤدي الى تكرار النمط الجيني ذاته مع ما يحمل ذلك من خطر على التنوّع البيولوجي.

وكذلك رأت نير أن الهند تضم تنوعاً بيولوجياً فائق الغنى، ما ينفي الحاجة الى استخدام النباتات المُعدّلة جينياً وبذورها. وبدت أفكار نير بعيدة عما ذهبت إليه الاختصاصية الأميركية في الجينات نينا فيدروف، مؤلفة كتاب «ماندل في المطبخ» والمتحمسة بشدة للبذور المُعدّلة جينياً. وفي نقاش معها في مكتبة فندق «رينيسانس»، خففت فيدروف من شأن الأخطار التي يحملها التلاعب الجيني، بل اعتبرت ان عبور الجينات بين الأنواع المختلفة هو «امر طبيعي ويحدث دائماً». والمعلوم أن ذلك العبور يعتبر من الأخطار الأساسية للنباتات المُعدّلة جينياً، لأنها تهدد التوازن الطبيعي المستمد من التفاعل المستمر بين الكائنات المختلفة على مدار آلاف السنوات. وعندما وضعت الأمم المتحدة ميثاق قرطاجنة عام 2002 لحماية التنوّع البيئي، أشارت الى عبور الجينات بين الأنواع باعتبارها من أشد الأخطار المتصلة بالمنتجات المُعدّلة وراثياً! وعلى رغم ذلك، أصرت فيدروف على التقليل من خطر تلك الظاهرة، كذلك اعتبرت أن استخدام العلم يتضمن دوماً نوعاً من الأخطار بسبب عدم اكتمال المعرفة العلمية بصورة دائمة. فماذا لو أن الأمر يتعلق باستخدام الطاقة الذرية مثلاً، هل يمكن القبول بأن القنبلة الذرية هي جزء من الأخطار المقبولة لذلك العلم؟

لم تتردد الأفريقية سيري سينداشونغا، التي تحمل دكتوراه في العلوم البيولوجية، في استحضار الأخطار الكبيرة للمنتجات المعدّلة وراثياً. وأشارت الى أن سبب الخطورة واضح، إذ يرجع إلى أن هذه المنتجات تصيب الجينات التي هي أساس الكائنات الحيّة. ولم تتقبل سينداشونغا، التي وُلدت في راوندا لأبوين من قبيلتي «الهوتو» و»التوتسي» المتناحرتين، فكرة التقليل من شأن تلك الأخطار. وفي صورة تعكس حضور الفكر النسوي في العلم، شدّدت على أهمية التنوّع والحفاظ عليه، سواء في الطبيعة وكائناتها أم في المجتمعات الانسانية. وأعطت على ذلك مثلاً يربط بين هذين الشقين، ويربطهما مع الشأن النسوي أيضاً، وهو الغابات. فقد رأت أن الغابات هي مستودع للتنوّع البيولوجي، كما تشكّل مكاناً لعيش مجتمعات انسانية تنهض فيها المرأة بدور أساسي في الحصول على الطعام من تلك الغابات، إضافة الى أن الأفكار السائدة ترى في بعض الأشجار شيئاً مقدساً. وعندما تُضرب الغابات، غالباً بأثر من سياسات الحكومات وبتأثير من بعض المؤسسات الدولية، تتأثر المرأة أولاً بالنظر الى هشاشة وضعها اجتماعياً. وكذلك تستثار المجتمعات المحلية عند الإطاحة بأشياء تراها مقدسة، فكأنها نفي للتنوّع في مجال الأفكار أيضاً. والحق أن نظرة سينداشونغا التي تهتم بإعطاء أهمية لأشياء إنسانية متنوعة، تعطي نموذجاً من التفكير النسوي في العالم.

وفي سياق متصل، تحدثت الاختصاصية الأميركية مارسيلا فيلاريال عن آليات الاستبعاد والتهميش، التي تمنع وصول العلم ومنجزاته الى فئات واسعة، خصوصاً النساء اللاتي يعشن في المناطق الريفية. ورأت ضرورة في أن تصل عقلية المرأة وتفكيرها الى قلب البحوث العلمية، كجزء من ضمان أن تصبح تلك البحوث مهتمة فعلياً بالتنوّع الإنساني والطبيعي الواسع، وأعطت مثالاً البحوث المتعلقة بالمنتجات المُعدّلة جينياً التي أدّت الى كائنات لها صفات قوية لكنها لم تفكر كثيراً في الفئات الواسعة التي ستستخدمها، كمسألة الأرض وتوزيع ثرواتها، ما اعتبرته نقصاً أساسياً فيها لأنها تؤدي الى عدم وصول الإنجاز العلمي الى الناس. كما رأت أن البحّاثة في مجال المنتجات المُعدّلة جينياً لا يأخذون المعرفة المتراكمة محلياً، خصوصاً لدى النساء في الريف، عن التنوّع البيولوجي وأساليب الحفاظ على التنوّع الجيني بالطرق التي تراكمت عبر التاريخ الإنساني، ما يؤدي الى فقدان جزء كبير من صورة المعرفة الإنسانية وتنوّعها أيضاً، واقتصارها تالياً على الرجال المهيمنين على الأرض والأبحاث والعلوم.

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...