الإقلاع عن حبوب السعادة

19-06-2007

الإقلاع عن حبوب السعادة

زاناكس، ليكزوتانيل، فاليوم، دولسانا، ستيلنوكس... أنافرانيل، توفرانيل، افيكسور، زولوفت، ســـيروكسات... واللائحة تطول بأسماء المهدئات ومضادات الاكتئاب. وهي تتفاوت في المفعول والـــتأثير والمدة، وهذه تطول أو تقصر مع ارتفاع سعر الدواء وتدنّيه. وقد ينجم عن اختلاطها تركيب مخدّر «عجيب»، يسعى وراءه الساعون إلى النشوة والهروب. وهذا الأمر الأخير ليس ضمن نطاق بحث ملحق «أسرة» الذي يحاول هذه المرة، قياس تأثير حالات التوتّر والاضطرابات الأمنية في مدى تعاطي المهدئات الطبية وأدوية الأعصاب.

وللتوتّر النفسي والاضطراب العقلي مسببات كثيرة تختلف مع اختلاف المجتمعات والعقليات والثقافات. وتظهر تأثيرات المسببات بعد وقت على «الصدمة»، وفقاً لمتخصصين في علم النفس العيادي. ونتيجة لوتيرة تلاحق الأزمات والأحداث الأمنية في المناطق الساخنة، لا سيّما في فلسطين والعراق والأردن ولبنان، لم يعد بالمستطاع تحديد الأزمة أو الحدث الأمني الذي كان وراء ظهور أعراض الاختلال النفسي أو العقلي، لدى «مريض» معيّن.

في لبنان، كثيرة هي الحالات المرضية التي تعود أسبابها إلى صدمة تلقاها فرد خلال حدث أمني، ونجم عنها (أي الصدمة) اختلال عابر أو مأساة أو فاجعة. ويرتفع عدد المصابين بأمراض نفسية وعصبية إلى أكثر من 10 آلاف حالة مسجّلة، ويشكلون نحو نصف الحالات المرضية في لبنان، كما يمكن استخلاصه من جدول صرف الأدوية الموصوفة بين 2000 و2004، من موقع وزارة الصحة اللبنانية. ويشير الجدول إلى تصدّر تلك الأمراض اللائحة التي تندرج فيها الأمراض السرطانية والأمراض الأخرى.

لا تخطر في البال ولا في الخيال الطرق التي يتعاطى بها الناس المهدئات الطبية، تحديداً. فإثر احتدام معركة في أحد شوارع، بيروت في 1988، إبان تلك الحقبة من الحرب اللبنانية، لجأ قاطنو مبنى فخم إلى الملجأ «الآمن». وهناك دارت أحاديث وتكهّنات من تحت الأرض، يحسب الذي يتابعها أن «اللائذين» خبراء عسكريون. فجأة، امتدت يد تحميل كيس ورق، فيه كل أنواع المهدئات والمسكنات الدارجة في ذلك الحين. وقالت صاحبة اليد، سوسو (والأسماء في هذه العجالة كلها غفل، للضرورة): «تفضّل، هدّئ من روعك، قليلاً».

وجميلة كادت تنهار في 1996، عندما أبلغها الطبيب بأنها في حاجة ماسّة إلى عقاري «زاناكس» و «سيروكسات»، نظراً إلى حالتها العصبية، هي التي كانت تظنّ أنه مرضها في الكلى، كوالدتها من قبلها. واعتقدت السيدة المتقاعدة عن سن متقدّمة، أنها على «شفا الجنون». والآن، لا تفوت موعد الحبّة.

الروايتان السابقتان تنمّان عن طُرف في موقف كل من السيدتين من تلك الحبوب، فضلاً عن الحالات التي يصف فيها «خبراء التعاطي» الأدوية التي نفعتهم لـ «مريديهم»، خلال أحاديث عن بعض الأعراض الغريبة، كالتفاف الوجع «من أسفل العنق إلى رأس المعدة». ولكن حالة جابر تقترب من المأساة. فهو رجل أربعيني على قدر من الثقافة والعلم، وناجح في عمله. بدأت الأزمات تعصف بحياته منذ الصغر، إثر انتحار والده، وتعاقبت عليه الصدمات خلال الحرب اللبنانية. وفاق تعاطيه مرحلة التعوّد إلى الإدمان. زار أطباء ومعالجين، ولكنّه أخذ يسفّ «الخلطات بما ملكت يُمناي ويُسراي»، كما يعبّر. ودنا مرات كثيرة من الإقدام على الانتحار .

والآن، أصبح أكثر هدوءاً، ولكنّه لم ينفِ ميله إلى استعادة بعض الخلطات، «ولكنني لا أفعل ذلك. صار في رقبتي أطفال»، كما يبرر.

الأمراض النفسية والعصبية تحتاج إلى علاج يطول أحياناً. وقد تنقضي مشكلة ما بمجرّد «الفضفضة» أمام الطبيب أو المعالِج المتخصص. وفي حالات شديدة تحتاج إلى أدوية من مهدّئات، أو مضادات للاكتئاب، أو عقاقير أقوى بحسب الحالة. ومن يحق له وصف تلك الأدوية؟

طبيب الصحة يصف المهدئات أحياناً، إذا وجد أن مريضه واهم، أو حاله «سيكوسوماتية»، أي أن الأخير يشعر بأعراض في جسده لا يجد علّتها طبيب الصحة.

«ولكنه لا يحلّ المشكلة»، كما يقاطع هيثم طالب، وهو طبيب أعصاب، «على رغم أن نحو 75 في المئة من الحالات التي يعالجها، تكون نتيجة لتوهّم، ومعظمها بين النساء. ويشرح أن هؤلاء يأتون إليه، لشعورهم بأعراض جسدية، كالضغط، أو ألم في المعدة أو الرقبة... ويكفيهم، برأيه، علاج لمدة ستة أشهر.

وكشف طالب أن من يأتي إليه، بعد جولة طويلة على أطباء من اختصاصات مختلفة تُعنى بالأمراض الجسدية، يشعر ببعض الراحة، لأنه أحيل على طبيب أعصاب، بينما كان يعتقد أن لديه مرضاً خبيثاً.

ويصوّر طالب تطوّر الحالات العصبية المتفاقمة، ككوب ماء يمتلئ نقطة نقطة حتى يطفح. فكثيراً، ما تواجهه حالات هستيرية وإغماء في طوارئ المستشفيات، لدى مرضى تنتابهم بداية أعراض جسدية.

ويلاحظ طالب أن الوعي والثقافة ساهما في نقل الإحالة على طبيب أعصاب أو طبيب نفسي، من الارتياب والشعور بالجنون إلى تفهّم المريض حالته. وأصبح كثيرون يعون أن مرض الأعصاب هو كمرض الجسد، يحتاج إلى علاج بالأدوية. وما استخدام المهدئات إلاّ للراحة والتمهيد للأدوية الأشد، لتأخذ مفعولها.

ويعتمد طالب على مصارحة مرضاه في مصابهم، ويتفاعل معهم على مستوى إنساني، «لأن قسطاً كبيراً من العلاج العصبي، إنساني»، كما يوضح. ويعود مع المريض إلى تاريخه الشخصي والعائلي، لنبش احتمالات اعتلاله عصبياً ونفسياً. فالتفاعل الإنساني يجعل المريض يدرك حاله ويتقبّلها ويعي دور الدواء، ما يزيد من احتمالات الشفاء.

ويعمل طالب في منطقة عكّار، القريبة من نهر البارد حيث تدور المعارك. وهو لم يلاحظ، حالياً، زيادة في عدد زوّاره ولا في الطلب على المهدئات، لأنه يعتقد أن خلال الأحداث الدائرة وأوقات المحن، يتلهى المرء بالأمور العامة فينحرف انتباهه عن مرضه، مضيفاً أن الأعراض النفسية والعصبية قد تظهر بعدما يعمّ الهدوء.

مايكل خوري، وهو معالِج (نفسي) عيادي وأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، لا يحب وصف الدواء «إلاّ عند الضرورة القصوى»، كما يشدّد، كالفصام، مثلاً الذي ترافقه أعراض جسدية معوقة أيضا. فالدواء للمساعدة على تخطي مراحل العلاج.

ويتوصّل خوري إلى تلمّس «الإنسان» في المريض الذي يزوره، للتعرّف على خلفياته الحياتية والثقافية. فلكل مشكلة حل، بقدر المستطاع، ولكل حل وسيلة. وثقافة «المريض» تساهم في طريقة مقاربة الحل، كما يوضح، والمشكلات النفسية لا تفرّق بين الطبقات الاجتماعية، ولا بين الإناث والذكور. وأبرز الحالات التي يحاول معالجتها سببها المشاكل الجنسية أولاً، والعائلية ثانياً.

وهو يرى أن المصارحة بالحالة تأتي بعد طمأنته وكسب ثقته. وبداية، تنبغي مجاراة المريض في معاناته. ففي عمله، يتوسّل خوري «التعاطف» (لا الشفقة) وكسب ثقة الزائر، قبل الخوض في المعالجة.

وينتهج خوري في معالجته منهجين. الأول هو النموذج «البيولوجي – النفسي – الاجتماعي» (أنظر الشكل). والنموذج الثاني هو «رأس جبل الجليد». فالمريض، في المرحلة الأولى، لا يظهر لديه غير «رأس» المشكلة. ومن ثم يشرع الطبيب أو المعالِج في النبش في أعماق المشكلة.

زكي محفوض

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...