جرائم الشرف في فلسطين

24-07-2007

جرائم الشرف في فلسطين

الشبهة البسيطة غالباً ما تكون كافية لارتكاب جريمة شرف في قطاع غزة، هذا المجتمع المحافظ المثقل بالتقاليد القبلية والمد الأصولي. لكن غالباً أيضاً ما تكون الضحية فرداً، رغم أن الجريمة ثنائية. فلم يسمع أحد يوماً عن جريمة شرف قُتل الشريكان فيها.
ومع تزايد تلك الجرائم، التي تُرتكب غالباً في حال من التسرع والعصبية، يُستباح دم امرأة من دون تدقيق أو تمحيص. وقد فُجع المجتمع الفلسطيني بكثير من الجرائم التي لم يكن بإمكانه أن يصدّقها، وكان آخرها أول من أمس حين عُثر على جثث ثلاث شقيقات.
مثل هذه الجريمة، هي آخر جزء من سلسلة «جرائم الشرف» في قطاع غزة. وقصص هذه الجرائم أحدثت صدمة في القطاع، فالمجتمع ما كان ليصدقها حتى عندما كان يراها في الأفلام السينمائية، لكونه مجتمعاً مغلقاً إلى حد كبير.
أم قتلت ابنتها، التي لم تتجاوز السابعة عشرة من العمر، خنقاً حتى الموت. وبعد البحث في ملفات القضية، تبيّن أن هذه الفتاة كانت طفلة حين قام عمها باغتصابها للمرة الأولى عندما كانت والدتها ترسلها اليه بالطعام في منزل منعزل بعض الشيء، وسط المزارع والبساتين في جنوب قطاع غزة.
ومع خوف الفتاة من التصريح بما أصيبت به، تمادى العم في جريمته، وأصبح مداوماً على اغتصابها حتى أصبح الأمر طبيعياً بالنسبة إليهما. وذات يوم كُشف المستور، عندما دهمت آلام المخاض هذه الفتاة الطفلة، فما كان من أمّها إلّا أن قامت بخنقها للتخلص من «عارها». أما العم «المجرم» فلا يزال حراً طليقاً، وقد يرتكب المزيد من الجرائم.
وبقدر ما هزت هذه الجريمة المجتمع الفلسطيني، فإن الذي عوقب هنا الضحية بالأساس ولم يعاقب أحد الجاني الحقيقي الذي استباح كل الحرمات، في جريمة اغتصاب يصنّفها الشرع والقانون في إطار «سفاح القربى».
مَن الضحية ومن الجاني هنا؟ الفتاة أم العم، أم المجتمع الذي اعتاد أن يصبّ جام غضبه وعقابه دوماً على الطرف الأضعف؟
وفي جريمة ثانية، أقدم شاب على تفجير شقيقته بواسطة عبوة ناسفة محلية الصنع ثبّتها على خاصرتها، بعدما قام بتقييد أطرافها العلوية والسفلية، ليسلب منها حياتها بالضغط على جهاز التحكم عن بعد، من دون أن يكلف نفسه عناء منحها الفرصة للدفاع عن نفسها. حتى إن كانت عاصية، فلا بد من معاقبة شريكها في الجريمة، وعدم منحه الفرصة للتغرير بأخريات.
ومن قصص المأساة المضحكة المبكية أن شاباً أقدم على قتل شقيقته العازبة عندما رأى بطنها منتفخاً، ظناً منه أنها مارست الرذيلة، ليكتشف بعد فوات الأوان أن مرضاً ألمّ بشقيقته وأدّى الى انتفاخ بطنها. لكن اكتشاف الحقيقة كان متأخراً بعدما زُهقت روح الفتاة ظلماً، وانتقل شقيقها إلى السجن.
نساء كثيرات قُتلن بدافع حماية الشرف وغسل شرف العائلة، وتزايدت حدة هذه الظاهرة شهراً بعد آخر، ما مثّل صدمة واسعة وشعوراً بالخجل في الشارع الفلسطيني الذي لا يزال يحتكم إلى «قانون ذكوري» إلى حد كبير، يدين المرأة ويبرّئ الرجل.
كشفت دراسة استكشافية نسوية أن بعض جرائم القتل، التي تُرتكب بحق النساء على خلفية الشرف، يكون سببها الحقيقي قضايا أخرى ومختلفة تماماً، وغالباً ما تكون متعلقة بمسألة الميراث، في ظل رفض كثير من العائلات الكبيرة منح الإناث نصيبهن من الميراث الشرعي، بدعوى الحرص على عدم ذهابه إلى رجل غريب في حال زواجها، لذا فإن نسبة «العنوسة» مرتفعة في هذه العائلات الثرية.
وأشارت الباحثة والناشطة النسوية، دنيا الأمل إسماعيل، إلى أنه تمّت التغطية على جرائم قتل على خلفية الشرف، رغم أن سببها الحقيقي بعيد جداً عن هذا الموضوع ويتعلق بقضايا وموضوعات أخرى، مبديةً اعتراضاً شديداً على توثيق جرائم القتل على خلفية الشرف على أساس أن لها علاقة بالبعد الأخلاقي. وشدّدت على أن التسليم بهذه الجرائم على أنها لغسل العار ومحاولة التقليل منها بمثابة «خطأ وجرم كبيرين».
وأوضحت إسماعيل أن أكثر الحالات المسجّلة لدى المراكز البحثية والحقوقية وأجهزة الشرطة تشير إلى أن النساء اللواتي يتعرضن للاغتصاب تراوح أعمارهن بين 14 و 40 عاماً، مشيرةً في الوقت نفسه إلى وجود حالات تعرّضت للاغتصاب تحت سن 14 عاماً، لكنها لم توثّق في مراكز الشرطة أو المراكز النسوية والمراكز المعنية الأخرى.
وتابعت إسماعيل إن المناطق الجنوبية في القطاع شهدت في الأشهر القليلة الماضية تنامياً وتصاعداً في حالات الاغتصاب التي تتعرض لها النساء، ما يشير إلى وجود خلفيات اجتماعية وثقافية واقتصادية تسهم في تعزيز هذه الظاهرة. وناشدت جميع المؤسسات المسؤولة والمختصة إعادة النظر في قضية الاغتصاب وتسليط الضوء عليها بالتحليل والمعالجة، بحيث لا يتم التعامل مع الحالات التي تعرضت للاغتصاب على أنها فقط مصادر معلوماتية بل كحالات إنسانية «بحاجة إلى الدعم النفسي والعلاج والتأهيل».
وشدّدت إسماعيل على أهمية عدم إسقاط حقّ من تتعرض للاغتصاب بزواجها من الجاني، إذ إن حقها يجب ألا ينتهي بالزواج، وخصوصاً أن مثل هذا العلاج قد يشجّع الجاني على تكرار الجريمة داخل الأسرة مرات عديدة، محذّرة في الوقت نفسه من أن تصبح قضية الاغتصاب «ظاهرة ثقافية واجتماعية» في المجتمع الفلسطيني.
وقالت إسماعيل إن «معظم الحالات المذكورة في الدراسة غير معروفة لأجهزة الشرطة والمؤسسات النسوية وهذا يدلّ على عدم قدرة هذه الجهات على الوصول إلى حالات وقضايا الاغتصاب، بالتوازي مع عدم جرأة الضحايا على تقديم الشكاوى واللجوء إلى المؤسسات النسوية والنفسية خوفاً من التعرض للقتل». وأشارت إلى أهمية «إعادة النظر في قضايا سفاح القربى على كونها اغتصاباً داخل نطاق الأسرة وإعطائها العقوبة نفسها التي تقع على قضايا الاغتصاب».
تشير الإحصاءات المتوافرة إلى أن العام الماضي كان أكثر الأعوام دموية في قتل النساء الفلسطينيات على خلفية قضايا الشرف، حيث وثّقت المراكز الحقوقية 60 جريمة قتل من دون دليل أو دفاع أو محاكمة نزيهة.
وبحسب مدير المكتب الإعلامي في جهاز الشرطة رمزي شاهين، فإن العام الماضي كان من أكثر الأعوام التي شهدت تزايد نسبة الجريمة بشكل عام، وجرائم الشرف بشكل خاص، موضحاً أنه ليس هناك في القانون جرائم تسمّى جرائم الشرف، لكنْ هناك عرف في المجتمعات الشرقية يتعلّق بالقتل على خلفية هذه التسمية.
وقال شاهين إن جهاز الشرطة سجل خلال العام الجاري أكثر من 15حالة قتل على خلفية الشرف، والضحايا فيها جميعاً نساء، مُقرّاً في الوقت نفسه بأن هناك حالات كثيرة يتم طيّها من دون أن تصل إلى القانون. وأضاف شاهين إن «هناك الكثير من جرائم القتل التي تتم على خلفيات أخرى ويجري الادّعاء بأنها قضية شرف أملاً من القاتل أن يتلقّى عقاباً مخفّفاً»، مشيراً إلى أن معظم مرتكبي جرائم الشرف يقومون بتسليم أنفسهم إلى الشرطة، وبالتالي يسهّل ذلك التحقيقات وكشف ملابسات ارتكاب الجريمة والدوافع.
وفي شأن الدوافع النفسية لمرتكبي جرائم القتل على خلفية الشرف، قالت الاختصاصية النفسية نيفين عبد الهادي «إن السلوك الإجرامي له علاقة بالاضطرابات السلوكية غير السويّة في البناء الشخصي للفرد، تضاف إليها متغيّرات أخرى كالشعور بالإحباط والكبت والتسلط، حيث إن هناك علاقة بين السلوك المنحرف والحال الصحية النفسية للفرد»، مشيرةً إلى أن «السلوك الإجرامي تحكمه أيضاً قدرة الشخص على ضبط انفعاله، إذ إن هناك أشخاصاً لا يملكون حصانة ضد مشاكل الحياة، فيفجّرون انفعالاتهم على شكل ارتكاب جريمة ما في لحظة من عدم السيطرة على الذات».
وفي حال القتل على خلفية الشرف، ترى عبد الهادي أن «الشخص هنا يعيش في صراع نفسي داخلي بين رغبتين: إحداهما تتعلق برغبته في الدفاع عن شرفه والقتل انتقاماً للشرف، وذلك وفق العادات والتقاليد والتنشئة التي تربّى عليها، وبين حبه لأخته وعدم رغبته في قتلها، حيث يعيش في هذا الصراع النفسي إلى أن تسيطر عليه رغبته الأولى لكونها راسخة في داخله ويقوم بارتكاب الجريمة، رغم أنه قد لا تكون لديه أي مؤشرات إجرامية، لكن عادات المجتمع الصارمة وعدم الغفران للفتاة حتى لو كانت هي الضحية، وثقافة المجتمع ككل، تجعل هذا الشخص مجبراً على ارتكاب الجريمة وغسل عاره حسبما تزيّن له نفسه».
وأشارت عبد الهادي إلى أن «احتكام الإنسان إلى العادات والتقاليد بعيداً عن الدين الإسلامي في هذه القضايا، نابع من ردّ فعل المجتمع الذي لا يرحم الإنسان إن لم يقدِم على غسل عاره، وتمجيده في حال ارتكب جريمته وإعطاؤه الحق في ذلك، وكذلك وقوف القضاء إلى جانب مرتكب جريمة القتل على خلفية الشرف، من خلال الأحكام المخفّفة، الأمر الذي يساعد الشخص على نسج خيالات كثيرة كشعوره بالعظمة والإعجاب بالذات لما فعله».
وفي خصوص الحكم الشرعي من قضايا القتل على خلفية الشرف، أشار أُستاذ الفقه في الجامعة الإسلامية الدكتور ماهر السوسي إلى أن «عمليات القتل على خلفية الشرف إرث جاهلي يرفضه الإسلام»، موضحاً أن «العادات الجاهلية التي أباحت وأد البنات الذي حرّمه القرآن هي التي تقف وراء الموروث الذي لا يزال يحكم بعض مجتمعاتنا، ونحن بحاجة إلى إعادة تثقيف».
وشدّد السوسي على أن «الإسلام لم يُبح القتل باسم الشرف، حيث تتم معظم الجرائم التي تُرتكب في هذا الإطار على خلفية عصبية لا دينية»، مشيراً إلى أن «الإسلام حفظ للمسلم عرضه وشرّع القوانين التي تحافظ عليه». وقال إنه «في كثير من الأحيان يقوم أب بقتل ابنته لأنها تعرّضت للاغتصاب»، متسائلاً «ما ذنب هذه الفتاة التي تعرّضت للاغتصاب؟». وأضاف إن «الإسلام قد ساوى في العقوبة بين الرجل والمرأة، وإنهما أمام الشرع سواء، مع وضعه شروطاً صارمة لتطبيق الحدّ على مرتكبي جريمة الزنا، فهناك مواصفات يجب أن تتوافر في الجاني والمجني عليه وفي الشهود، قبل إيقاع العقوبة».
ألقت جريمة قتل ثلاث شقيقات في جنوب قطاع غزة أول من أمس «حجراً في المياه الراكدة»، عبر تسليط الأضواء من جديد على الجرائم المتعلقة بالشرف.
سها (19 عاماً) وناهد (16 عاماً) ولينا (22 عاماً). ثلاث شقيقات في ربيع العمر، ربما أخطأن، لكنهن لم يتمتعن بحق الدفاع عن النفس؛ فلعل «الجرم» لا يستوجب القتل بهذه الطريقة البشعة: طعنات بآلات حادة وخنق حتى الموت، قضى على زهرات شبابهن.
قتلن على يد شقيقهن وابن عمهن «غسلاً للعار»، بعدما كان أبناء العمومة قد قتلوا والدة الفتيات العام الماضي. وكانت النسوة الأربع قد هربن من أقاربهن وأقمن في قرية أم النصر البدوية قرب بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، بعد اتهامهن بالقيام «بسلوك شائن».
وقال المتحدث باسم القوة التنفيذية، إسلام شهوان، إن «هناك قانوناً ولا يمكن السماح لأي شخص بأن يطبّق العدالة بنفسه»، مشيراً إلى أن «المجرمَين سيسجنان ويقدّمان إلى العدالة».
وأضاف شهوان إن «تحقيقاً أوّلياً في الحادث يُظهر أن الشقيق وابن العم مشتبه في ضلوعهما في قتل الشقيقات الثلاث، وأن دافعهما على الأرجح كان الرغبة في حماية شرف العائلة».

رائد لافي

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...