الوحدة ومعانيها الملتبسة

26-07-2007

الوحدة ومعانيها الملتبسة

من أصعب الأمور في الكتابة أن تجد عنواناً للنص، عنواناً منه يُقرأ المكتوب، على قول المثل. والأصعب أن تفعل ذلك وصرير حاد ينخر أذنيك ويقطع حبل تفكيرك، صرير ينطلق من آلة صمّاء، أو محرّك به عطّل، أو من جدل سياسي عقيم طويل...

لا بد من عزلة، أو بعض الهدوء على الأقل، لإنجاز أي مهمة، حتى لو كانت حفر حفرة في الطريق بمثقاب هادر. فالحفّار نفسه يودّ لو يؤدّي عمله، بمنأى على إزعاج المقاطعة. وبهذا المعنى يكون الهدوء، وتالياً العزلة أو الوحدة «الموقتة»، غاية منشودة.

والبحث عن عنوان صائب لموضوع وحدة الفرد أو عزلته معضلة، فما من عبارة واحدة، في لغات مختلفة، تصيب المعاني الكثيرة التي تنضح من حالة الانفراد والعزل، سواء كانت غاية أم «مرضاً».  
 والسبب وراء التصريح بالوقوع في التباس وإرباك هو القصد من «الوحدة» تلك الحالة الإنسانية التي شكلت أساساً لمواضيع غذّت النتاج الأدبي والفني في الغرب. فعندما تقول loneliness (وحدة) وsolitude (عزلة) - والمعنيان بالعربية غير ثابتين تماماً – تتبادر إلى الأذهان أعمال أدبية وفنية وأقوال مأثورة وأسماء مبدعين لا تُحصى. فقال أرسطو في الوحدة: «لا يختار المرء وجوده من دون صديق ليملك كل الأشياء الأخرى في العالم». وفي العزلة قول للكاتب الفرنسي هونوريه دو بالزاك: «العزلة شيء جميل، ولكن ينبغي لأحدهم أن يقول لك إن العزلة شيء جميل».

ولعل العزلة والوحدة من معايير النزعة الفردية البارزة في المجتمعات الغربية. وفي ترجمة العبارتين إلى العربية خُلطت معانيهما بعضها ببعض، فورد: الانزواء، الانعزال، الانفراد، التقوقع، الخلوة، الحِدة، الوحدة والوحشة... كما جاءت العبارات وحداني ومحبوس ووحــيد وفريد... ويتيم كمرادفات لعبارة lonely (وحيد).

غير أن الكاتب المسرحي البريطاني صموئيل بيكيت (1906 – 1989) مؤلّف «في انتظار غودو» الشهيرة، العبثي القليل الكلام الذي ذهب بالوحدة والعزلة بعيداً جداً، قال عن نفسه: «لا أمتلك موهبة السعادة» أو «لست سعيداً بالفطرة». ولعلّه بذلك يختصر معاني العبارة التي توقعنا في اللبس والإرباك.

ذلك أن الوحدة بمعنى الوحشة تكاد تكون غائبة تماماً في مجتمعاتنا القائمة على الجماعة. حتى أن العزلة، فيها بمعنى الهدوء والسكينة، حالة يستحيل بلوغها أحياناً.

والوحدة لا تشكّل قضية تبحث فيها أعمال أدبية وفنّية كثيرة. أحياناً، يعمد بعض الأعمال إلى تظهير تلك الحالة لوقت قصير في متنها، ولكنها لا تلبث أن تتلاشى وتختفي في لجج الجماعة. وكأن الروايات أو الأفلام تعبّر عن مخاوف الناس من العزلة والوحشة. وتمثيل الوحدة وتظهيرها يبرز أكثر بمعنى التفرّد أو الانفراد. ولعلّ مسرحية «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني، في الثمانينات، تعبّر عن مجتمع أفراد «مجموعين»، لا مختلطين، عندما يشرح رشيد، المريض في مستشفى الأمراض العقلية، حالته للطبيب: «... عندما تقول 19 لبنانياً، هؤلاء ليسوا 19 (جْمعاً)... هؤلاء هم 19 واحداً... واحد واحد واحد... حتى 19...». وذلك في إشارة إلى تفرّد اللبناني عن اللبنانيين الآخرين.

وفي المقابل، كتب غابـــرييل غارسيا ماركيز «مئة عام من العــزلة» روى فيـــها عن عزلة قـــرية بأكملها، عزلة أثرّت في زوال قــرية ماكوندو بعدما شهدت ازدهاراً وانحطاطاً.

زكي محفوض

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...