شارون والإرث الشاروني في السياسة الإسرائيلية

27-05-2006

شارون والإرث الشاروني في السياسة الإسرائيلية

الجمل: يبدو أن العالم الغربي ما يزال واقعاً، حتى اليوم، تحت تأثير خرافة أرييل شارون، والذي أتاح - وفقاً لهذه الخرافة - فرصة هائلة في السياسة الإسرائيلية،  تضمن تحولاً من توجهات التوسع والاحتلال إلى توجهات التوسط وتقديم التنازلات، وذلك كمنظور يتوجب على خليفته إيهود أولمرت أن يتبعه..
منذ لحظة إخلاء مستوطنات قطاع غزة، أصبح الحديث في العالم الغربي، يركز على أطروحة أن إسرائيل قد فعلت من جانبها، ما هو مطلوب منها لإنهاء الاحتلال، وأعلنت عن استعدادها لإنجاز وتقديم خطوات أخرى أكبر. وبالتالي، فإن على الجانب الفلسطيني أن يظهر قدرته وكفاءته في التعايش السلمي مع جيرانه الإسرائيليين، "الراغبين في ذلك" .
إذاً ، كيف حدث ذلك؟ أي: كيف تأتى لشاورن، العنصري، المتوحش والزعيم الإسرائيلي المخادع، ونفذ الانسحاب وإخلاء المستوطنات في قطاع غزة، ومن ثم «أنهى واجبه السياسي كبطل أسطوري للسلام ؟!» برأيي: إن شارون لم يتغير، ولكن الخلل يتركز في أن الخرافة المنسوجة حوله في الغرب، قد حدثت بفعل السطوة والحضور النافذ، الذي يتمتع به نظام البروباغاندا الأوروبية والأمريكية، بما يتطابق مع الفكرة التي طرحها نعوم تشومسكي، حول دعاية البروباغاندا، ودورها في صناعة الوعي .
وهكذا، فقد كان الانسحاب من قطاع غزة، وإخلاء المستوطنات فيه، بمثابة "السحر" الذي أضفى مزيداً من الافتتان بشخصية شارون في عيون الغربيين. وفي هذا الصدد ، اسمحوا لي أن أقول: إن الانسحاب من القطاع وإخلاء مستوطناته، لم يفعله شارون بملء إرادته، بل بسبب الضغوط غير المسبوقة التي واجهته، سواء من قبل الولايات المتحدة أو الدول الأخرى. ورغم ذلك، فقد حدد شارون منذ البداية بأن سحب المستوطنات، لا يعني ترك قطاع غزة حراً..  كذلك أشارت خطة فك الارتباط، التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية في 16 أبريل عام 2004م ، بوضوح أيضاً، إلى أن إسرائيل ستقوم بحراسة الإطار الخارجي للأرض، وسوف تبقي على السيطرة الجوية على قطاع غزة، وستواصل القيام بالعمليات العسكرية في المجال البحري لقطاع غزة.
والآن ، دعونا نلقي نظرة، باختصار، على السجل الآخر لشارون:
• خلال أربع سنوات، من توليه منصب رئيس الوزراء، قام شارون بإيقاف وتعطيل كل فرص مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. ويمكن توضيح ذلك على النحو الآتي:
- في عام 2003م (فترة خارطة الطريق)، وافق الفلسطينيون على الخطة، وأعلنوا وقفاً لإطلاق النار. وبينما كان العالم الغربي يحتفي ببدء عصر جديد للسلام في المنطقة، فجأة قام الجيش الإسرائيلي، تحت قيادة وإشراف شارون، بتكثيف سياسة الاغتيالات والاستمرار في تصعيد إيذاء ومضايقة الفلسطينيين، وأعلن حرباً شاملة ضد حماس، وقام باغتيال كل الصف الأول من قادتها العسكريين والسياسيين.
• لاحقاً، عندما كان العالم الغربي يحبس أنفاسه، مرة أخرى، منتظراً، على مدى العام والنصف، تنفيذ إسرائيل للانسحاب المنظم من غزة، كان شارون في هذه الأثناء، يعمل كل ما في وسعه لإسقاط الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي تم تعيينه في كانون الثاني 2005م. وكانت المفاجأة أن أعلن شارون، رسمياً، بأن محمود عباس ليس الشريك المناسب، (قالت الكاتبة الإسرائيلية: لأنه لم يحارب إرهاب إسرائيل!!)، وبناء على هذا التبرير، قام شارون بالتنازل عن كل عروضه، التي سبق أن قدمها لتجديد المفاوضات.
- في فترة شارون، كان الواقع الحياتي اليومي للفلسطينيين، في أسوأ وأشنع حالاته :
*في الضفة الغربية، بدأ شارون تنفيذ مشروع ضخم للتطهير العرقي، في كل المناطق المتاخمة لحدود إسرائيل. كذلك فقد بدأ الجدار العازل الذي قام شارون بتنفيذه، ينهب بقسوة وعنف أراضي قرى هذه المنطقة، ويضع مدنها وقراها في حالة من السجن الدائم، إضافة إلى أنه يجعل ساكنيها بلا أي وسيلة أو مصدر لكسب العيش. وإذا استمر مشروع الجدار العازل، فإن عدد الفلسطينيين المتأثرين به، سوف يبلغ حوالي 400 ألف شخص. الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى فرض الهجرة القسرية عليهم، ولن تكون أمامهم فرصة، سوى البحث عن الحياة وكسب لقمة العيش على أطراف المدن والقرى الأخرى، الواقعة في وسط الضفة الغربية، وهو الأمر الذي حدث تماماً لسكان مدينة قلقيلية الفلسطينية، الواقعة في شمال الضفة الغربية.
*رغم إخلاء المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، إلا أن القطاع أصبح بمثابة سجن كبير، معزول تماماً عن العالم الخارجي، ويتضور سكانه جوعاً، ويواجهون إرهاب القوات الإسرائيلية براً، وجواً، وبحراً..
طوال الفترة، التي أعقبت حرب عام 1967، واحتلال الأراضي العربية والفلسطينية، ظلت المشكلة التي تقلق وتشغل بال النخب السياسية والعسكرية في إسرائيل، تتمثل في كيفية الاحتفاظ بأكبر عدد من الأراضي، وأقل عدد من الفلسطينيين. ومن بين المشروعات التي هدفت إلى ذلك، خطة (ألون)، التي تحققت في أوسلو، وكانت تنص على احتفاظ إسرائيل بـ 40% من أراضي الضفة الغربية، والسماح للفلسطينيين بإقامة حكمهم الذاتي في الـ 60% المتبقية من أراضي الضفة. ورغم ذلك، قام إيهود باراك وأرييل شارون بتقويض بنود اتفاقية أوسلو. وكان من أبرز ما يدل على ذلك، نظام السجون الجماعية، الذي طوره شارون خلال فترة حكمه، على النحو الذي يتم وفقاً له إجبار الفلسطينيين على التواجد ضمن المناطق المحاصرة، والمغلقة، حيث تتم السيطرة على هذه المناطق بالكامل من الخارج، عن طريق الجيش الإسرائيلي، الذي لا يكتفي بالسيطرة، بل يقوم باقتحام ومداهمة هذه المناطق عندما يريد. وحسب عملي فإن عملية سجن شعب بكامله، تمثل نموذجاً غير مسبوق من الاحتلال، فرض نفسه بالإرهاب والتخويف.
أصبح شارون موضعاً لإعجاب الأوروبيين والغربيين، بفضل "عملية صناعة الوعي" التي تقوم على مبدأ أن الحرب يمكن تسويغها على الدوام، باعتبارها تمثل سعياً دؤوباً ودائماً من أجل السلام. لذا، ووفقاً لهذه القاعدة: فإن كل من يحارب، فهو يحارب من أجل السلام، وبالتالي، فعندما يسجن شارون الشعب الفلسطيني ويقصفه بالقنابل والصواريخ من الجو، ويسرق وينهب أراضي هذا الشعب، ويهدم المنازل، فإنه يفعل ذلك لأنه يحارب.. "يحارب من أجل السلام"، دون أن ينتبه أحد، في الغرب، إلى أن شارون قد فعل ذلك وهو يعمد إلى تقويض كل فرص السلام، وبالتالي كم يبدو خاطئاً، عندما ينظر الغرب إلى شارون باعتباره يمثل جانب السلم في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
تقاعد شارون من الحياة السياسية، ورغم ذلك، فليس هناك أية دلائل أو مؤشرات لأي تغيير أو تبديل حدث أو سوف يحدث في السياسة الإسرائيلية، بل وعلى العكس من ذلك، فما زال الإرث الشاروني ماثلاً وحياً بقوة في هذه السياسة. ويبدو أن من أبرز الأسباب الكامنة وراء ذلك، يتمثل في أن هذا الإرث الشاروني بقي مخمراً لفترة طويلة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، والتي ظلت لفترة طويلة تمثل الكيان الفعلي، والعامل الأكثر هيمنة على التوجهات والمؤسسات الإسرائيلية.
تمثل المؤسسة العسكرية العامل السياسي الأكثر ثباتاً وديمومة وخطورة في إسرائيل، وقد أشار إلى هذه الحقيقة أحد المحللين الإسرائيليين في عام 2001، عندما قال: «خلال السنوات الست، التي أعقبت عام 1995، كان هناك في إسرائيل، خمسة رؤساء وزارة، وستة وزراء دفاع، وفقط رئيسا أركان..». إذاً، المؤسسة العسكرية أكثر استقراراً وثباتاً من المؤسسة السياسية المتقلبة.
كذلك فهناك مودة وصلة وثيقة في إسرائيل بين المؤسسة العسكرية والمؤسسة السياسية، حيث ظل الجنرالات في كل المراحل ينتقلون مباشرة من المناصب العسكرية البحتة، إلى المناصب الحكومية الرفيعة، الأمر الذي أدى إلى دعم وتوطيد المكانة والدور السياسي للجيش الإسرائيلي خلال فترة شارون، الذي كان يؤكد دائماً على أن القرار السياسي السليم، لا بد أن يتم صنعه أولاً في أروقة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
وهكذا، أصبح جنرالات وقادة الجيش يدلون بتصريحاتهم للصحافة والإعلام الإسرائيلي والدولي، حول أكثر المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية حساسية، وأيضاً يجرون اتصالاتهم ومباحثاتهم مع البعثات الدبلوماسية، ويضعون الخطط السياسية للحكومة الإسرائيلية، كي تقوم بتنفيذها، ولا تفوتهم أي فرصة إلا وعبروا فيها عن وجهات نظرهم.
في مقابل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، يوجد النظام السياسي الإسرائيلي، الذي يعاني من عملية الانحلال والتفكك التدريجي، وهو أمر أصبحت تؤكده المؤسسات الدولية. ومن الأمثلة على ذلك: حدث أن تقرير البنك الدولي الصادر في نيسان 2005، وضع إسرائيل كواحدة من البلدان الأكثر فساداً، وأقل كفاءة في البلدان الغربية (البنك الدولي يصنف إسرائيل في قائمة البلدان الأوروبية الغربية)، وهي تأتي في المرتبة التي تلي إيطاليا مباشرة في معدلات الفساد الحكومي. وتحتل إسرائيل أيضاً المرتبة الأولى في تراتبية الاستقرار السياسي. وقد كان شارون وأولاده متورطين في اتهامات خطيرة بالفساد واستلام الرشاوى. والجدير بالذكر أن أياً من هذه الاتهامات لم يصل إلى المحكمة!! وكذلك، فإن حزب (كاديما)، الذي أنشأه شارون، وأصبح يسيطر حالياً على الحكومة الإسرائيلية، ما هو إلا تجمع لأفراد وشخصيات تفتقر إلى الانتماء الحزبي المؤسسي، إضافة إلى أن الحزب نفسه يفتقر إلى الفروع المحلية المؤسسية. وكل ما في الأمر أن الخطوط العريضة لبرنامجه – المفترض – الذي تم نشره في 22 تشرين الثاني، مكنت قيادة الحزب من تجاوز كل أنواع الممارسات والتقاليد الديمقراطية المعيارية المتعارف عليها، حيث قاموا بتسمية قائمة مرشحي هذا الحزب، دون إجراء أي انتخابات حزبية، أو القيام بأي إجراء يمنحهم تفويضاً من قواعد الحزب، يخولهم القيام بذلك.
أما حزب العمل الإسرائيلي، فقد ظل دائماً عاجزاً عن تقديم بديل عن التوجهات الشارونية. وفقط عندما تنتهي جولة الانتخابات الثانية، يقوم حزب العمل بانتخاب وتسمية أحد (الحمائم) من بين أعضائه، كمرشح لمنصب رئيس الوزراء، وذلك على غرار ما حدث عام 2003، عندما رشح عامرام ميتيزنا، وكذلك في العام الحالي (2006) عندما رشح عامير بيريتز. ورغم الحماس الذي استقبل به هذان المرشحان، إلا أنه تم إسكاتهما بواسطة الضغط من جانب حزب العمل الذي رشحهما، وعن طريق المستشارين الخصوم، إضافة إلى الرقابة الذاتية التي طًُلب منهما أن يفرضوها على أنفسهم، وذلك كي يكون أكثر تناسباً وملاءمة للقيام بأعباء (منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي) الذي يقع في وسط الخارطة السياسية الإسرائيلية، وليس في قمة توجهاتهم السياسية، التي لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن برامج وتوجهات شارون، ويؤكد ذلك تصريح عامير بيريتز، حيث قال فيه بأنه «سوف يحذو حذو شارون أو أولمرت في إدارة كل شؤون إسرائيل المتعلقة بالأمن والسياسة الخارجية» و«ربما يختلف عنهم فقط في المسائل المتعلقة بالشؤون الاجتماعية».
وعلى هذه الصورة، يمكن القول بأن هذين المرشحين يؤكدان عملياً، على أن الأسلوب الشاروني في إسرائيل، هو "الأمثل" للحكم!! وليست هناك أي معارضة يسارية من قبل حزب العمل أو غيره، لا لأسلوب الحكم الشاروني، ولا لهيمنة الجنرالات. وبعد كل انتخابات، يقوم حزب العمل بالانضمام إلى الحكومة، والمشاركة فيها، وذلك على خلفية أن وجود حزب العمل في الحكومة، يقدم صورة (الحمامة) التي يحتاج إليها "صقور" الجنرالات، لتقديمها إلى المجتمع الدولي من جهة، وللاختباء خلفها لتنفيذ أفعالهم الشنيعة، من جهة أخرى.
بسبب تفكك النظام السياسي، أصبحت المؤسسة العسكرية تقوم بتحديد ورسم السياسات التنفيذية. وبرز ذلك بوضوح في الأشهر الأخيرة، التي أعقبت ابتعاد شارون عن الحياة السياسية. وعلى ما يبدو، فإن المؤسسة  العسكرية الإسرائيلية، قد اختارت المضي قدماً لنسف الإرث الشاروني، على يد خليفته إيهود أولمرت. ولهذا السبب يتوجب علينا أن نفهم أن كل ما يحدث حالياً في إسرائيل، هو ثمرة للمساومات التي أوصلت إلى بدايات خطة السلام الجديدة، التي طورها لاحقاً أولمرت نفسه.
ونود أن نشير هنا، إلى أن أولمرت هو مبتكر "اسم" هذه الخطة. أما النسخة الأصلية لها، فتعود إلى أرييل شارون.
في 2 يناير، وبعد فترة قصيرة من خروج شارون، كشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية الخطة المعدة للتطبيق في الضفة الغربية، والتي تستند إلى معرفة الولايات المتحدة المسبقة بأن خطة خارطة الطريق قد أصابها الشلل، وأصبحت ورطة يجب الخروج منها، لأنها فقدت "فرصة القبول"، على أساس الخط السياسي الإسرائيلي الرسمي، الذي يختلق الذرائع دائماً، حول عدم وجود الشريك الفلسطيني المناسب، الذي يعمل بجدية من أجل السلام. وظل الحال كذلك، طوال الفترة التي سبقت فوز حماس في الانتخابات. وكان الطرح الإسرائيلي السائد: أن الحكومة الإسرائيلية، لم تجد بعد القيادة الفلسطينية، التي يمكن اعتبارها شريكاً مناسباً، للتفاوض من أجل السلام.
سبق أن صرح شارون بأن السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس، قد فشلت في الإيفاء بالتزاماتها المتعلقة بمواجهة الشبكات الإرهابية، لذلك، ففي ظروف غياب الشريك الفلسطيني المناسب لإسرائيل، فإن على إسرائيل أن تقوم من جانبها فقط، بتعيين حدودها. وحسب رأيي، فإن ذلك يعني: أن تقرر إسرائيل مقدار ما تريد أن تقتطعه من الأراضي الفلسطينية، ثم تقوم بعد ذلك بأخذه واستلابه فعلاً.
وفقاً لهذه الخطة، فإن التفاوض مع الولايات المتحدة، حسب رأي الجنرالات والسياسيين الإسرائيليين، يجب أن يؤدي إلى توقيع اتفاقية مع واشنطن، تحدد الحدود النهائية الشرقية لإسرائيل. وعلى هذا النحو، فإن الاتفاقية الأمريكية – الإسرائيلية المزمع توقيعها، لا بد أن تتضمن دعماً أمريكياً، وضمانة أمريكية لإسرائيل بـ (إنجاز وإكمال سريع للجدار العازل، الذي سيصبح في المستقبل ستاراً حدودياً حقيقياً).
عشية الانتخابات الإسرائيلية، كشف أولمرت هذه الخطة، التي أصبحت لاحقاً الخطة الرسمية للحكومة الإسرائيلية الجديدة، وأطلق عليها: التضامن، أو التماسك. وقد شددت هذه الخطة "الجديدة" على أن الحدود الجديدة لإسرائيل، سوف تتطابق مع مسار الجدار العازل، الذي يجب أن يكتمل بناؤه، قبل البدء في عملية فك الارتباط. ولكي تتحقق هذه الخطة، وتصبح مثمرة في حدها الأقصى، فإن تمديد الجدار العازل إلى الشرق، سيبتلع المزيد من الأراضي الفلسطينية. والجدير ذكره أن أولمرت يتميز بالصراحة المطلقة في التعبير عن وجهات نظره، دون تردد. ويبدو أن الهدف من تصريحاته حول "الخطة الجديدة" هو التأكيد على أن «إسرائيل ما تزال متمسكة بمستوطنات أرييل، معاليا أدوميم، منطقة أورشليم، وغوش إتزيون.؛ إضافة إلى حق السيطرة على غور الأردن.
إن إلقاء نظرة سريعة على "الخارطة الجديدة"، سيكشف لنا حجم الأراضي التي ستقوم إسرائيل بإعلان ضمها وإلحاقها بها، وسوف نكتشف بأنها تعادل 50% من مساحة الضفة – أي تقويض اتفاقية أوسلو التي حددت 40% - ويعتقد أولمرت بأن الظروف السائدة حالياً، مناسبة جداً لتعزيز موقف إسرائيل للقيام بذلك، وفرض ما تريده بالقوة على الجميع، بما في ذلك الفلسطينيين، ويعود ذلك إلى أن فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية، سيقنع الغرب بكل سهولة، بأنه لا وجود لشريك فلسطيني مناسب وملائم للتفاوض معه من أجل السلام. وقد قال أولمرت في هذا الصدد: «أصبحت الفرصة سانحة أمامنا، لكي نصل إلى اتفاق دولي حول تثبيت الحدود التي نريدها، بعد انتعاش حماس وصعودها إلى سدة السلطة».
على المستوى المعلن، تتضمن "الخطة الجديدة" إخلاء محتملاً للمستوطنات الواقعة شرقي الحدود الجديدة، مع ملاحظة عدم وجود أي جدول زمني يحدد هذا الإخلاء المذكور. كذلك لم يتم وضع أي قائمة، تتضمن أو تشير إلى المستوطنات التي سيتم إخلاؤها، بخلاف اتفاقية فك الارتباط. وعلى أي حال، إذا ما حدث، وتم الإعلان عن سيناريو إخلاء المستوطنات، فإن ثمة توقعات بأنه سيتم التركيز على الاحتفاظ بالمناطق الفلسطينية، كمناطق مطوقة في الضفة الغربية، بحيث تخضع تماماً للسيطرة الإسرائيلية الكاملة، وذلك على غرار ما حدث في قطاع غزة. وقد كان أولمرت أيضاً صريحاً – كعادته – في هذا الأمر، وبالذات في خطابه الرسمي، الذي أكد فيه على أن القيام بالترتيبات، التي تأتي بعد فك الارتباط، سيكون حصراً للجيش الإسرائيلي، على النحو الذي يحقق له حرية الحركة والعمل في الضفة الغربية، وذلك بنفس الطريقة التي تم اتباعها في مرحلة ما بعد فك الارتباط في قطاع غزة.
إذاً، تهدف خطة أولمرت "الجديدة"، إلى تحويل وصايا "الإرث الشاروني" المتعلقة بالاحتلال والضم، إلى حقيقة واقعة، وذلك لحوالي 50% من الأراضي الفلسطينية، وتشريد أصحابها، إضافة إلى تطبيق خبرة "نموذج سجن غزة الكبير" على المناطق الفلسطينية "المطوقة" المتبقية، ومن ثم يصبح أولمرت بعد القيام بتنفيذ هذا كله: رجل السلام الجديد في إسرائيل.
كم تبدو هذه الفترة الصعبة، ومثيرة لليأس، في ظل انعدام ضوابط القانون الدولي، والعدالة الدولية، أمام المسيرة الشارونية المدمرة.
بعد مرور أقل من عامين، على يوم 9 تموز 2004 - الذي أصدرت فيه محكمة العدل الدولية قرارها حول التبعات القانونية التي ستترتب على الجدار العازل، واعتباره انتهاكاً خطيراً وسافراً للقانون الدولي - صدر أول رد فعل رسمي في إسرائيل. ففي منتصف آب 2004، قدم النائب مناحيم مازوز، تقريراً للحكومة الإسرائيلية قال فيه: «من الصعب التمادي في تضخيم العواقب السلبية على إسرائيل في كل القضايا التي جرها الجدار العازل، لأن القرار يخلق واقعاً سياسياً لإسرائيل على المستوى الدولي، يمكن أن يستخدم لتصعيد الإجراءات ضد إسرائيل، في المحافل الدولية، ويمكن أن يصل إلى درجة فرض العقوبات».
وإذا تمعنا في هذا التقرير جيداً، فإننا نكتشف مدى السرعة التي قامت بها إسرائيل، لتوضيح أن الجدار العازل ما هو إلا حاجزاً سياسياً مؤقتاً «لا بديل عنه لرسم الواقع على الأرض..». أما على مستوى البيئة السياسية الراهنة، فإن إسرائيل تعلن عن نيتها لجعل هذا الجدار حدوداً لها. يحدث كل هذا، دون أن ترف عين الدول الأوروبية لذلك.
رغم كل ما سبق، يمكن القول بأن كل سنوات الضم والاحتلال والتوسع التي قامت بها إسرائيل، لا يمكن اعتبارها سنوات للانتصار؛ فإخلاء مستوطنات غزة، يمكن اعتباره، وفقاً لمعيار السياسة الإسرائيلية، هزيمة؛ خاصة وأن ثمة وجهة نظر سائدة، تقول بأن شارون قد لجأ إلى قرار الإخلاء، لإدراكه بأن الإبقاء على هذه المستوطنات سيكون باهظ التكاليف، إن لم يكن مستحيلاً. ومن ثم فقد قرر بمكر ودهاء اللجوء إلى هدف مركزي بديل، يتمثل في استمرار السيطرة على الضفة الغربية، وتوسيع مستوطناتها.
إن احتلال قطاع غزة باهظ التكاليف، حسب ما رآى التوسعيون الإسرائيليون أنفسهم، وبالتالي، فإن إسرائيل ليست في حاجة لهذه القطعة من الأرض، خاصة وأنها شحيحة الموارد، وتعتبر من أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم. ولكن المشكلة الكبرى، هو أنه يصعب على السياسيين والجنرالات الإسرائيليين، ترك قطاع غزة حراً، طالما أنهم يريدون الاحتفاظ بالضفة الغربية. ولما كان ثلث الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة، يعيشون في قطاع غزة، فإن إعطاءهم الحرية، سوف يؤدي إلى جعل القطاع مركزاً للنضال الفلسطيني من أجل التحرير، باعتبار أن القطاع، وبفضل موقعه الجغرافي، مؤهل للتواصل مع الغرب والعالم العربي. وبناء على ذلك، فإن المتشددين والتوسعيين الإسرائيليين، يرون أنه لكي تتم السيطرة على الضفة الغربية، يجب أن يكون القطاع تحت الاحتلال أيضاً، لكي يتحقق الخيار الأكثر تفاؤلاً: نموذج السيطرة على غزة من أجل الاحتفاظ بالضفة الغربية. لذلك يجب السيطرة على القطاع من الداخل، عبر الجيش الإسرائيلي، بمساندة ودعم المستوطنات، إضافة إلى خلق المبررات "الأخلاقية" للممارسات الفاشية التي يقوم بها جنود الاحتلال، ويعزز "قناعاتهم" بأنهم يقومون بذلك من أجل "حماية الوطن". أما السيطرة على القطاع من الخارج، فمن الممكن أن تكون أقل تكلفة، إلا أنها على المدى الطويل، تفتقر إلى ضمانات النجاح، وذلك حسب رأي السياسيين والجنرالات الإسرائيليين.
بعد سنوات على اتفاقية أوسلو، كان العالم ينظر إلى المستوطنات على أنها مشكلة مأساوية، ولا يمكن حلها رغم نوايا إسرائيل "الطيبة". وقد تلاشى هذا الاعتقاد، حين تم إخلاء مستوطنات قطاع غزة، وشاهد العالم السهولة التي تم بها الأمر.
أنا لا أريد الدخول في التفاصيل، ولكن لي وجهة نظر حول إرث شارون، وما يقال عنه بأنه "بطولة" شارون. أنا أقول إن شارون لم يقم بإخلاء مستوطنات غزة بملء إرادته، بل كان مجبراً على ذلك. وأقول أيضاً بأن شارون قد قام بـ "طبخ" خطته حول فك الارتباط، لكسب الوقت، خلال فترة الضغط الدولي المتصاعد، بعد تخريب خارطة الطريق، وبناء الجدار العازل في الضفة الغربية. وفي رأيي أن السياسيين والجنرالات الإسرائيليين ما يزالون حتى هذه اللحظة، يبحثون عن المزيد من وسائل المراوغة والمداهنة، للتملص من التزاماتهم، وذلك على غرار ما كان يفعله شارون للتنصل من التزاماته السابقة. ورغم كل ذلك، فقد كان مجبراً على الانسحاب من قطاع غزة، رغم أنه بذل جهداً كبيراً لإخفاء الضغوط الدولية في إرغام إسرائيل، خاصة وأن أمريكا نفسها لن تستطيع مساعدته، عندما يتعلق الأمر بحقيقة تقول: إن ثمة أغلبية في الشارع الأوروبي، أصبحت أكثر قناعة بأن إسرائيل هي الكيان الأكثر تهديداً للسلام العالمي.
أما عندما يكون الرأي العام الغربي مغيباً وبارداً إزاء إسرائيل، فإن معاناة الفلسطينيين، لا تعني أي شيء في حسابات الأمريكيين، الذين ظلوا طوال السنوات الماضية يثبتون هذه الحقيقة.

 

الجمل: قسم الترجمة
الكاتب: البروفيسورة: تانيا راينهارت
محاضرة ألقيت هذا الأسبوع في إيطاليا، أمام مؤتمر بييلا

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...