إنسان الأجهزة الصغيرة

19-07-2007

إنسان الأجهزة الصغيرة

لم يجد المتحدث الأسمر، الذي يتكلّم بلكنة هندية واضحة، صعوبة في شرح موضوعه الرئيسي حول أجهزة الاتصال الحديثة الرائجة بين أيدي المستهلكين، أثناء لقاء صحافي جمع كبار تقنيي شركة «انتل» (المتخصصة في صنع الرقاقات الالكترونية) في مقرها الرئيسي في بلدة «سانتا كلارا»، في ولاية كاليفورنيا الأميركية.

وأشار الاختصاصي كريشناميرثي سومياناث إلى أن الناس عموماً يتوقعون من الأجهزة 3 أشياء أساسية: الاتصال والذكاء الاصطناعي والترفيه السمعي- البصري رقمياً. وعرض سومياناث شريحة ضوئية «طريفة» تضم الأجهزة التي ينطبق عليها الوصف السابق ويتداولها العامة، مثل الراديو والمسجل العادي والتلفزيون ومشغل الموسيقى وكومبيوتر المكتب والهاتف والتليفون التقليدي والمساعد الرقمي الشخصي والكومبيوتر المحمول والتلفزيون الرقمي المحمول وأدوات الألعاب الإلكترونية المختلفة وغيرها. وبيده التي لم تتوقف عن ضرب الهواء، كأنها تحاول أن ترسم ما يقوله، لخّص مهمته التقنية المعقدة بإشارة وجيزة: أن تضم تلك الأجهزة في «أداة مفردة يستطيع المرء اصطحابها معه دوماً»، قال ذلك وبسط أصابع كفّه على امتداد الصورة ثم ضمّها في قبضة مكورة. ولم يتمالك المُحاضر من الإشارة إلى امتلاك جمهوره من الصحافيين الذين تابعوه في الطابق السفلي من مبنى «روبرت نويس» في تلك الشركة، أجهزة اتصال ذكية صغيرة مثل المساعد الرقمي الشخصي «بلاك بيري». وأشار إلى أن هؤلاء يبقون على اتصال بصحفهم ومسؤوليهم عبر تلك الأجهزة، إضافة إلى استخدامها في إرسال المعلومات بصورة فورية إلى رؤسائهم. وضحك الجمع لأن ما قاله الهندي الذكي هو وصف لواقع حالهم، وكشف لتفاصيل محرجة لكنها باتت بديهية في حياتهم ومهنتهم.

ربما بدا بعض ذلك الضحك مرّاً: إن كنت في «سانتا كلارا»، وعلى بعد آلاف الكيلومترات من عملك، فإن التقدم التكنولوجي يكفل أن يحضر العمل وعلاقاته وناسه وأصواته وصورته إليك كأنك لم تضع قدماً خارج مكان عملك المعتاد. هل هذا الحضور الكثيف للعمل، الذي يضمره انتشار الأجهزة الصغيرة والقوية، أمر ايجابي فعلياً؟ ومن الذي يستفيد منه؟ وما هي الصورة المتغيّرة لما يربط الانسان بالعمل وسلطاته وناسه التي ترسمها تلك الأجهزة؟ وما هو المتغير الذي تنتجه تلك الأجهزة إجتماعياً وثقافياً؟ والارجح أن تلك الأسئلة وغيرها تدافعت في رؤوس المجتمعين أكثر مما نطقت به ألسنتهم. ففي خضم الضحك التي أثاره غمز المحاضر الهندي ولمزه، علّق صحافي عربي على الأمر بالقول أنه يعتقد أن الانسان المعاصر يمكن وصفه بأنه «هومو غادجيتوس» Homo Gadgetus، على غرار وصف علماء الإحاثة (علم تطور الانسان) لأحد أسلاف البشر القدماء بأنه «هومو هابيلوس» Homo Habilus، وترجمتها «الإنسان المقتدر». والمفارقة أن ذلك الإنسان سُميّ بالمقتدر لأنه استهل تاريخ البشر في صنع الأدوات المتطورة. وزاد في حدّة الضحك أن ذلك النقاش دار في مقر شركة تصنع «العقول الذكية» لتلك الأدوات التي باتت تمسك بمعالم أساسية من العيش في القرن 21!

وتفصل فندق «ماريوت»، حيث استضيف الصحافيون، عن مبنى «روبرت نويس» مسافة تقطعها التاكسي في ربع ساعة، في شوارع يرين عليها الهدوء معظم الوقت. وفي أول الليل، حملت شاشة التلفزيون في غرفة الفندق خبراً لم يبد شديد البُعد عن النقاش الذي دار صباحاً مع الاختصاصي الهندي.

وحمل الخبر الصغير خلاصة عن دراسة اجتماعية واسعة عن أثر التكنولوجيا في المجتمعات المعاصرة، خصوصاً الغربية منها. وأشارت الدراسة، التي قادتها الاختصاصية في علم الاجتماع ندى كاكابادسي، من كلية الادارة والأعمال في جامعة نورثهامبتون البريطانية، الى تعوّد الناس بقوة على الاجهزة الالكترونية الذكية والصغيرة الحجم. وأشارت أيضاً إلى التقلص المستمر في الفارق بين العمل والحياة الشخصية؛ ورأت أنه خلق وضعاً استفاد منه أرباب العمل بطريقة غير متوقعة. ففي ما يبدو كأنه استمرار لواقع السيطرة والهيمنة في علاقات العمل، مدّ أرباب العمل ظل قوتهم على الحياة الشخصية لموظفيهم، خارج ساعات العمل. واستطاعوا ترويض هؤلاء لقبول وضع غير مألوف حيث يستمر اتصال أرباب العمل بمستخدميهم عبر الأجهزة النقالة على مدار الساعة. وبالنظر إلى الانتشار الواسع للأجهزة الذكية، صار ذلك الوضع وكأنه بديهي، ولم تقابله مقاومة تُذكر من جيوش الموظفين! ووصفت كاكابادسي هذا الوضع بأنه مملوء بالخلل. وخلصت إلى أن التعود على اصطحاب الأجهزة النقالة إلى الفراش والمسرح والسينما، يزيد في تآكل وقت الترفيه لمصلحة وقت العمل، كما يعطل قدرة العقل على اتخاذ قرار فردي مستقل!

أحمد مغربي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...