المفكر الهيثم الأيوبي : الخطرعلينا اليوم كما كان بالأمس وسيظل غداً

07-06-2006

المفكر الهيثم الأيوبي : الخطرعلينا اليوم كما كان بالأمس وسيظل غداً

مع وصول حرب الخليج الثانية، أي هجوم قوات التحالف بقيادة الأميركيين على العراق لاسقاط نظام صدام حسين، الى ذروتها، امتلأت شاشات الفضائيات العربية بمن راحوا يسمون «خبراء استراتيجيين»، ما طرح السؤال: إذا كان لدينا جميع هؤلاء الخبراء لماذا نُهزم في الحروب دائماً؟ أجاب مراقب بمرارة: ربما نُهزم تحديداً لأن لدينا كل هذا العدد منهم.

قد تبدو هذه طرفة، لكن الواقع يعززها ولا يزال هو هو، ويكاد الفكر الاستراتيجي العسكري الحقيقي ان يكون الغائب الأكبر عن حياتنا الفكرية العربية.

المقدم الهيثم الأيوبي، الضابط الكبير السابق في الجيش السوري، المقيم منذ ربع قرن تقريباً في فرنسا، يُعتبر، من دون إطلالات تلفزيونية، خبيراً استراتيجياً بالفعل، جمع دائماً بين الفكر السياسي والفكر العسكري، وكان واحداً من قلة من ضباط عرب، أدركت باكراً أن السياسة والعمل العسكري لا ينفصلان. من هنا نراه يضع الكتب العسكرية وينقل الى العربية بعض أبرز ما صدر في العالم منها، ناهيك بإشرافه، كرئيس تحرير، على أهم موسوعة عسكرية صدرت بالعربية، خلال السبعينات، يوم كان مقيماً في لبنان بعد تركه العمل العسكري المباشر في سورية لأسباب سياسية.

منذ ذلك الحين يُعتبر الأيوبي، الذي كان من مؤسسي التيار القومي العربي وقادته، واحداً من المفكرين العسكريين في العالم العربي. وتعززت مكانته عبر مؤلفات مثل «دراسات في حرب تشرين» و«تاريخ الحرب الكورية» و«دروس الحرب الرابعة في الاستراتيجية والاستراتيجية العليا» و«دور الجيش العراقي في حرب تشرين» و«اتفاق فصل القوات الثاني في سيناء»، ناهيك عن كتابه الأشهر «الشعب المسلح». ومن ترجمات الأيوبي كتابات لينين العسكرية وكتابات تروتسكي العسكرية و«لمحات في فن القيادة» و«الاستراتيجية وتاريخها في العالم».

اليوم، وعلى رغم المحاضرات والمداخلات «العسكرية» التي يساهم فيها بين حين وآخر، يبدو ان المقدم الأيوبي، الذي ساهم في الثورة الفلسطينية في السبعينات والثمانينات، وضع المسائل العسكرية جانباً ليعود الى الأساس: العمل السياسي والفكري. والواضح أن هذا العمل يقوده، إضافة الى كتابة كثير من المقالات والدراسات، الى إعادة نظر شاملة في الممارسات السياسية العربية على مدى نصف القرن، لا سيما ممارسات التيار القومي العربي الذي انتمى إليه وكان واحداً من رواده.

«الحياة» التقت الأيوبي في باريس، حيث ينهمك في الكتابة مستخلصاً نتائج تجاربه الخاصة ثم تجاربه الفكرية من خلال عضويته في «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية» في لندن (في الثمانينات) ثم في «مركز فلسفة الاستراتيجية» في باريس (في التسعينات). وفي الحوار الآتي الذي أجرته «الحياة» معه، يوضح المقدم الأيوبي بعض أفكاره ويوجه انتقادات وملاحظات تتناول الممارسات السياسية العربية، الماضية والراهنة. يأتي هذا الحوار ضمن سلسلة حاورت عدداً من المفكرين السياسيين والاقتصاديين والايديولوجيين العرب.

> نشرت في آخر السبعينات، مقالات حول الاستراتيجية العسكرية العربية لمرحلة ما بعد الهزيمة (حزيران - يونيو 1967)، حددت في بعضها المسار الذي كانت ستأخذه حرب الاستنزاف، ثم في بعضها الآخر، المسار الذي عادت واتخذته لاحقاً حرب تشرين (اكتوبر)، ولاحقاً تبين صحة تشخيصك للحالين. اليوم بعد مرور كل هذا الزمن، هل ما زلت تنظر الى هاتين الحربين على انهما شكلتا انتصاراً عربياً رد، في شكل أو آخر، على هزيمة حزيران؟

- لا افهم السبب الذي يجعلنا نبدأ بهذا الموضوع... حرب تشرين كانت بالمفهوم العسكري ضربة تستهدف توقيف توسع الغزو الاسرائيلي للأراضي العربية. فالغزوة تأتي عادة لتقيم رأس جسر ثم تبدأ انطلاقاً منه بالتوسع مستمرة فيه حتى يقابلها رد ديناميكي، يتمكن اولاً من تغيير ميزان القوى، ثم يقوم بضربة الايقاف. بهذا المعنى يمكن الحديث عن «انتصار» في تشرين. المهم ان الامة التي كانت تعرضت للغزو تجمع بعد الضربة قواها لتمعن اكثر وأكثر في تغيير ميزان القوى ولتبدأ ما نسميه، الهجوم المعاكس الاستراتيجي. كل هذا معروف نظرياً...

> فما الذي حدث إذاً؟

- بعد تلك الضربة التي أيقظتنا من الهزيمة، وناب فيها المصريون والسوريون عن الامة العربية كلها بدعم من بعض الدول العربية، حلت الكارثة الساداتية. بصراحة، كل ما نعيشه اليوم، وكل ما عاشه لبنان خلال الغزو الاسرائيلي، وأي ضربة تلقيناها ونتلقاها، انما هي نتيجة حتمية للموقف الذي اتخذه الرئيس أنور السادات بعد حرب 1973... ولا أستثني انتشار المد الاسلامي السياسي. بل ان هذا المد الذي يوصف بالتطرف لم ينجم فقط عن حرب 1973 وتصرفات السادات، بل كان ايضاً نتيجة حتمية لهزيمة فكر معين عام 1963.

> كيف؟

- بعد حرب 1948 التي اضاعت فلسطين وخاضتها دول عربية تقودها فئات بورجوازية ووطنية، برز ذلك التيار القومي التقدمي العربي الذي قال ان الحل عنده ووصف القوى الحاكمة (المهزومة في 1948) بأنها قوى يمينية رجعية مرتبطة بالاستعمار وتأتمر بأوامره. هكذا صعد ذلك التيار الجديد، مؤكداً ان لا بد من حل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والامنية قبل استعادة الانفاس.

في 1967 انهار هذا التيار بدوره، كما انهار سابقه في 1948. هزيمة 1967 شكلت ذروة اخفاق القوى القومية والتقدمية في تحقيق الاهداف الاجتماعية والاقتصادية والامنية. وكان من الطبيعي ان يؤدي ذلك الى بروز التيار الوحيد الذي لم يُعتبر مسؤولاً عن الهزيمة. وكان بامكانه ان يطلع هو الآخر ليقول ان الحل عنده: الحل في الاسلام وفي الجهاد. اذاً التيار الاصولي، على اختلاف اشكاله وألوانه، ظهر بعد اخفاق التيار القومي.


> اذاً، هذا التيار الأصولي عاش ويتحكم بالمجتمع الآن اكثر من أي تيار آخر، من دون ان يحكم فعلاً في أي بلد عربي. فكيف تمكن من أن يمارس هذه السلطة - الاجتماعية على الأقل - فيما عجزت كل التيارات الأخرى عن ذلك؟

- ربما لأنه ليس غريباً طارئاً على الانسان العربي المسلم. انه موجود في لا وعيه... في جيناته الوراثية كقوة فعل سياسية واجتماعية وثقافية. حتى العربي المسلم الذي لا يمارس الشعائر الدينية، يعود الى التمسك بقيم الدين وأهدابه ما أن يجد نفسه أمام طريق مسدود. إن أياً من التيارات الفكرية الأخرى ليس له مثل هذه القوة التأثيرية في الشعب البسيط كما لدى المثقفين، مهما كانت اتجاهاتهم.

> أفلا نراك هنا تخلط بين الاسلام كدين وإيمان، وبين استخدامه في العمل السياسي؟

- ربما كان هذا الاعتراض جائزاً، نظرياً على الاقل، في الخمسينات والستينات، أما اليوم فيبدو لي خارج الزمن. ففي الاسلام ليس ثمة فصل بين الدين والدولة، وهو أمر يعرفه الاصوليون جيداً ويشتغلون عليه، وربما كان في الماضي نقطة الضعف لدى قوى تصورت نفسها علمانية وراحت تحاول علمنة الجماهير ففشلت.

> أنت كنت من الذين نظّروا للتيار القومي العربي، لكن مراجعة لكتاباتك ستقول ان لا وجود فيها لأي حديث عن التيار الاسلامي. فهل تنبهت الى وجوده لاحقاً أم انك تنتمي فعلاً، كمثقف الى جماعات فاجأها انبعاث التيارات الأصولية لاحقاً، فتداركت الأمر وراحت تعيد اكتشافها؟

- أن الظاهرة الاسلامية لم تكن تشكل قوة جماهيرية سياسية فعلية، او هذا ما كنا نعتقده على الاقل. كانت في احسن الأحوال، بالنسبة الينا، قوة رديفة. تيارنا القومي كان لا ينظر إلا الى العدو، وكان يسعى الى مواجهته باستراتيجية واحدة تحاول ان تضم اكبر شريحة من القوى الوطنية، بصرف النظر عن الفوارق الايديولوجية بينها. في الوقت ذاته كانت القوى القطرية تنظر الى الأمور نظرة اخرى: كانت ترى العداوات كثيرة ومتناقضة. كان منها، مثلاً، من يعتبر الاتحاد السوفياتي صديقاً ومنها من يعتبره عدواً. كان منها من يتطلع الى صداقة واشنطن بالتالي مهادنة اسرائيل، ومنها من يخوض الحرب الشاملة، نظرياً، ضد الجميع. اضف الى هذا العداوات العربية – العربية والاسلامية – الاسلامية التي كانت تتطلب استراتيجيات قطرية قد تتنافى مع مفهومنا للاستراتيجية القومية. فكيف كان بامكاننا ونحن نخوض ذلك كله، ان ندرك حقيقة ما يعتمل في الداخل، من نمو هائل للتيار الاسلامي السياسي الذي ادركنا لاحقاً انه كان يقف موقفنا في نقطة اساسية على الأقل: الموقف من العدو الصهيوني اذ كان يعتبره الخطر الرئيسي، وليس خطراً ثانوياً جانبياً. كل هذا، صار جزءاً من التاريخ. واليوم، إذ اصبح التيار القومي جزءاً من أحلام الماضي واستشرت النزعات القطرية، واضح ان التيار الاسلامي هو وحده الذي بقي في الساحة يواجه الاخطار الخارجية وبقوة، سواء كانت اسرائيلية او اميركية او غيرها. اقول هذا وأفكر طبعاً بـ «حزب الله» و«حماس»...


> ... والزرقاوي وبن لادن وأصوليو الجزائر ومصر، اصحاب العمليات الارهابية الغامضة غالباً؟

- سأتوقف عند حال العراق حيث الخلط المتعمد بين الارهاب والمقاومة. أي بلد معرض للاحتلال، يحق لأبنائه ان يحملوا السلاح دفاعاً عنه...

> دعني اقاطعك، فهذا الموضوع خارج عن نطاق حديثنا على رغم صواب ما تقوله عنه. موضوعنا هو الفكر القومي العربي الذي كنت أنت واحداً من أبرز الذين اشتغلوا عليه نظرياً واستراتيجياً. الآن هناك قوى تهمش هذا الفكر وتمكنت من وضع كل احلامه السابقة على الرف. هي تريد اليوم ثمن ما تعتبره «انتصاراً»... والثمن يكاد أن يكون نسف كل الاحلام العلمانية والحداثية والتقدمية، لأن هذه القوى التي تقول أنت انها الوحيدة التي تقاوم، لا تخفي عداءها لكل ما يأتي من الغرب، بما في ذلك الافكار الجيدة والحضارة. هل ترى ان من «يقاتل» اليوم يكمل حقاً مسيرتك النضالية في سبيل أمة عربية متقدمة تنتمي الى العصر، او انه – فكرياً واستراتيجياً – يمشي في مسار آخر، قد يتناقض مع تطلعاتك وتطلعات جيل من المفكرين العرب؟

- سؤالك يبدو وكأنه يقيم فصلاً حاداً بين العروبة والاسلام. الاسلام كفكر هو جزء اساسي مكون للحضارة العربية والعروبة حامل اساس من حوامل الاسلام. علينا ان نلاحظ ان قوى كثيرة في التيارات الاسلامية لا تكف عن التعبير عن مواقف تدل علىالانفتاح وقبول الآخر وعلى وسطية الاسلام... الاخوان المسلمون على سبيل المثال...

> هؤلاء يلعبون استراتيجية الوصول الى السلطة...

- ربما يكون هذا صحيحاً. لكنني كباحث استراتيجي اعرف دائماً ان النضال يكون طويلاً وشاقاً، وهو ينقسم الى مراحل. اولاها مواجهة العدو ثم تأتي مرحلة البناء والاختيارات الايديولوجية والاجتماعية والسياسية. وأرى أننا لا نزال، بعد كل ما حصل، عند المرحلة الأولى، مرحلة المواجهة... وفي مثلها تكون الافضلية لمن يستطيع ان يقاوم... لمن يمتلك الجرأة والعدد والسلاح والقدرة على التعبئة. بعدها، حين ينتصر هذا الفريق على العدو، لكل حادث...

> كأنك تعني ان القوى التي تتحدث عنها بصفتها قوى مقاتلة اليوم، ستأتي بعد «الانتصار» – ان تحقق – لتسلمك القيادة السياسية. إذاً هي مجرد مجموعات من مقاتلين يعملون في خدمة مشروعك...

- لمَ لا؟... في كل مكان يكون ضرورياً تغيير ميزان القوى بين اطراف تملك السلاح والتكنولوجيا، وبين الشعب الذي لا يمتلك عادة إلا قدرته على قلب موازين القوى من طريق قلبه لمفهوم الموت... وأتحدث هنا عن الاستشهاد. فالقوى التي تواجه أمتنا اليوم يُعتبر الموت بالنسبة اليها نهاية الحياة، وهذا كابح لها خلال القتال. فجنودها يذهبون الى القتال كي ينتصروا ويعيشوا، لا ليموتوا. وهذه نقطة ضعفهم هم الذين يملكون السلاح والتكنولوجيا والتفوق العسكري، ولكن ترعبهم فكرة الموت. انطلاقاً من هنا أرى أن القوى الاسلامية قادرة على قلب موازين القوى عبر تغيير مفهوم الموت الذي يهرب منه الآخر فيما أنت تبحث عنه.

> ولكن، ماذا عن المشروع السياسي؟ المقاتل المستعد للموت لديه مشروعه الذي يضحي من أجله، لا مشروعك، أين أنت من مشروعه؟ هل تعتقد بأنه يتطابق مع مشروعك؟ هل المخرج في الوصول الى حل وسط، يمزج بين مشروع قومي وآخر أصولي، يرى كثر اليوم انهما لا يتفقان؟

- من الذي يقول باستحالة اتفاقهما؟ المثقفون؟ أنا أرى أن المشروع النهائي هو مزيج من المشروعين... وفي مثل هذا المزيج يكون الطرف الأقوى شعبياً هو الاكثر قدرة على اثبات وجوده. ليتفضل القوميون وليتفضل التقدميون ويثبتوا وجودهم على الأرض... في الميدان.

> داروينية الانتخاب الطبيعي هي اذاً؟

- ربما، المهم بالنسبة اليّ هو ألا يرتعب المثقفون ازاء ما يحدث ويرون أن وطأة العدو الأجنبي أخف عليهم من وطأة الفكر الأصولي المقاوم...


> اراك تنسى دروس الماضي: وقوف الاصوليين ضد عبدالناصر، ضد نادر شاه في افغانستان، ضد مصطفى كمال في تركيا...

- لا أنسى شيئاً، لكن اليوم غير الأمس. اليوم لدينا معركة حاسمة يجب أن تخاض ولاحقاً نبحث عن حلول. مهما يكن، اعتقد بأن للمثقف الواعي، في هذه المعمعة كلها، دوراً اساسياً لا يزال عليه أن يلعبه، لا سيما في العلاقة مع الانظمة التي لا تزال تعيش وتتصرف كأن لا معركة هناك ولا يحزنون. الأنظمة، لا سيما تلك التي تدعي التقدم والعمل من أجل القومية العربية، لا تزال هي القوة الرئيسة التي تخرّب القومية العربية والفكر القومي. انها ترفع شعارات العروبة وتمارس القطرية والطائفية وما دونهما، بل تمارس اللعبة العشائرية والعائلية وأدخلتنا زمن توريث السلطة.

على المثقف العربي، الى أي بلد انتمى، أن يعود الى الجذور الحضارية لفكرة القومية العربية، ليحدد أخطاء وقعت فيها الاحزاب التي رفعت شعارات القومية ثم خانتها. تراني تحدثت قبل أن نبدأ حوارنا حول الحزب المغدور والقومية المغدورة اللذين أكتب عنهما حالياً... دراستنا للتجارب هي التي ستكشف لنا مجمل مفاهيم القومية كما طرحت، ثم كيف طبقت من مختلف القوى. واذا كنا نبحث عن مخرج، فهو لا يكون إلا في تلافي كل الأخطاء التي حصلت والوصول الى توليفة تعيد الاعتبار الى قوى وحقائق ميدانية ومفاهيم وضعناها على الرف. علينا استعادة الفكر القومي والكف عن عمليات جلد الذات... شرط ألا ننسى – كما كنا نفعل في الماضي – العامل الاسلامي كجزء مكون ليس من النضال المرحلي فقط، بل من البناء الاستراتيجي لفكر الأمة وللأمة. علينا السعي الى عدم احداث أي تصادم مع هذا العامل، لأننا معه وهو معنا أمام الخطر المشترك.

> وما هو الخطر المشترك اليوم؟

- انه اليوم، كما كان أمس، وكما سيظل غداً: اسرائيل والسياسات الأميركية التي لا تخدم إلا مصالح الشركات النفطية واسرائيل. المشروع الأميركي هو مشروع قد يحمل العلم الأميركي لكنه مصاغ في تل أبيب. والمؤسف حقاً أن أنظمة عربية تبدو اليوم غافلة عن هذه الحقيقة البديهية. هي انظمة متسولة، بعضها يتسول الدعم السياسي، وبعضها يتسول آمناً، وبعضها يتسول المساعدات الاقتصادية والمالية وشهادات حسن السلوك. والمتسول لا يحصل عادة إلا على ما يعطيه اياه من يتصوره فاعلاً للخير. ان المهمة الرئيسية التي يمكن للفكر العربي وللمثقفين ان يقوموا بها انما هي فضح حال التسول للتخلص منها. في الماضي كنا، في الحركة القومية العربية، نطرح فكرة ان الطريق الى تحرير فلسطين لا يمر إلا عبر تحرير العواصم العربية. يومها رُجمنا وانتقد المشروع، ثم ثبت عملياً أن الانظمة بقيت على رغم كل هزائمها كل التغيرات التي طاولت العالم. بل انهم استطاعوا أن يخلقوا حتى في فلسطين نظاماً يشبه انظمتهم، أي نظاماً قمعياً. فما الحل في النهاية؟ الحل يكمن في العودة الى القومية العربية. هذه العودة التي أراها الاستراتيجية الوحيدة والهدف الوحيد، وانطلاقاً منها يمكن طرح الاسئلة الحاسمة: كيف أحدد العدو الواحد؟ كيف أصارع ضده؟ كيف أناضل ضد الولايات المتحدة التي تنفذ دائماً سياسات اسرائيل؟


> ما هو دور المثقف في هذا كله، وما الذي يمكنه أن يفعله وسط هذه الصورة المتخبطة؟

- دوره الاساسي يجب أن يكون في سعيه الى استكشاف حقيقة مفهوم القومية العربية وصوابه. ومن ثم تبيان الأخطاء التي منعت هذا الفكر من مواصلة طريقه، لئلا نعود ونقع في الأخطاء ذاتها. ترى لماذا لا يسعى المثقف العربي وفي كل مكان الى تشكيل تنظيمات ونقابات وجماعات وجمعيات ومؤسسات بحث ودراسة تكون لها منابر اعلامية قادرة على الوصول الى كل انسان عربي؟ في الماضي، قبل انبعاث ثورة التكنولوجيا لا سيما في عالم الإعلام، كان شرطيان على الحدود قادرين على منع وصول النشرات والأفكار الى حيث يتقوقع النظام. الآن بات كل نظام يحس بأن هناك عدواً خطيراً يمكنه أن يعبر فوق الحدود... فلماذا لا يستغل المثقف العربي هذا؟ لماذا لا يُكثِر تواجده في الفضائيات لاعباً على تناقضاتها... ان التلفزة والانترنت والراديو والفاكس، كلها اسلحة لا بد من استخدامها اليوم. الانترنت خصوصاً بات سلاحاً لا يقهر ويعطي تكافؤاً في الفرص بين القوى... لكن المؤسف أن نسبة انتشاره في الوطن العربي لا تزال من أدنى النسب في العالم: في فرنسا هناك 240 انترنت لكل ألف مواطن، في اسرائيل ترتفع النسبة الى 300، في سورية النسبة هي 6، وفي الاردن 20. في لبنان النسبة الأعلى في العالم العربي وهي 24 لكل ألف مواطن. في المقابل ترتفع نسبة وجود التلفزيون الى مستويات عليا في الوطن العربي. مهما يكن، بامكان الانظمة السيطرة على التلفزيون أما الانترنت فتصعب السيطرة عليه. فلم لا يلعب المثقف ما يتاح له من تلفزة ضد الجمود والتخلف والقمع، ثم يلعب الانترنت ضد التلفزة؟

> لم توضِح ما الذي يمكن القومي العربي أن يقوله للناس في زمن العولمة والاعلام الشامل، زمن الارهاب والرد القمعي على الارهاب؟ ألا تعتقد بأن المفكر القومي الخاص دفِن عندنا وعند غيرنا منذ زمن بعيد؟

- في أوروبا، لا يزال الفكر القومي بل الحس القومي، موجوداً حتى بعد الوحدة، بل يزداد قوة. أما الأمة العربية فلم تدخل بعد مرحلة القومية لنقول انها دفنتها.


> هل تعتقد بأن دخولها فيها حتمي؟

- امتنا إن لم تعبر المرحلة القومية سيكون من الضروري لها، أن تعبر شيئاً اكثر اتساعاً: كياناً اسلامياً، أو كياناً شرق اوسطياً كبيراً، قد يضم اسرائيل وتركيا! ان القومية التركية تقوى اليوم لكنها تظهر على غير شاكلة تلك التي سعى كمال اتاتورك الى بنائها وجعلها تصطدم بالاسلام. ربما علينا، نحن المثقفين العرب، أن ندرس اليوم التجربة التركية الجديدة بدقة وتفهم: تركيا المسلمة من ناحية وذات النزعة القومية التركية من ناحية أخرى، تسير من دون عقد في طريق الحداثة، صناعة وثقافة وتعليماً. انها تقترب في كل المجالات من المقاييس الأوروبية من دون أن تجد أن ذلك قد يتنافى مع اصالتها ومكونات وجودها العميقة.

> من الفكر القومي الخالص، الى التقارب مع الماركسية في الستينات والسبعينات، الى الدنو اليوم من التفاهم مع الأصولية الاسلامية، ثم التطلع بعين الرضا الى النموذج التركي الحالي... كيف تقوِّم رحلتك الفكرية هذه؟

- ليست رحلة فكرية بل الأمر مجرد تطبيق لمبادئ علم الصراع التي تقول أن عليك دائماً قبل الاقدام على أي خطوة أن تحسب ميزان القوى، وان تتحالف دائماً مع من يساعدك على تغيير موازين القوى، وأن تحاول تحييد بعض الخصوم الثانويين، لتتمكن من محاربة الخصوم الأخطر والأهم. في كل مرحلة من مراحل الصراع تفرض عليك الظروف مواقف وتحالفات من دونها لا يمكنك أن تصل الى شيء. خذ نموذج العراق في السبعينات والثمانينات مثلاً: في الوقت الذي كان النظام البعثي في حاجة الى التحالف مع القوى الماركسية ضربها وعرّى نفسه، ثم حاول ضرب القوى الاسلامية ليعرّي نفسه اكثر واكثر. وهو ما فعله جمال عبدالناصر في مرحلة أو أخرى غير آبه ايضاً بخطورة ما يفعل اليوم. بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ما هي القوى الرئيسة التي ظهرت، مقاتلة مناهضة على الساحة؟ انها القوى الاسلامية، فلمَ لا نتحالف معها...؟

> تلميذ نجيب كما كنتَ دائماً لمفاهيم ماوتسي تونغ حول استراتيجية التحالفات...

- لستُ تلميذ ماوتسي تونغ، بل هو كان تلميذاً نجيباً لعلم الصراع.

 

 

ابراهيم العريس

المصدر : الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...