ما موقف الفكر الفلسفي والإبراهيمي من مسألة التعرف على الله؟

26-08-2020

ما موقف الفكر الفلسفي والإبراهيمي من مسألة التعرف على الله؟

يقول هربرت سبنسر (1820-1903م):  إن الأديان على قدر اختلافها في عقائدها المعلنة تتفق ضمنيًا في إيمانها بأن وجود الكون هو سرٌّ يتطلب التفسير”.

ولما كان مآل ذلك في أغلب الأحيان إلى الاعتقاد بالألوهية، كان لهذه الأخيرة عدة مضامين من بينها اليقين بوجود الله هو أساس كل شيء وبادئه، أما عن دليل وجوده الاستدلالي الذي تجلى في الفكر الأسطوري والديني والفلسفي فأهمها هو الدليل الكوني (الكوسومولوجي، العلية، السببية)، وقد قال به عدة فلاسفة -أهمهم أرسطو (384-322ق.م)- حين تحدثوا عن الإله المسبب الأول أو كما يشاء القول الآلهة أو العقل الخالق، حيث ينص هذا الدليل على أن:

 “الموجودات الحادثة تحتاج إلى تفسير، والأشياء التي تفسرها تحتاج بدورها إلى تفسير، لا يمكن لهذه السلسلة من التفسير أن تمضي إلى ما لا نهاية، إذن لابد أن يكون هناك مفسِّر غير مُفَسَّر والذي نسميه الرب”.


إلى جانب الدليل الكوني يوجد الدليل الغائي الذي قال به أرسطو أيضا وسقراط (469-399ق.م) وأفلاطون (427-347 ق.م) وغيرهم، مفاده وجود معالم وصور في عالمنا تدخل على تنظيمٍ متقنٍ وتنوعٍ وترتيب، من خلال علّة وعقل أحدثها في ما تنص عليه هذه الجمل “الكائنات العضوية لها سماتٌ عضوية، الكائنات العضوية لابد أن تكون نتيجة تخطيط، الكائنات العضوية لا تخطط نفسها، ولا يخططها البشر، إذن هناك مخططٌّ غير بشري، والذي نسميه الرب . فالتصميم الذكي الذي ينادي به حتى الآن عدة أشخاص في العالم سواء علميا أو دينيا مهما علت مراتبهم يتضمن الدليل الأخير. و كلا الدليلين -الكوني مع الغائي- يتضمنان فكرة الخلق ووجود الإله، وقد نادى بهم أو بأحدهما عدة علماء وفلاسفة قديمًا كما ذكرنا إلى فلاسفة العصور الوسطى؛ أمثال بوئثيوس، وتوما الإكويني، وابن سينا، وابن رشد إلى العصر الإليزابيثي وعصر النهضة وما بعده؛ أمثال غوتفريد ليبنتز وجون لوك وايمانويل كانط، وجورج باركلي.

أما فلاسفة المدرسة المادية -ولو أنه يحلو للبعض تخيل بُعد أصحاب هذه المدرسة عن هذه الدلائل بسبب نزعتهم المادية- إلا أن فكرة الغائية والكوسمولوجيا الإلهية ظلت تصاحبهم بطريقةٍ غير مباشرةٍ أو تتخلل فرضياتهم؛ فالمسبب أو المكون الأول للعالم هو أحد عناصر الأرض ومواده مثل الماء الذي قال به طاليس الملطي (624-546ق.م) والهواء الذي قال به انكسمانس (585-528ق.م)، أو العناصر الأربعة التي قال بها أمبيدوقليس (490-430ق.م). وهناك من دمج بينهما مثل الرواقيين الذين رأوا في النار أصل الوجود بحيث تكون في نفس الوقت أشبه بإله مستحقٍ العبادة.

وبهذا نشأت الإلهيات الطبيعية والكونية التي تقر بوجود الإله عن طريق خلقه وإبداعه للعالم وصفاته ونظامه مع وحدته وقد انتهجت هذا الأمر معظم الأديان والمعتقدات في العالم منذ ما قبل الميلاد خصوصًا تجليها في عصر البروتولتريت أي نشأت الكتابة التي مهدت لقيام الحضارات. 

فكتب السومريون والبابليون في جنوب العراق عدة أساطير وقطع أدبية تتحدث عن الخلق والتنظيم من قبل الإله، وهذا نص من أحدها يعود إلى النصف الثاني من الألفية الثانية ق.م“عندما آنو وانليل وآيا الآلهة العظام


خلقوا السماء والأرض، أرادوا أن تكون الإشارة ظاهرة


فثبتوا المنازل على أسسها ورسموا مواضع الكواكب


حددوا مواضع النجوم ووضعوها على مساراتها، رسموا فوق صورهم النجوم في مجموعات كوكبية


قدروا زمن النهار والليل، وخلقوا الشهر والسنة،رسموا للقمر والشمس مسارهما


هكذا اتخذوا قرارهم بصدد السماء والأرض”.


في نص آخر من مصر القديمة نجد نص في بردية هونيفر واني ونخت “يسبح و يمجد رع حيث يقول التسبيح:


أنت الإله الأوحد الذي نشأ في بداية الزمن


أنت الذي خلقت الارض وشكّلت الإنسان


وأنت الذي أوجدت مياه السماء وخلقت قنوات الماء


أنت الذي خلقت حابي وقت الفيضان


وأنت الذي وهبت الحياة لكل ما وجد


أنت الذي حبك ثبت الجبال معًا


أنت الذي جعلت الإنسان وحيوانات الحقول تأتي إلى الوجود


أنت من خلقت السماء والأرض


العباد لك يا من تعانقه ماعت.

أما عند التقدم إلى ما بعد ميلاد المسيح فإننا نجد الفيلسوف بوثيئوس في كتابه عزاء الفلسفة يورد:

“يا خالق السماء المرصعة بالنجوم
أيها الجالس على عرشك الأبدي
تدير السماء دورانا رشيقًا
وتعنو الأنجم لسنتك
بأمرك يسطع القمر تارة بدرًا مكتملًا
إذ يستقبل ضوء أخيه (الشمس)
فتخبو له الأنجم الضئيلة
وطورًا يحول محاقًا
يفقد كل ضياءه المستعار”. 

لقد اشتهرت بعض القصص التي تتحدث عن العلاقة بين العلية والغائية مع فطرة الإنسان في وصوله إلى الرب وخالق الكون، ومنها قصة حي بن يقظان لكاتبها ابن طفيل (1110-1185م) التي أخذت حيزًا كبيرًا من الشهرة ومن الدراسات التي انكبت عليها.

فحي بن يقظان كان يعيش وحيدًا في أحد الجزر بعدما أجبر على ذلك منذ مولده، لم تصل لحي بن يقظان أي رسالات للأديان لكنه ما فتئ يشعر بعظمة الإله من فطرته وإحساسه الذي حضه على تأمل آيات الكون (الدليل الكوني والغائي) والوصول إليه منذ موت الظبية التي كانت ترعاه. وبذلك فإن الإحساس الفطري والاستدلال من العلية والغائية واستعمال العقل قد جعله يعرف حقيقة وأصل الوجود، وإنه بذلك عندما التقى بشخصٍ يدعى “اسال” جاء إلى جزيرته وحدثه عن عقيدة الأنبياء، فإن حي قد وجد نفسه يعرف كل ما أدركه ولم يرى فيها شيئا جديدًا على ما يؤمن به إلا طريقتها بإبلاغ هذا الشعور، ما جعله يذهب إلى قرية اسال، ويحاول شرح ذلك لسكانها بالطريقة الصحيحة لكنهم سرعان ما اشمئزوا منه ليعود بذلك إلى جزيرته فيتبعه اسال ويغدو صديقه.
يقول حي بن يقظان: “الفاعل لا يمكن أن يدرك بشيء من الحواس؛ لأنه لو أدرك بشيء من الحواس لكان جسمًا من الأجسام ولاحتاج إلى محدث”.

 وفي هذه التجربة نرى كذلك قصة جان جاك روسو (1712-1778م) في كتابه دين الفطرة التي تتحدث عن قس انعزل في جبال سافوا متجردًا من كل عقيدة دينية مقيدة، وطقوس معينة وتنميطات تجعله يعبد الله عن طريقها، متلمسًا في الأمر طريق العبادة الفطرية الكونية بوحده، يقول القس في ذلك: “أرى وجودهًا في السماوات حين تجري، في الكوكب حين ينير، كما أراه في نفسي بل في الغنم الذي يرعى”. 

كلا التجربتين تناقش مفهوم الدين الكوني الفطري المتجرد من أي تاريخية في تأسيس الأديان ونزعات و إيديولوجيات معينة، وإنها بذلك تفتح بابًا لإمكانية معرفة أي إنسان لخالقه عن طريق نفسه فقط من دون تلمس أية مساعدة.

وكلا التجربتين تتميز بالدليل الكوني والغائي حيث ترعاهما النزعة الفطرية كما نحت ورائها المدرسة الفطرية ذات النزعة الإحساسية التي تفترض أصالة الإيمان أي أنه حقيقة فطرية في نفس الإنسان، وإن جميع المجتمعات منذ ما قبل التاريخ كان لها دين ومن بين من وافق هذا الرأي هو العالم فيلهم شميدت (1868-1954م) وآندرو لانغ (1844-1912م) فأعماق البشر لديها المعرفة والحكمة وخريطة التعرف على وجود الإله منذ ظهوره على الأرض. وإن إحساس الإنسان الذي دله على الإله سواء الإنسان البدائي أو المتحضر لا يمكن له أن يخطئ مثلما قال بنجامين كونستان (1767-1830م) وجان جاك روسو. 

حين نخص بذلك الأديان الإبراهيمية الثلاث في هذه المسألة فإننا على مرأى من الإسلام وهو ثالث وآخر دين إبراهيمي ومتممها، وهو بذلك يبث في مسألة الدليل الكوني والغائي ويؤكد على أنهما آيات تدل على الله بغزارة في آيات مختصرة وواضحة بعدة سور من القرآن الكريم مثل [العنكبوت: 43-44]: “وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، خلق الله السماوات بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين”. حيث يشرحها الطبري: إن في خلقه ذلك لحجة لمن صدق بالحجج إذا عاينها والآيات إذا رآها.
وكذلك هذه الآيات الواردة في [فصلت: 53]: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق أو لم يكفِ بربك أنه على كل شيء قدير”.

“أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رُفعت”. [الغاشية: 17_18]

“إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الالباب”. [آل عمران: 190]

“قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون”. [يونس: 101].

ما أفضى هذا الأمر بالعديد من العلماء المسلمين المعاصرين لتأسيس الإعجاز العلمي في القرآن بالعودة إلى مثل هذه الآيات منذ مطلع القرن العشرين.

إن أبا حامد الغزالي (1058-1111م) الذي عرف عنه معارضته لمبدأ العلية الطبيعية في ترابط الأمور ووجود مسبباتها بشكل ضروري قد أثبت وجود المسبب الأعظم الذي هو الله، السبب الوحيد لكل شيء في الطبيعة وعالم الظواهر لأنه القادر على خلق الشبع من دون أكل والموت من دون قطع الرقبة فهو المسبب لكل شيء حتى لو لم توجد سلسلة من الأسباب والتي رآها غير ضرورية، ويرى البعض أنه مهد لنظرية الفيلسوف نيكولا مالبرانش (1638-1715م) الذي قال أن الله هو الذي يخلق الفكرة والفعل عند الإنسان فمثلًا احتراق اليد ليس هو الذي يسبب الألم بل هو مناسبة لتدخل الله ليسبب الألم، وحتى تحرك الذراع فالإله هو الذي يقرر أن تتحرك في نفس اللحظة التي يريدها الإنسان. فالغزالي ومالبرانش لا يقولان بمحدث وسبب الكون فقط بل يذهبان إلى منحنى أبعد من ذلك، وهو أن كل شيء سببه الله حتى أفعالنا وقراراتنا وأفكارنا. ولمزيد من المعلومات حول موضوع الغزالي يمكن الرجوع لكتابه تهافت الفلاسفة وكذلك تهافت التهافت لان رشد (1126-1198م). 

 وإلى فطرة معرفة الله والتوحيد فإن الإسلام يشدد ويقر بأن معرفة الله هي الفطرة والطريق الحق في عدة آيات من القرآن وأحاديث نبوية وبهذا فالإسلام يوافق الفطرة أيضًا، كما أن الله أشهد جميع البشرية بمعرفته والاعتراف به إلها.

“فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيّم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون”. [الروم: 30]

“وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بركم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين”. [الأعراف: 172]

عن الرسول (ص) أنه قال: “ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه أو ينصّرانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”.

كما موجود كذلك فكرة التعرف على الواحد الأوحد وقت الشدة كما تقول هذه الآية: “فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاههم إلى البر إذا هم يشركون”. [العنكبوت: 65]

“وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا”. [الاسراء : 67]
وعلى غرار الإسلام نجد أن المسيحية قد ضمنت مفهوم الدليل الكوني والغائي أيضًا تحت ما يسمى “نظام الطبيعة” الدال على الخالق وقد كان من بين الأمور التي أعدت البشرية للتعرف عليه تدريجيا منذ وقت السقوط مع ناموس الضمير ثم الأنبياء إلى الشريعة الموسوية ومن بعدهم المسيح، هذا المفهوم موجود في إنجيل يوحنا فقط من دون الأناجيل الثلاث الأخرى وفي بداية الإصحاح الأول والآيات الأولى كون التلميذ يوحنا ركز على حياة الكلمة “الخالق” أكثر، عكس إنجيل متى ومرقس ولوقا أصحاب اللاهوت التصاعدي ومعنى ذلك أنهم يبدأون التعريف بإنسانية يسوع أولا وميلاده المجيد ثم ألوهيته تصاعديا الشيء الذي لم يكن في إنجيل يوحنا الذي اختار لاهوتا تنازليا أي الإقرار بألوهية المسيح مباشرة كأول شيء ثم التحدث عن ناسوته. 

“في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا في البدء عند الله كل شيء به كان وبغيره لم يكن، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه”.

وفي رسائل أخرى مثل رسالة بولس إلى رومية: “إذا معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات سرمديته و لاهوته”.

أما في [أعمال الرسل: 17 /24-28] فقد جرى الحديث عن نظام الطبيعة مع كلية الحضور الإلهي والعناية الإلهية عند مقابلة بولس للأثينيين

“الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذن هو رب السماء والأرض، لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ولا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج لشيء إذا هو يعطي الجميع حياة ونفس وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على وجه الأرض، وحتم في الأوقات المعينة وبحدود مسكنهم لكي يطلبوا الله لعلهم يتلمسونه فيجدونه مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيدا”.

كما موجود كذلك في نفس المصدر السابق [14 /16-17] “أيها الرجال لماذا تفعلون هذا نحن أيضا بشر تحت آلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا إلى الإله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها الذي في الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيرًا يعطينا من السماء أمطارًا وأزمنة ممطرة ويملأ قلوبنا طعامًا وسرورًا”. 

يقول القديس أثناسيوس (293-373م) في تجسد الكلمة: “وهكذا كان متاحًا لهم إذا رفعوا عيونهم إلى السماء وأدركوا تناسق الخليقة أن يعرفوا مدبرها كلمة الأب”.

أما فيما يخص الفطرة فيقول أثناسيوس: “إن نعمة مماثلة الصورة الإلهية كانت كافية في حد ذاتها لجعلنا نعرف الله الكلمة ونعرف الأب بواسطته غير أن الله إذ كان يعرف ضعف البشر وضع في اعتباره إهمالهم لمعرفة الله حتى إذا لم يهتموا أن يعرفوا الله من تلقاء انفسهم استطاعوا بواسطة المخلوقات أن يتجنبوا الجهل بخالقها”.

فمعرفة الخالق في المسيحية هي فطرة وذلك بسبب خلق البشر على أساس صورة الله وبذلك إن معرفته كامنة في روحهم كما أن فهم معنى صورة الله عليه جدال فالصورة الإلهية عند البعض هي نعمة البر والقداسة أو نعمة الخلود والوجود والذات أو ثالوث العقل مع الروح والذات.

فالفطرة بالمسيحية تسمى التدين الطبيعي أو الإحساس الرباني كما في الكالفينية. 



أما في الديانة اليهودية والأسفار الخمسة الموسوية بالعهد القديم قد لا نجد أي ذكر للسببية والإبداع أو كما يطلق عليهما الدليلين الكوني والغائي باستثناء الآيات الأولى التي تسرد لنا كيفية خلق العالم والإنسان في قالب أسطوري سردي بعيدًا عن الخطاب الموجه للشخص كما موجود في القرآن والعهد الجديد. كما يتم تكرار وجوب عبادة يهوا دون غيره من الآلهة لبني اسرائيل داخل قالب إله قومي لا يختلف عن الآلهة الأخرى، كذلك أقصى ما يمكن أن يقدمه هو فلسطين جنة بني إسرائيل الأرضية من دون التطرق إلى أي مسألة حول الدليلين أو وجوب التعرف على محدث الكون من خلال تأمل آياته.

لكن من جهة أخرى فإننا في أسفار الأنبياء الكبار والصغار لاحقا الأكثر رقيًا وتطورًا في الأدب والتاريخ والدين العبري من الأسفار الخمسة نجد عدة آيات تشير إلى ما نبحث عنه مثل سفر المزامير: “السماوات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يومًا بعد يوم يذيع كلام وليل إلى ليل يبدي علما”. [مزمور: 19]

“إذا رأى سماواتك عمل أصابعك، القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وأين آدم حتى تفتقده”. [مزمور 8:35]

“الآلهة التي لم تصنع السماوات والأرض تبيد من الأرض ومن تحت هذه السماوات، صانع الأرض بقوته مؤسس المسكونة بحكمته وبفهمه بسط السماوات إذ أعطى قولًا تكون كثرة مياه في السماوات ويصعد السحاب من أقاصي الأرض صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه”[آرميا: 11-12- 13] 

غير أن موضوع الفطرة لم تكن واضحة في العهد القديم لأن الأسفار ناقشت مفهوم يهوا ذو القالب القومي وشعب إسرائيل وقضيته أكثر من أي قضية أخرى، خاصة في أسفار موسى الخمس الأولى غير أن الإنسان في التوراة وفي سفر التكوين مخلوق على صورة الله كما تؤمن المسيحية كذلك عبر هذا السفر وبهذا فإن روح أو مجد الله لا يزال في الإنسان منذ ميلاده، وإن فطرته تستدعيه إلى أن يهرع إلى ربه عند حدوث أي أمر طارئ فعبادة الله الحق موجودة في أعماقه التي تضطرب عند حدوث أزمات معينة فتعود إليه كما موجود بهذه الآيات في سفر أرميا المشابهة للقرآن حين يخاطب يهوا سكان يهوذا “أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبًا وتبخرون للبعل وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها ثم تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت الذي دعي اسمي عليه وتقولون قد أنقذنا. [آرميا 9: 9-10]

 لقد كانت عبادة ظواهر الطبيعة انجرافًا من خلال طريق مفهوم الدليل الكوني والغائي وبهذا تم عبادة ظواهر الطبيعة على أساس أنها آلهة وفي نفس الوقت محدثة هذه الظواهر وقد تجلى ذلك في معظم المعتقدات التعددية وقد حاولت المدرسة الطبيعية في محاولتها لدراسة نشوء الدين والآلهة في علم الأديان الذي نضج بداية من القرن العشرين أن تحل هذه الإشكالية وتقدم دليلها

فكان ماكس مولر (1823-1900م) على رأسها يحاول التأكيد على تجذر الألوهية من خلال تأمل الإنسان للطبيعة “يعتبر ماكس مولر من أهم أركان المدرسة الطبيعية حيث يرجع نشأة الدين الى أفعال قوية مارستها الطبيعة على الإنسان فأثارته ويرى أن هناك مرحلتين في نشأة الدين المرحلة الأولى تكمن في العجب والدهشة التي دفعت الإنسان إلى التفكير أنه محاط بقوى مستقلة عن إرادته”.

أما العالم فرانك جيوفنس (1858-1936م) وهو من نفس المدرسة فقد أضاف: “إن التأمل في النظر والتأمل في الظواهر الطبيعية العادية لا يكفي لإثارة الفكرة الدينية، و إنما الذي يثيرها هو الطبيعة الشاذة العميقة فهذه الحوادث الرهيبة تبعث الخوف و الفزع عند الإنسان فتجعله يستفسر عن مصدرها فينسبها لقوة خفية غيبية”.

وإلى جانب ذلك هناك المدرسة العاطفية التي يقوم أساسها على الخوف فالخوف من الظواهر الطبيعية والكوارث هو الذي أوصل الإنسان إلى عبادة إله العالم والإقرار به ومنهم من أضاف إلى الخوف خاصية “الطمع” مثل برونسيلاف مالينوفيسكي (1884-1942م)أما فيما يتعلق بعلم الأساطير فقد انقسم مذهب المدرسة اللغوية الحديثة في دراستها إلى مذهبين المذهب الشمسي الذي كان وراءه ماكس مولر مجددًا والذي يقول بكون الشمس هي مصدر الألوهة و الأسطورة، أما المذهب الآخر فهو المذهب الأرصادي الذي يلقي بالأمر إلى الظواهر الطبيعية من رعد وبرق وقد كانت المدرسة الطبيعية اليونانية القديمة هي أول مدرسة وراء الفكرة القائلة بأن جميع الآلهة هي في الحقيقة ظواهر طبيعية جسدت على أساس أنها آلهة وكل إله يمثل ظاهرة طبيعية معينة.

وبهذا فإن البدائي الممجد لظاهرة طبيعية معينة أو المرتعب من البرق والمتوجس من اضطراب السماء، هذه الظاهرة بالنسبة له لا تعدو على أن تكون مجرد نتيجة من غضب الإله نفسه الذي يتحكم بها أو هو نفسه هذه الظواهر، هذا الأمر الذي يسوقنا إلى التقريب من المؤمن الذي لا ينفك عن التسبيح عند حدوث البرق أو عصف الرياح وهو واقف يفتح فاهه للمنظر الخلاب الذي يراه مسبحَا باسم الإله بدليل أن الله هو موجده فهذه الدلائل مشتركة في معظم الأحيان داخل المعتقدات والفكر الديني ويمكن بذلك أن نتفحص بل نتلمس أثر الدليل الكوسمولوجي والغائي في تاريخ البشرية الفكري. 

كبداية بالإسلام نجد في كتابه المنزل بسورة [فصلت: 37] تحمل هذا النوع من العبادات الطبيعية الوثنية ومعنى المسبب الأعظم في نفس الوقت “و من آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون”.

وفي سورة [الأنعام: 67] التي تشير على الأغلب عن بحث إبراهيم عن ربه ابتداءً من عبادته الكواكب مثل قومه وإيجاده الله في نهاية طريق الوثنية وبداية طريق الإيمان أو توصيل رسالة الله إلى قومه: “فلما جن عليه الليل قال هذا ربي قال لا أحب الآفلين”. وكذلك في هذه الآية: “فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون”. [الأنعام : 78]


فمن الواضح أن القرآن ناقش جميع العبادات الزائغة عن الطريق الصحيح والتوحيد ومعرفة الحق فمن عبادة إلهين في نفس الوقت إلى عبادة بعل والعزى واللات والشمس والقمر والنجوم والكواكب وقد كان بالقرآن نبرة لا تخلو من العتاب لهؤلاء الناس والتذكير بما يفعلون.


في المسيحية نجد الرسول بولس وهو يتحدث عن قصة موسى التوراتية وكيف انحرف شعبها عن عبادة الله إلى عبادة جند السماء والأصنام حيث يقول في الإصحاح في [أعمال الرسل 7: 41-43] “فعملوا عجلًا في تلك الأيام وأصعدوا ذبيحة للصنم وفرحوا بأعمال أيديهم فرحت الله وأسلمهم ليعبدوا جند السماء كما هو مكتوب في كتاب الأنبياء هل قربتم لي ذبائح وقرابين أربعين سنة في البرية يا بيت إسرائيل؟ بل حملتم خيمة مولوك ونجم إلهكم رمفان التماثيل التي صنعتموها لتسجدوا لها فأنقلكم إلى ما وراء بابل”.

يقول القديس أثناسيوس في هذا الأمر عن الإنسان و كيف هي عبادة الطبيعية التي يستوجبها الخوف: “فإن نظروا إلى الخليقة وعبدوها عن خوف فإنهم يرون مع ذلك أنها تعترف بالمسيح ربًا”.

أما في اليهودية فإن العهد القديم فقد كان دقيقا أكثر سواء عبادة أشكال الطبيعة خوفا أو تأملا لجمالها في الأسفار الأخرى للأنبياء

“هكذا قال الرب لا تتعلموا طريق الأمم ومن آيات السماوات لا ترتعبوا، لأن الأمم ترتعب منها وفرائض الأمم باطلة”. [آرميا 10: 2]

وفي سفر الحكمة: “لكنهم حسبوا النار أو الريح والهواء اللطيف أو مدار النجوم أو لجة المياه أو نيري السماء آلهة تسود العالم فإن كانوا إنما أعتقدوا أن هذه آلهة لأنهم خلبوا بجمالها فليتعرفوا كم ربها أحسن منها، إذ الذي خلقها هو مبدأ كل جمال أو لأنهم دهشوا من قوتها وفعلها فليتفهموا بها كم منشئها أقوى منها، فإنه بعظم جمال المبروءات يبصر فاطرها على طريق المقايسة”. [الحكمة 13 :3-6]

“ويبسطونها الشمس والقمر ولكل جنود السماوات التي أحبوها وعبدوها والتي ساروا ورائها والتي استشاروها والتي سجدوا لها”. [آرميا 8: 2] 

إن بحوث الفلسفة وعلم الأديان لم تهرع إلى المؤسسات والمناهج بمحض الصدفة ولم تأتِ إلينا من العدم بل كان ذلك عبر سلسلة من التطور الفكري والديني حيث كانت الأديان تلعب فيه الدور الأكبر والأسبق دومًا بداية من تفسيراتها للكون ومسبباتها إلى التفصيل في موضوع الألوهة. وهذا ما جعل البعض يربط الدين مع العلم فكما يقول خزعل الماجدي (1951م): “إن الدين يحتوي علمًا قديمًا”.

 يقول إريك فروم أيضا (1900-1980م): “كان الإنسان في محاولاته المبكرة للبقاء معوقًا بقصور فهمه لقوى الطبيعة وبعجزه النسبي عن استخدامها على حد سواء فكان أن صاغ نظريات عن الطبيعة واصطنع شعائر معينة للتغلب عليها أصبحت جزء من دينه، وأنا أطلق هذا الجانب من الدين اسم الجانب العلمي السحري لأنه اقتسم مع العلم وظيفة فهم الطبيعة من أجل تطوير التقنيات لتطويعها تطويعًا ناجحًا 

فالدين كان بسلطانه حين لم يكن غيره يفكر ويعطي أجوبة للعالم غير أن الدين اهتم بالمجال المقدس والمدنس معًا، عكس العلم الذي اكتسب صرامته ودقته عبر التجربة والموضوعية والتجرد من كل نزعة وإيديولوجية فكان يطور ذاته كلما اقتضت الضرورة لذلك.

 

 


المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...