المد الديني في سورية من الشارع إلى المؤسسات الرسمية

19-05-2006

المد الديني في سورية من الشارع إلى المؤسسات الرسمية

الجمل ـ تحقيق: سعاد جروس

فيما كانت مكبرات الصوت تصدح بأغنية "حبيبي يا محمد يا رسول الله" ذات اللحن الغربي، في أحد أكبر أسواق دمشق التجارية، كان التلفزيون السوري ينقل على الهواء مباشرة وقائع حفل موسيقي شرقي في قصر المؤتمرات، يظهر في الصف الأول من الحضور عدد من الوزراء ورجال الحكومة وعقيلاتهم، بينهم على الأقل سيدتان محجبتان، في مشهد خارج عن مألوف المشاهد الرسمية. فقد درجت العادة أن يكون المسؤول أو رجل الحكومة من المنتمين لحزب البعث "الحزب الحاكم" ذي التوجه العلماني، ومن النادر ظهور سيدة محجبة الى جانب زوجها المسؤول في الاحتفالات العامة. وفي حفل عشاء ضم مجموعة من البعثيين وعائلاتهم، طلب بعثي مخضرم رفع المشروبات الكحولية من على الموائد، بسبب وجود متدينين في الحفل، وقد امتثل جميع الحاضرين لهذا الطلب، وحين سُئل إذا ما كان البعث تخلى عن علمانيته، ضحك ممازحاً: لا أعتقد، لكننا نريد حفظ خط الرجعة!
فيما يعتبر مصعب الجندي وهو بعثي ذو اتجاه ديمقراطي من وجهة نظره الشخصية أن ظاهرة التدين هي نتيجة فشل أصحاب الأفكار العلمانية في زرع تلك الأفكار في الأذهان، وهو فشل في الأداء وليس الفكر، ويقول الجندي: مازلت مؤمناً بالأفكار العلمانية لكننا فشلنا في التعامل مع مجتمعاتنا، من حيث الأداء السياسي  والإقتصادي والثقافي...إلخ ، الأمر الذي نجم عنه فراغ جعل المجتمعات تتجه بشكل طبيعي نحو ملئه من المخزون الحضاري؛ والمخزون الحضاري يرتكز بشكل اساسي على الفكر الديني. وهو أمر لا يدعو للتخوف وإنما قد يثير الريبة على المدى القريب فقط.
ما جرى في العراق، يعتبر "الصورة الأوضح لفشل الفكر التقدمي العلماني"، من وجهة نظر الجندي. والمد الديني بعد احتلال العراق افرز دعوات طائفية انعزالية، انعكست سلبياً على اجتياح مظاهر التدين للشارع العام. ووضعها في خانة الشك، فقبل الاحتلال الأمريكي، لم يكن ملحوظاً انتشار بث الأغاني الدينية بصوت مرتفع خارج زمان ومكان مناسبة ما، ولم تكن صلوات التراويح خلال شهر رمضان تسمع سوى في محيط الجامع الأموي والجوامع الكبرى في المدينة، ومثلها أيضاً التراتيل الكنسية في منطقة باب توما والقصاع خلال شهر الصوم الكبير وعيدي الميلاد ورأس السنة.
في السنوات الثلاث الأخيرة بدأت مظاهر الاحتفالات الدينية تتجاوز أحياء بعينها لتعم كافة مناطق مدينة دمشق، في استعراض ديني ينطوي على كثير من المبالغة الإدعاء، فهو وإن بدا كأحد مظاهر الاحتفالات والفرح بالعيد، ينطوي أيضا على إعلان الانتماء لهذا الدين أو ذاك. ولوحظ في السنة الأخيرة أنه بدأ يحظى بما يشبه الرعاية الرسمية، فعيد الميلاد الماضي زُينت شجرة  ضخمة اعتبرت الأكبر في الشرق الأوسط، أقيمت في ساحة جورج خوري وجرى الاحتفال بإشعال أنوارها برعاية رسمية من الدولة وبحضور فعاليات مختلفة، كما وفد الى الساحة أعداد كبيرة من المواطنين من مختلف الانتماءات الدينية والمذهبية، كما أن موكب عاشوراء الذي لم يكن ليتخطى يوماً محيط مقام السيدة زينب، عَبَر خلال العامين الماضيين شوارع دمشق القديمة بالقرب من مقام السيدة رقية خلف الجامع الأموي. ولا يقتصر  الإشهار على طقوس الأعياد المسيحية  ومناسبة عاشوراء. بل أن شهر رمضان الماضي، شهد نقل حي ومباشر عبر التلفزيون السوري لموائد الرحمن في حرم الجامع الأموي، كما تنافست الجمعيات الخيرية على تقديم المعونات بتوزيع حقائب الأغذية والملابس على الأهالي في الأحياء الفقيرة، تحدثت عنها الصحافة بإسهاب، وهو ما كان يتم سابقاً بصمت.
الصحافي والكاتب نبيل صالح رئيس تحرير جريدة "الجمل" الالكترونية، ومع أنه علماني، إلا أنه مهتم بموضوعة الأديان والعقائد و خصص في جريدته صفحة للعقائد وهي المرة الأولى التي تخصص فيه صحيفة سورية إخبارية صفحة للعقائد والأديان، ويقول صالح أن الهدف من الصفحة "التعرف على عقائد السوريين الذي نعيش معهم في مكان واحد، لأن الإنسان عدو ما يجهل" ويتابع أن:" الأديان مستوطنة في سوريا منذ بداية التاريخ  شوكها الى  الداخل، ووردها الى الخارج، بمعنى أن أتباع كل طائفة أو مذهب يظهرون أفضل ما عندهم أمام أتباع المذاهب الأخرى،  بينما هم متشددون على أبناء طائفتهم من الداخل، ومرد ذلك أن مجتمعنا عموماً يميل الى النفاق في التعامل، بسبب المصالح المتداخلة بين الطوائف، وهو نفاق تجاري مدني مفيد عموماً على الرغم من الحساسيات الدينية التاريخية، بينها، ولكي لا نبقى في النظري أعطي مثالاً عملياً : في دمشق القديمة  وبالتحديد في منطقة مدحت باشا، حيث نرى توزع أصحاب المذاهب والديانات على شكل صليب، المسيحيين يقطنون في الشمال الشرقي واليهود في الجنوب الشرقي والسنة في الجنوب الغربي والشيعة في الشمال الغربي، ويوجد تعايش تاريخي فريد من نوعه بين أصحاب هذه الأديان والمذاهب والتي تحمل بدورها أمراض السوق التجاري الذي يخترقها"  


التدين الرسمي


التدين الذي كان سابقاً غير المعلن يتحدث عنه البعض اليوم بتوجس، مع تحوله الى حراك مجهول الاتجاه في الشارع، تمثل بوضوح في أشكال الرد على الرسوم الدنمركية، فعدا إحراق السفارات، انتشرت في كافة أنحاء البلاد ملصقات جدارية تدعو لمقاطعة البضائع الدانمركية، وملصقات أخرى تستنكر الاستفزاز الديني تحت شعار: "إلا رسول الله"، بالإضافة إلى نشر قصائد على أبواب المحال التجارية تنتصر للإسلام وللرسول، وتصب جام غضبها على الغرب المسيء للدين. كما أقامت مديرية الأوقاف بمحافظة دير الزور مسابقة شعرية تحت عنوان "نحري دون نحرك يا رسول الله" والمفارقة أن الفائز الأول في المسابقة كان شاعراً مسيحياً من الجزيرة السورية وهو جاك صبري الشماس. وهي حركة لافتة، تشير إلى أن المد الديني تجاوز الشارع ليصل الى المواقع الرسمية، حتى المتمثلة بالإعلام كواجهة للدولة، وبات واضحاً أن السلطة تسعى الى إخراج التدين من الحيز الخاص الى العام، للتمكن من تحديد وجهته، والسيطرة عليه.  فقد اعتاد الإعلام الرسمي في العقود الماضية وتحديداً قبل التسعينات على تجنب طرح ما يخص الدين ما خلا تغطية بعض المناسبات الدينية كأعياد الفطر والأضحى والمولد النبوي، وشهر رمضان الذي تخصص له دورة برامجية إعلامية خاصة، كما يمكن التوقف عند المسلسلات الدرامية التي كانت تتحاشى إظهار دين أبطالها، ولوحظ في السنوات الأخيرة ظهور مسلسلات اجتماعية تتناول ظاهر التدين، والتنوع العقائدي في سوريا، كمسلسل "ذكريات الزمن القادم" الذي عرض إثر احتلال العراق ومن جملة الموضوعات التي طرحها موضوع التدين الاجتماعي والتطوع الجهادي، كما صارت صور رجال الدين المسيحي والإسلامي تظهر في الصحف الرسمية ضمن مقالات فكرية دينية، بالإضافة الى استضافتهم في البرامج التلفزيونية لمناقشة قضايا وطنية عامة، خارج موضوع الدين. وهم أمر لم يكن ظاهراً حتى نهاية عقد التسعينيات.


ليس فقط الإسلام


بدأ التمظهر الديني بشكله الاجتماعي باحتلال الحيز العام منذ نحو عقد، ولم  يكن على هذا النحو من الإشهار والعلانية ولا حتى الأريحية، ولأن غالبية السوريين من المسلمين اتخذ طابعاً إسلامياً، تجلى بالإقبال على ارتداء الحجاب الذي ارتفعت نسبته في الشارع على نحو غير مسبوق، وليبدو من جرائه أن المسلمين فقط هم المتمسكون بدينهم، حتى صًوِّر  في الإعلام الخارجي على أنه ارتداد إسلامي، فيما هو في حقيقته ليس ارتداداً بقدر ما هو إشهار لواقع لم يأخذ الفرصة ليعلن على هذا النحو من الحرية. وليصيب بالعدوى ربما غيره من الأديان. ففي إحدى بلدات ريف حمص طالب كاهن الرعية النساء المسيحيات بتغطية شعورهن داخل الكنيسة، وعندما جوبه بالرفض الشديد، طلب أن يتم تغطية الرأس أثناء تناول القربان المقدس، في عودة الغرض منها التأكيد على تعاليم بولس في احتشام النساء، ولدى مناقشة الكاهن في فرض أمر نسيته التقاليد الكنسية في مجتمعنا الشرقي، قال: أن المسلمات يغطين رؤوسهن والمسيحيات يجب ألا يكن أقل احتراماً للكنيسة، وأن يفعلن الأمر ذاته على الأقل أثناء الصلاة. وفي دمشق لم يكن الأمر مختلفاً كثيراً، تبدى برد فعل قوي من جانب رجال الدين المسيحي حيال ملابس الفتيات القصيرة أو الكشف عن أعلى الصدر والظهر، ومنهم من كان يرفض إتمام عقد الزواج إذا كانت العروس أو وكيلتها ترتدي فستاناً مكشوف الكتفين وأعلى الصدر والظهر، وأحياناً إذا كان بين المدعوات من ترتدي فستاناً قصيراً بشكل لافت. وهو ما جعل العروس وغالبية الفتيات يتزودن بشال  يتلفعن به داخل الكنيسة، أو يجلسن في زاوية متواريات عن أنظار الكاهن.
ويقول الصحافي نبيل صالح لا شيء تغير بخصوص ارتداء الحجاب ، في الأربعينات والخمسينات كانت نساء دمشق وريفها يرتدين الملاءة ، والآن يرتدين المنديل، ولا يعتقد أن هناك مد ديني وإنما هناك تسييس ديني، كما يؤكد على أن سوريا على مر التاريخ لم يحدث فيها حروب طائفية أو أهلية، وبالتالي لا بد من إعادة قراءة "الجينيوم التجاري" غير المتطرف ، وهذا له علاقة بالجغرافية والتبادل الثقافي مع أوروبا ، الذي جعل المسلمين في سوريا يختلفون عن المسلمين في مناطق أخرى ، الإسلام في سوريا محافظ وغير متشدد لذا لا خوف من المتدينين. 
ومن جانبه يرى الشيخ الدكتور محمد حبش في هذه الظاهرة "تطوراً طبيعياً، وهي مريحة ولا شيء غير عادي فيها، فهذه هي سوريا خلال التاريخ " ، وعما إذا كان هناك ما يثير المخاوف من تسييس الدين، قال أنه سابقاً كان هناك مشكلة بين النظام مع بعض الإسلاميين وانتهت بخروج الأخوان من سوريا" ويؤكد الشيخ حبش على أن "المشروع الأمريكي  في المنطقة عزز إقبال الناس على التدين لأنه شكل من أشكال رفض لمشروع الهيمنة".
إلا أن التدين ليس حكراً على المسلمين، لقد أصبح تياراً عاماً، يشمل الأطياف الدينية جميعها، لأسباب كثيرة لا تنفصل فيها الأسباب السياسية عن نظيرتها الاجتماعية والاقتصادية ، فالتدين ليس أحد أشكال المقاومة بالمعنى السياسي ، بل هو درع وقائي يجعل القدرة لمواجهة صعوبات الحياة المتزايدة، وإذا عدنا للحجاب من زاوية مختلفة عن النظرة السائدة، سنكتشف أن الحجاب في سورية كان أحد أهم وسائل تحرر المرأة، من حيث تسهيل حركتها في الحيز العام. نلاحظه بقوة عندما نتوقف إزاء نموذج يكاد يشكل غالبية النساء المتعلمات المنخرطات في ممارسة أعمال كالطب والصيدلة والهندسة... إلخ، فالمرأة المحجبة تحظى باحترام أكثر من غيرها في مجتمع محافظ دون أي يعني أن السافرة  لا تنال الاحترام، لكن احتكاك المرأة بالرجال في مجتمع ذكوري يعرضها للكثير من المضايقات، تصبح اقل بكثير عندما تضع حجاباً.


وسيلة تحرر وحماية


السيدة و.ج (30 عام) تفرض عليها طبيعة عملها في العلاقات العامة دخول مكاتب رجال أعمال وموظفين كبار، ولأن العلاقات العامة تعني المزيد من الدبلوماسية واللباقة، فقد يظن الآخرون أن الطريق ممهداً إليها، دون تمييز بين طبيعة عملها وشخصها. تقول إن الحجاب الذي ارتدته جنبها مواقف محرجة كثيرة، وباتت أكثر حرية في التحدث والحركة، كونها وضعت نفسها داخل إطار محدد، لا يتجاوزه الآخرون دون إشارة منها. تاجر دمشقي أسرّ لصديقه بأن زملاءه من التجار يقومون برشوة زوجاتهم بتسجيل بيت أو سيارة لإقناعهن بارتداء الحجاب، والسبب ليس تديناً بل لحماية نسائهم من تحرش الرجال الذين يخالطونهم في الحفلات والمناسبات الخاصة والعامة. وفي نفس الفلك تقريباً، تدور ظاهرة تحجب الأجنبيات المتزوجات من سوريين، وبالأخص منهن بنات أوروبا الشرقية؛ ماريانا وهي زوجة طبيب تقول أنها اضطرت لارتداء الحجاب كي يميزها الرجال في الشارع عن بنات الفرق الاستعراضية اللواتي يأتين من دول أوروبا الشرقية للعمل في الملاهي الليلية. وتضيف ماريانا، رجل الشارع لا يميز بين طبيبة وراقصة، الاثنتان بنظره امرأة روسية شقراء ومتاحة لعلاقة مدفوعة الثمن. ولمست أن السوريين يظهرون مودة كبيرة للأجنبية المحجبة. ومما يسترعي النظر ظاهرة حجاب الأجنبيات المنتشر لدى البائعات الآسيويات اللواتي تفترش بضائعهن أرصفة الأسواق التجارية في دمشق، فهن أيضاً يتشبهن بالمسلمات الدمشقيات فيرتدين المانطو الطويل مع الحجاب الشامي.


امتحان


ومع هذا، لا يمكن الجزم فعلاً، إذا ما كان ارتداء الحجاب تعبير عن تدين حقيقي أم هو وسيلة اجتماعية لحماية الذات، مثلما لا يمكن الحسم فيما إذا كانت المبالغة في إظهار الطقوس والشعائر الدينية لدى أتباع الأديان الأخرى هو تعبير عن التدين أم هي محض استعراض، لتأكيد وجودهم ضمن هذا الموزاييك الشديد التنوع في سوريا؛ ومهما كان فالمد الديني في تصاعد، وهناك من بدأ يتوجس من مخاطره، جراء تفاعل الأحداث في العراق، وحالة الاحتقان الشديدة الناجمة عن الحملات الإعلامية الغربية ضد الإرهاب والتي تصيب غالبية شظاياها الإسلام، وأيضاً حالة الإحباط السائدة في المنطقة العربية عموماً، بعد فشل المشروع النهضوي والمشروع القومي، واستشراء الفساد في ظل أنظمة شمولية منيت بهزائم متتالية تكللت باستباحة العراق، يرفدها مخطط استعماري لفرض مشروع جديد للمنطقة. كل ذلك ساهم في لجوء المجتمعات للاحتماء بالدين والطائفة والعشيرة والعائلة. وإذا كانت الظاهرة انتشرت بفجاجة مؤسفة ودامية وخطيرة في العراق، فإن الدول المجاورة ليست بمنأى عنها. ولعل سعي السلطات السورية اليوم بالتحالف مع السلطات الروحية يصب في إطار احتواء التحولات في المجتمع، ومنعها من السير باتجاهات غير محسوبة.
علماً أن السلطة السورية بعد الثمانينات والمواجهات الدموية التي شهدتها مع فصائل دينية مسلحة، أفسحت المجال للتعبير الديني لكن بشكل مكشوف. فتزايد أعداد المساجد، لتتجاوز اليوم تسعة آلاف مسجد، وفي عام 1982 كما تم الترخيص لمعاهد الأسد لتحفيظ القرآن، لتتجاوز اليوم 1000 فرع في مختلف أنحاء البلاد. ويقول الشيخ الدكتور محمد حبش عنها إنها ""مشروع يهدف إلى ربط الأمة بتاريخها وتراثها وحضارتها من خلال تحفيظ القرآن الكريم ونشر علومه وهي معاهد غير خاضعة للتنظيم معين، وإنما هي "مبادرة من وزارة الأوقاف لتوفير خدمة تحفيظ القرآن في المساجد، وهي عملية طوعية وليس لها موازنة مالية".
والى جانب معاهد تحفيظ القرآن هناك  حوالي 40 مدرسة ذات طابع ديني تدور في فلك الشيخة منيرة القبيسي، وهي مدارس تدرس المناهج التربوية المعتمدة رسمياً في عموم المدارس السورية، يضاف اليها خدمات تدريس دينية، ويقول الشيخ حبش :" أنه خلال أربعة عقود عملت الآنسة الفاضلة  منيرة القبيسي على إعداد الجيل والتربية الدينية والإيمانية في المجتمع، وخلال هذه الفترة حققت نجاحاً واضحاً نظراً لاهتمامها بالأساليب التربوية، لانضمام سيدات خبيرات بالتربية إليها، وظهر تأثيرها بعد أن بدأت تؤسس المدارس  الخاصة  ابتدائية وثانوية حيث كان لهذه المدارس تأثير خاص في الشارع السوري، نظراً لنجاحها، وبات معظم أبناء المجتمع السوري يحرصون على تسجيل ابناءهم فيها ، الأمر الذي وفر لهذه الآنسة  ومجموعتها مزيداً من النجاح  والمحبين من النساء اللواتي انخرطن  معها في العملية التربوية"  
 ويقدر عدد اتباع الآنسة منيرة القبيسي من النساء بـ75 ألف امرأة، منهن مربيات ومدرسات يعقدن حلقات تدريس ديني في المنازل. ومؤخراً نقلت الصحف خبر سماح السلطات بممارسة نشاطهن علناً، علماً أن هذه الحركة التي باتت تعرف بـ"القبيسيات" ليست حركة سرية، وانطلقت من دمشق باتجاه العديد من الدول العربية والأجنبية، ويؤكد الشيح محمد حبش "أنه من الناحية التنظيمية لا يوجد شيء أسمه القبيسيات، ولا يوجد جمعية خاصة تنتمي إاليها المدارس وإن الأمر هو تقديم خبرات الآنسة منيرة و خبرات الفريق المحيط بها  في مجال التعليم الديني لتلك المدارس كما أن هذا النشاط  لم يذهب باتجاه السياسة" ويضيف حبش:"وقوف الآنسة منيرة على مسافة واحدة رجال الدين أكسبها احترامهم، وبالتالي أصبحت مدارسها  بشكل طبيعي رافداً للجيل الذي ينشأ على التربية الدينية " بل أن المنضويات تحتها معروفات للجميع من طريقة ملابسهن التي تشير إليهن حيث يرتدين المانطو الكحلي والمنديل الأزرق الداكن مع جوارب نسائية سميكة، وهذا لا يختلف عن الزي المعاصر للمتدينات الشاميات. سوى من جانب الالتزام بلون معين، أما حراكهن داخل المجتمع الدمشقي، فلم يكن خفياً ولا أسطورياً كما يتم الترويج المعارض له، وأياً كانت أهداف هذه الحركة فإن الظاهر للعيان منها، السعي لتحويل التدين الشعبي الى تدين ثقافي عبر تدريس علوم الدين وتأصيلها بالأخص لدى النساء. أم عمار( 60 عام) معلمة ثانوي، تميل الى العلمانية في توجهاتها وربت بناتها الأربع على هذا التوجه فهي متزوجة من شيوعي سابق، لكنها وجدت نفسها أمام امتحان صعب لدى التحاق أكبر بناتها بحلقة تدريس ديني، فوقعت في الحيرة، بين أن تنهي ابنتها عن تلك اللقاءات وبين إحساسها الداخلي بعدم جواز نهيها عن الاهتداء للدين القويم، كفعل أخلاقي يهذب النفس، وامتثلت الى إرادة ابنتها عندما قررت الأخيرة ارتداء الحجاب رغم ممانعة الأب الشديدة، كما وقفت عاجزة أمام التزام ابنتها بممارسة كافة الواجبات الدينية، فهي لا تستطيع أن تقول لها أن هذا خطأ، ويوماً بعد آخر وجدت نفسها تلتحق بابنتها الى تلك الحلقات، والتي تصفها بأنها لتعليم الفتيات حفظ القرآن الكريم، والتشجيع على العمل الخيري والتعاون في مواجهة الانحلال الأخلاقي. وبسبب ممانعة الزوج انكفأت أم عمار عن الجماعة وكذلك ابنتها بعدما تزوجت، لكنهما لم تغيرا سلوكهما المتدين.


مدارس وجمعيات


وإذا كانت "القبيسيات" تنشط في أوساط النساء، فبموازة كلية الشريعة في جامعة دمشق، التي تخرج سنويا بمعدل 650 طالب، من أصل حوالي8000 طالب في الكلية  فيهم 3500 وهناك عدة مراكز أساسية لتدريس علوم الدين، وهي مدارس تتخذ من التنوير شعاراً لها كـ"مركز الدراسات الإسلامية" الذي يهدف إلى "تقديم خطاب جديد عن الإسلام وبناء جسور للحوار بين المسلمين والحضارات الأخرى". وقد بدأ المركز نشاطه منذ عشرين عاما بعقد الندوات والمؤتمرات وإصدار الأبحاث بشكل شهري، و يشرف عليه الشيخ الدكتور محمد حبش ويقول عنه بأنه: "هيئة مستقلة لا تتبع لأي جهة". كذلك «مدرسة الخزنوي» في منطقة الجزيرة السورية شمال شرق البلاد. وفي حلب، مدارس الشيخ احمد حسون مفتي الجمهورية. وفي دمشق «مجمع أبي النور»، الذي أسسه المفتي العام الراحل الشيخ احمد كفتارو، يضم معاهد عالية لتدريس علوم الدين يتجاوز عددها 22 معهد  يدرس فيها طلاب الدراسات العليا من سوريا و من حوالي ستين دولة عربية وأجنبية ، وهناك حلقات الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي الذي يعطي دروساً أسبوعية في جامع «دينكز» بالإضافة إلى تقديمه برنامج تلفزيوني. جميع تلك المدارس لها أتباع ومريدين بالمئات، ومؤخراً أعلن عن قيام «رابطة علماء بلاد الشام» تضم أكثر من 400 عالم من علماء الشام يمثلون اتجاهات فكرية مختلفة، وتهدف إلى "ترشيد الصحوة الإسلامية، والتعاون والتنسيق مع المنظمات والمؤسسات الدينية في العالم، والدفاع عن الإسلام بالوسائل الحضارية".

لا ينحصر النشاط  الديني الإسلامي على تدريس الدين، بل يمتد إلى نشاط اجتماعي خيري، فهناك حوالي 300 جمعية خيرية ذات توجه إسلامي، من أصل 600 جمعية بينها جمعيات ذات توجه ديني غير إسلامي، تقدم مساعدات مالية وغذائية وطبية للفقراء. وخدمات تعليمية كما تقدم خدمات عقائدية سواء عبر الدروس اليومية أو النشاطات الترفيهية. مثل جمعيتي (المحسنية) و (اليوسفية) اللتان تضمان أعرق مدرستين خاصتين إسلاميتين في دمشق، والجمعية (الخيرية لإغاثة الفقراء)، و(الرحمة والإحسان) و(المبرات الإسلامية) التي تقدم رعاية للتلاميذ وجمعية (التمدن الإسلامي) التي توفر رعاية صحية وتعليمية خيرية، وجمعية( الفرقان للعلوم الشرعية) وهي تعليمية وكذلك (جمعية المحدث الأكبر  الشيخ بدر الدين الحسني) للتعليم الشرعي،
 وبينما تحتل الواجهة الجمعيات والمدارس الخاصة بالمسلمين، تكاد لا تذكر نظيرتها لدى أبناء الأديان الأخرى رغم كثرتها، ما يؤكد محاولة السلطة خلق إسلام رسمي غير مسيس.
الشيخ والباحث حسين شحادة يرى أن الدين لم يتأثر سوى في مرحلتين مرحلة  تسيس الدين ومرحلة التوظيف السياسي للدين، وكلاهما  يشكلان خطورة باستمرار من جانب توتير الواقع الديني" ، مع أنه لا يرى خطورة في تدين الشارع السوري، كون الدين في بلاد الشام عموماً يتسم بالاعتدال وثمة نزوح نحو التصوف.
 ولعل هذا ما يجعل اهتمام الدولة بالتدين الشعبي يترافق  مع رفض لمبدأ الأحزاب الدينية، بتأكيد من المؤتمر القُطري العاشر الذي عقد حزيران العام الماضي بعدم السماح بقيام أحزاب على أساس ديني أو عرقي.  والدكتور محمد حبش الذي أشيع عنه العام الماضي القيام بتأسيس حزب إسلامي، قال أنه حالياً، لا يرى مبررا لقيامه لسببين: أولا: لا يوجد لدينا أحزاب تعادي الإسلام، حتى ننشأ حزباً للدفاع عنه. ثانيا: لا يوجد لدينا حزب يتبنى تفسيراً راديكالياً للإسلام، حتى ننهض لمقاومة هذا التشويه؛ ويرى أن المطلوب الآن وضع قانون للأحزاب يؤسس لتعددية سياسية. أما الشارع الذي يرغب برؤية أحزاب إسلامية في سوريا، فيفضل حبش "الطريقة التركية في حزب العدالة والتنمية بحيث تقوم أحزاب مماثلة تحترم القيم الإسلامية وتدعو إليها ولكنها في الوقت نفسه لا تقوم بإدخال التصنيفات الدينية في الحياة السياسية". 


تأطير


لكن هل خلق اطر للإسلام الرسمي، ومحاولة قولبة المجتمع داخلها، تتمتع بدرجة من الأمان تجعل السلطة مطمئنة إلى احتوائه لاسيما الشباب؟ قد تكون الثقة التي يتمتع بها رجال الدين المتحالفون مع السلطة، عنصر الأمان الوحيد، لكن دونما ضمانات حقيقية، إذ في حال نجحت جهة أو عامل سياسي في إشعال المشاعر الدينية، فمن الصعب السيطرة عليها. وتكشف حادثة إحراق السفارات في دمشق احتجاجاً على الرسوم المسيئة للرسول، عن حد السيف الجارح لظاهرة التدين، إن هي خرجت عن نطاق السيطرة ، وهو ما يجعل التخوف من المد الديني، ليس مجرد مخاوف لا أساس لها. فالشاب الذي تُرك لفترة طويلة أمام خيارات حدية: الدين أو الحزب أو لا شيء؛ وصل اليوم إلى مرحلة بات فيها جاهزاً للفرز وفق تلك الخيارات المسبقة، وأكثر ما يثير التوجس أن يتم فرز المتدينين تبعاً لدعوة سياسية من خارج الحدود، في ظرف سياسي دولي  يجير أية تحولات نحو مصالحه. وبالتالي لم يعد ممكنا الثقة العمياء، بأن التدين الشعبي في سوريا بعيد عن السياسة، وحتى لو كان بعيداً عنها فهو جاهز للالتحاق بها.
إلا أن الشيخ حسين شحادة يرى  أنه الآن "تجري عملية مراجعة  حقيقية لبعض الشعارات الدينية التي طرحت في الثمانينات حول الصحوة الدينية، حيث تبين أنه لم يكن هناك صحوة حقيقية ، إنما كان هناك احتماء في الخندق الديني، أمام اجتياحات الخارج. واليوم إذا كان هناك مؤشر إلى العودة إلى الدين، فإن هذه العودة ناتجة عن تداعيات انهيار النظام العربي، واحتماء الشعوب العربية بالدين بوصفه خندق المواجهة والمقاومة لمشاريع الاستيلاء الأمريكي"  ولذلك يضيف الشيخ شحادة " مشروعي  من أجل تحصين الجبهة الدينية في عالمنا العربي وهو أن لا مفر من حوار الأديان لمواجهة الاحتلال الأمريكي الذي يعمل على تثوير  الفتن الطائفية وتفجير ما يسمى بالفوضى الأمنية الخلاقة ـ والتي لا يمكن أن تتم دون إثارة النزعات الداخلية لنقف أمام خيارين إما التنازل عن الثوابت القومية التوحيدية وإما الوقوع في شرك الفوضى" 


توازن


لا يمكن فصل التدين المتنامي في الشارع السوري عن التدين العشوائي المذهبي الذي راح يظهر على نحو واضح في المنطقة عموماً منذ أكثر من عقد، وقد كان لتراجع المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفيتي، دور أساسي في صعود المد الديني، لسد الفراغ الهائل الذي خلفه انهيار جملة من القيم الفكرية والمشاريع الوطنية على الصعيد الداخلي لكل بلد. مع أن مظاهر التدين حالياً تشير إلى العكس، خاصة بين الجيل المتعلم، وتستطيع على سبيل المثال، عُلا ابنة العشرين عاماً، أن تنأى بنفسها عن التسييس، تقول:  "صحيح أني محجبة وأثابر على أداء الفروض الدينية، وأتردد إلى الجامع بين يوم وآخر، لكني لا اقبل الفكر الأصولي التكفيري، ولا استسيغ فكرة العيش في ظل دولة دينية، ثمة نماذج قائمة لهذه الدولة لا تعجبني". وعلى الرغم من عدم انتمائها لأي حزب أو تيار سياسي إلا أنها متابعة نهمة للأخبار السياسية، وبالتحديد ما يخص العلاقات السورية ـ اللبنانية. فهي لا تفوت مقالاً إلا وتقرأه وتناقشه مع زميلاتها، ولا تتردد في طرح الأسئلة الاستفسارية، لتبدو ممسوسة بالسياسة حتى النخاع دون ان يكون في عائلتها أي شخص مسيس. ومثل عُلا كثر من شباب وشابات، وجدوا في الدين الإطار الأنسب لوضعهم على قيد المشاركة والفعل في مجتمعات تضعهم على الهامش.
توازن
ولابد في هذا الوقت ألا نهمل مجموعة من التساؤلات يتم إغفالها عادة، أهمها استبعاد البعد الأخلاقي للدين، عُلا وغيرها من الشباب المتدين  يظهرون تمسكاً واعياً بالدين، يتمثل بارتداء الحجاب، والاقبال على دور العبادة مما يساعد على التوازن بين نقيضين، إذا جاز وصفهما بهذا؛ فمن جهة يقفون أمام إغراء سلع السوق الاستهلاكية بمختلف أنواعها ومستوياتها من الأغاني ولغاية الملابس المكشوفة، ومن جهة أخرى أمام تحدي الهوية المهددة من الخارج بشكل بلغ حد الانتهاك، ليبرز الالتزام بالأخلاق الدينية دونما تعصب، نوع من المصالحة بين ما نعتقد أنه من المتناقضات؛ حيث يكون الدين شعرة السلوك الأخلاقي الضرورية لحماية النفس من التشتت والضياع، ويصح اعتبار الحجاب خير تجسيد له، الحجاب كشكل صريح للتعبير عن هوية محافظة من غير تزمت. وإذا قُرئ من زاوية غير زاوية السياسة ومخاوفها، قد نجد فيه دليلاً على قوة مجتمع يريد حماية نفسه بالدين كحامل أساسي للأخلاق، في مواجهة أشكال الفساد الداخلي والخارجي.
الفساد الخارجي ويتمثل في شكلين، الأول: الاحتلال وما يحمله من ممارسات مشينة تنتهك خصوصية مجتمعات تعتز بدينها وقيمها وتقاليدها، ليكون التمسك بالدين رد فعل طبيعي على المس بالمقدسات، مثلما الثأر خيار وحيد لمجتمع أهينت رجولته في سجن أبي غريب على يد مجندات أمريكيات، واستباحة المرتزقة لأعراض النساء المعتقلات، ومن ثم استخدام الإعلام الغربي والأمريكي لصور الانتهاكات في معارك تخصهم دون أي إحساس بالمسؤولية تجاه حساسية الشعوب الشرقية من إشاعة تلك الصور التي يعادل نشرها الموت، بل ويفوقه أحياناً. الشكل الثاني للفساد الخارجي، ما يتدفق من وسائل الإعلام العربية والغربية من مواد وبرامج تكرس ثقافة الاستهلاك، وتنتهك الجسد بابتذاله، وتميع مفاهيم الحرية والديموقراطية، وتتلاعب بحاجات الشعوب المقهورة، لتزجها في لجة التجاذب أو الصراع بين تطرفين الانحلال الأخلاقي  والتشدد الديني على حساب الاعتدال.   
 أما الفساد الداخلي وهو الأهم، لا يمكن تجاهل أن غياب سلطة القانون، وغياب المؤسسات القادرة على حماية حقوق المواطنة والعيش الكريم، تعتبر العامل الأكبر في تعزيز سلطة المؤسسة الدينية ليس للاحتماء بها وحسب، بل لفرض قوانينها الأخلاقية في مواجهة استشراء التسيب، وهو أحد أسباب الرئيسة لشيوع الحجاب في الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات، في ما يشبه الاحتجاج على استفحال الفساد، من هنا فأن رفع الخوف عن المجتمع، ومكافحة النهب وتعزيز سلطة القانون، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الحكومية والأهلية، وإنعاش الحياة السياسة وإعادة تأهيل المجتمع فكرياً وثقافياً وسياسياً، هي السبيل الوحيد لترشيد المد الديني، ومنعه من الانحراف نحو مسالك التطرف، إذ لا يمكن منع الأفراد والجماعات من البحث عن وسائلهم الخاصة لتحصين أنفسهم، في حال لم تتمكن الدولة من حمايتهم. مثلما لا يمكن منع الأخلاق من التمظهر دينياً. وريثما تبتدع هذه الأجيال الشابة التواقة للحياة والعيش الكريم، مفاهيم أكثر عقلانية وصلابة لا تتوارى وراء الأديان وتشتبه بها. وفي الوقت نفسه، ألا تُترك نهباً لعمليات النصب والاحتيال التي لا يفوتها التدثر بالدين أيضاً.

 


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...