القلق الوجودي للمسيح الأخير

09-08-2020

القلق الوجودي للمسيح الأخير

بيتر فيسيل زابفي: ذات ليلةٍ منذ زمنٍ سحيق، استيقظ رجلٌ ورأى نفسه! رأى نفسه عاريًا تحت الكون، بلا مأوى داخل جسده. كل الأشياء تلاشت أمام ناظريه. ذهولٌ على ذهول، ورعبٌ فوق رعب تداعى إلى خاطره.
ثم استيقظت امرأةٌ أيضًا وقالت، لقد حان وقت الخروج والقتل. تناول قوسه وسهمه، ثمرةَ زواج الروح واليد، ومضى إلى الخارج أسفل النجوم. لكنه حين أتت الحيوانات إلى أحواض مياهها، كما توقع أن تفعل على عادتها، لم يعد يشعر بوثبة النمر تسري في دمه، وإنما بأنشودة عظيمة عن أخوة المعاناة بين كل ما هو حي.
في ذلك اليوم، لم يعد بفريسة، وحين وجدوه مع مطلع الهلال التالي، كان يجلس ميتًا عند حوض المياه.


2


أيًا كان ما حدث؟ خرقٌ في عمق نسيج الحياة، مفارقةٌ حيوية، أمرٌ شنيع، حدثٌ عبثي، مبالغةٌ كارثية الطابع. لقد تطرفت الحياة في مبتغاها حتى فجرت نفسها. سلحت أحد الأنواع تسليحًا أثقل من اللازم – بروح عظيمة قلقة، لكنها بقدر عظمتها وبالٌ على راحة باله. سلاحه أشبه بسيف دون مقبض، نصل ذي حدين يشق كل شيء، لكن على من يستخدمه أن يقبض على النصل ويوجهه ناحية نفسه.

ورغم عيونه الجديدة، ظل الإنسان معجونًا بالمادة. امتزجت بها روحه وخضغت لقوانينها العمياء؛ لكنه استطاع أن يرى المادة شيئًا غريبًا عنه، أن يقارن نفسه بجميع الظواهر، أن ينفذ إلى عملياته الحيوية ويحددها. إنه يأتي إلى الطبيعة كضيفٍ لم يدعه أحد، عبثًا يمد ذراعيه ليستعطف خالقه: الطبيعة لم تعد تبالي، أتت معه بمعجزة، لكنها لم تعد تعرفه بعد ذلك. لقد فقد حقه في الإقامة في الكون، أكل من «شجرة المعرفة» وطُرد من «الجنة». إنه عظيم في عالمه القريب، لكنه يلعن عظمته تلك لأنه اشتراها بانسجام روحه وببراءته وسلامه الداخلي في حضن الحياة.
يقف هناك هو ورؤاه، في تساؤل وخوف، بعد أن خانه الكون. الحيوان أيضًا عرف الخوف، أثناء العواصف الرعدية وتحت مخالب الأسد؛ لكن الإنسان أصبح خائفًا من الحياة نفسها – من كينونته نفسها في الحقيقة. الحياة – التي كانت بالنسبة للحيوان أن يشعر بلعبة القوة، بالحرارة والألعاب والسعي والجوع، ثم في النهاية ينحني أمام القانون بالطبع. المعاناة محدودة عند الحيوان، أما لدى الإنسان، فالمعاناة تثقب فيه خوفًا من العالم ويأسًا من الحياة.
حتى حين يبدأ الطفل رحلته في نهر الحياة، فإن هدير شلال الموت يصدح عاليًا في أرجاء الوادي، ويظل يقترب دومًا، وهو يبكي، يبكي في جذل. ينظر الإنسان إلى الأرض فيراها تتنفس كرئة عملاقة؛ كلما زفرت تدفقت الحياة بهيجة من كل مسامها وبلغت عنان السماء، لكنها حين تشهق، فإن أنين التمزق يسري في جموع الكائنات، وتتساقط الجثث على الأرض كزخات المطر. إنه لم يرَ نهايته فحسب، لقد تقلبت القبور أمام عينيه، وسمع نواح الأحقاب الغابرة بين الأطلال البائدة، أحلام الأمهات التي خذلتها الأرض. رفع المستقبل ستاره ليكشف عن كابوس من التكرار الذي لا ينتهي، هدر لا معنى له للمادة العضوية. معاناة مليارات البشر تجد طريقها إليه عبر بوابة التعاطف، ومن كل ما يحدث تنطلق ضحكة تسخر من المطالبة بالعدالة، أعمق مبادئه إلحاحًا.
يرى نفسه يخرج من رحم أمه، يرفع يده في الهواء فإذا بها خمسة أفرع، من أين أتى هذا الرقم خمسة الملعون، وما علاقته بروحي؟ لم يعد يرى نفسه بوضوح – يلمس جسده وهو في غاية الرعب؛ هذا أنت وهذا حد امتدادك لا غير. يحمل طعامًا بداخله، كان بالأمس حيوانًا يرتع بالجوار، ها قد أكلته وجعلته جزءًا مني؛ فما الذي هو أنا وما الذي ليس أنا؟ كل الأشياء متصلة في سلسلة من الأسباب والنتائج، وكلما أراد أن يمسك بشيء تلاشى أمام ناظريه. ثم ما يلبث أن يرى الميكانيكية حتى في ما يبدو كلاً واحدًا وعزيزًا عليه، في ابتسامة حبيبته – ثمة ابتسامات أخرى أيضًا، حذاء ممزق تبرز منه أصابع. في نهاية المطاف، صفات كل شيء ليست سوى صفاته هو نفسه. لا شيء يوجد بدونه، كل سطر يعود ليشير إليه، العالم ليس سوى صدى شبحيٍ لصوته – يقفز صارخًا وهو يريد أن يتقيأ على الأرض ذاته وطعامه الدنِس، يشعر باقتراب الجنون ويرغب في الموت قبل أن يفقد حتى القدرة على ذلك.
لكنه وهو يقف على شفا الموت، يُدرك طبيعته أيضًا، والمغزى الكوني للخطوة الآتية. تبني مخيلته الإبداعية آفاقًا مخيفة جديدة خلف ستار الموت، ويرى أنه حتى هناك ليس ثمة ملاذ آمن. والآن يمكنه أن يميز الخطوط العريضة لحالته الحيوية والكونية: إنه أسير عاجز عند الكون، محبوس ليسقط في احتمالات مجهولة.
منذ هذه اللحظة فصاعداً، صار في حالة ذعر لا يهدأ.
«شعور الفزع الكوني» هذا هو شعور محوري لكل عقل بشري. إذ يبدو حقًا أن الموت هو مصير الجنس البشري ما دام التوصل إلى أي طريقة فعالة للحفاظ على الحياة وإدامتها هو أمر مستبعد في ظل استنفاد المرء كل انتباهه وطاقته في تحمل أو تجنب التوتر الكارثي بداخله.
إن مأساة أن يصبح أحد الأنواع غير صالح للحياة لتطور زائد عن الحد في قدرة واحدة لديه ليست مقتصرة على النوع البشري. هناك على سبيل المثال نوع معين من الغزلان في العصور القديمة قد انقرض لأنه نمت لديه قرون أثقل من اللازم. يجب أن ننظر إلى الطفرات على أنها عمياء، فطريقتها في التطور والظهور ليست لها أي صلة ببيئتها.
في حالات الاكتئاب، يُمكن أن نرى العقل في صورة تلك القرون، في أوج بهائها تصرع حاملها أرضًا.


3

 
لماذا إذن لم ينقرض الجنس البشري منذ زمن بعيد في نوبات الجنون الكبيرة؟ لماذا لا يموت سوى عدد قليل نسبيًا من الأفراد لعجزهم عن تحمل وطأة الحياة لأن الوعي يمنحهم فيها أكثر مما يحتملون؟
يسمح لنا التاريخ الثقافي، وكذلك ملاحظتنا لأنفسنا والآخرين، بالإجابة التالية: يتعلم معظم البشر أن ينقذوا أنفسهم بطرق مصطنعة تقلل من محتوى وعيهم.
إذا استطاع الغزال الكبير أن يكسر أطراف قرونه كل فترة، فربما استطاع أن يبقى لمدة أطول. لكنه مع ذلك سيعاني من الحمى والألم الدائم؛ لأنه في الحقيقة سيعيش خائنًا لفكرته الأساسية، لجوهر تفرده؛ لقد صاغته يد الخلق ليكون «حامل القرن» في عالم البرية. ما جناه من استمرار في الوجود، سيخسره في المكانة، في عظمة الحياة، سيكون وجودًا بلا أمل، مسيرة ليست نحو الأعلى لتوكيد الذات، وإنما إلى الأمام في سلسلة من الحطام الذي لا ينتهي، عرقٌ يدمر ذاته ضد إرادة الدم المقدسة.
إن التلازم بين المعنى والشقاء، في حالة الغزال الكبير والإنسان على حد سواء، هو المفارقة المأساوية للحياة. ففي إخلاصه لتوكيده لذاته ونوعه، حمل آخر غزال أيرلندي شارة المجد التي ورثها عن أسلافه حتى النهاية. أما الكائن الإنساني فينقذ نفسه ويستمر في البقاء. واستعارة لمعانٍ شائعة، فهو يقوم بعملية «كبت» واعيةٍ نوعًا ما لفائض الوعي الذي يؤذيه. وهذه العملية دائمة تقريبًا طوال ساعات صحونا ونشاطنا، وهي شرط للقدرة على التأقلم الاجتماعي ولكل ما يشار إليه عمومًا على أنه الشكل الطبيعي والصحي للحياة.
إن الطب النفسي يقوم حتى على افتراض أن ما هو «صحي» وصالح للحياة هو نفسه ذروة الإنجاز الشخصي. أما الاكتئاب و«الخوف من الحياة» ورفض تناول الطعام وما إلى ذلك فتعامل عادةً على أنها علامات لحالة مرضية وتعالج بعد ذلك. لكن، كثيرًا ما تكون هذه الظواهر رسائل من إحساس عميق جدًا ومباشر جدًا بالحياة، إنها الثمرات المرة لرهافة الفكر أو الشعور التي هي أصل الميول المضادة للحياة. إنها ليست تعبيرًا عن روح مريضة، بل هي سبل الحماية حين تفشل، أو حين يرفضها المرء لأنه يراها -صادقًا- خيانة لأرقى إمكانات الأنا.
كل الحياة التي نراها أمام أعيننا اليوم معجونة، من أعمق أعماقها حتى أظهر مظاهرها، بآليات الكبت الفردية والاجتماعية التي يمكننا أن نرصدها حتى في أدق أشكال الحياة اليومية. ورغم أنها تتخذ أشكالاً كثيرة ومتشعبة، يبدو أن بوسعنا أن نميز على الأقل أربعة أشكال رئيسية، تظهر بطبيعة الحال بكل التوليفات الممكنة، وهي: العزل والارتساء والإلهاء والتسامي.
وما أقصده بالعزل هنا هو الطرد التعسفي الكامل لكل الأفكار والمشاعر المزعجة والمدمرة التي تظهر في الوعي. (كما يقول ألبرت إنجستروم: «لا ينبغي للمرء أن يفكر، فهذا أمر مزعج.») يوجد مثال شديد الوضوح على ذلك، ويكاد يكون وحشيًا، بين بعض الأطباء، الذين لا يرون سوى الجانب التقني لمهنتهم حمايةً لأنفهسم. ويمكن أن ينحدر الأمر إلى بربرية صافية، كما يحدث بين البلطجية التافهين وطلبة الطب، حين يلجؤون إلى انتزاع أي حساسية تجاه الجانب المأساوي من الحياة بوسائل عنيفة (كلعب الكرة برؤوس الجثث وما شابه).
في تفاعلات الحياة اليومية، يظهر العزل في الصمت المتبادل كاتفاق عام: بدايةً ناحية الأطفال، فنتجنب إخافتهم مباشرة وبلا داعي من الحياة التي بدؤوها للتو، ونتركهم ينعمون في أوهامهم إلى وقت يتحملون فيه التخلص منها. وفي المقابل، لا يقوم الأطفال بإزعاج الكبار بذكر الجنس أو الحمام أو الموت في وقت سابق لأوانه. وبين الكبار توجد قواعد «اللباقة»، وهي الآلية التي تتجلى حين يصرف رجال الشرطة رجلاً يبكي في الشارع.
أما آلية الارتساء فتعمل منذ بواكير الطفولة: فالطفل يرى الوالدين والبيت والشارع كمسلمات طبيعية ويمنحه ذلك شعورًا بالأمان. هذه الدائرة هي أول، وربما أسعد، دائرة نعرفها في حياتنا للحماية من الكون، وهو ما يفسر أيضًا وبلا شك ذلك «الارتباط الطفولي» الذي يكثر الجدال بشأنه، ومسألة ما إذا كان ذا صبغة جنسية أم لا ليست مهمة هنا. حين يكتشف الطفل لاحقًا أن تلك النقاط الثابتة ‹عشوائية› و‹عابرة› كغيرها، تتملكه أزمة تشوش وقلق وينظر حوله على الفور بحثًا عن شيء آخر يرتسي عليه أو يتشبث به. «سأذهب إلى المدرسة الإعدادية قريبًا». إذا لم يحدث ذلك الإحلال، فربما تأخذ الأزمة منحى قاتلاً، أو يحدث ما أسميه «تشنج ارتسائي»: حين يتشبث الشخص بالقيم الميتة، محاولاً بأقصى ما يستطيع أن يخفي عن نفسه وعن الآخرين أنها لم تعد مناسبة، ذلك الشخص مفلس روحيًا. ينتج عن ذلك إحساسٌ دائم بعدم الأمان و‹شعور بالنقص› ومبالغة في التعويض وقلق. يأخذ التحليل النفسي تلك الحالة موضوعًا للعلاج، طالما أنها اتخذت أشكالاً معينة، ويكون هدفه أن يستكمل عملية الانتقال إلى نقاط ارتساء جديدة.
قد يوصف الارتساء بأنه نقاط تثبيت أو تشبث داخل الوعي المضطرم أو جدران تشيد حوله. ورغم أنه يحدث في العادة بصورة غير واعية، فقد يحدث أيضًا بصورة واعية تمامًا (فنحن ‹نتبنى أهدافًا›). والمجتمع ينظر إلى نقاط الارتساء المفيدة له نظرة تعاطف، ويقدس من ‹ضحي بنفسه بالكامل› في سبيل نقطة ارتساءه (المصنع/القضية). فهو قد أقام حصنًا عظيمًا في وجه تحلل الحياة، كما أنه يلهم الآخرين من قوته عن طريق الإيحاء. يوجد ذلك أيضًا، في صورة وحشية وعن عمد، بين ‹المنحلين› من الرجال («ينبغي أن يتزوج الرجل في الوقت المناسب، وستأتي القيود من تلقاء نفسها»). هكذا يثبت الشخص ضرورة في حياته، معرضًا نفسه لشر بيّن من وجهة نظره، لكنه راحة للبال، وعاء كبير يحيط ببعض المعقولية حياة لا تفتأ تنزلق إلى الفجاجة. كمثال على ذلك، يقدم هنريك إبسن حالتين مزدهرتين (‹كذبات حية›)، هما يالمار إكدال ومولفيك [في مسرحية البطة البرية]، وليس ثمة فرق بين نقطة ارتسائهما وتلك التي تقوم عليها أركان المجتمع إلا في أن الأولى غير مثمرة من الناحية العملية والاقتصادية.أي ثقافة هي نظام كبير ومعقد من نقاط الارتساء، أقيم على وطائد من الأفكار الثقافية الأساسية. والشخص العادي لا مشكلة لديه مع الوطائد الجمعية؛ الشخصية أن يبني لنفسه، وصاحب الشخصية هو من انتهى من بنائه على أسس غير بعيدة عن الوطائد الجمعية الأساسية الموروثة (الرب/الله والكنيسة/المسجد والدولة والأخلاق والقدر وقانون الحياة والشعب والمستقبل). وكلما اقترب أحد العناصر الحاملة للبنيان من الوطائد الأساسية، كان الاقتراب منه محفوفًا بالمخاطر. وفي العادة، توضع هنا حماية مباشرة عن طريق القوانين الجنائية والتهديد بالملاحقة (محاكم التفتيش والرقابة والنهج المحافظ في الحياة).وتعتمد صلابة كل عنصر إما على كون طبيعته الخرافية لم تتضح بعد أو لكونه يعد ضروريًا على أي حال. ومن ثم يكون التعليم الديني في المدارس، الذي يؤيده الملحدون حتى لأنهم لا يعرفون طريقة أخرى يعلمون بها الأطفال طرق التعامل الاجتماعية.
وحينما يدرك الناس الطابع الخرافي للعناصر أو انعدام جدواها، سيسعون إلى استبدالها بعناصر جديدة («الصلاحية المحدودة للحقائق») – ومن هنا تنشأ كل القلاقل الروحية والثقافية التي تشكل، بجانب التنافس الاقتصادي، المحتوى الديناميكي لتاريخ العالم.
إن السعي إلى امتلاك السلع المادية (السلطة أو النفوذ) ليس دافعه الأكبر هو المتع المباشرة التي توفرها الثروة، فلا أحد يمكنه أن يجلس على أكثر من كرسي ولا أن يأكل أكثر من طاقته. وإنما تكمن قيمة الثروة بالنسبة للحياة في ثراء فرص الارتساء والإلهاء التي توفرها لمالكها.
ومن الثابت، بالنسبة لنقاط الارتساء الفردية والاجتماعية على حد سواء، أنه حين ينهارُ أحدَ العناصر، تحدث أزمة، تزداد خطورتَها كلما اقترب ذلك العنصر من الوطائد الأساسية. وفي إطار دوائرنا الداخلية، التي تتمتع بحماية الأسوار الخارجية، تحدث تلك الأزمات يوميًا ودون ألم تقريبًا (‹الإحباطات›)؛ حتى أن مشاكسة القيم الارتسائية في هذا النطاق يعد (خفة دم أو كلامًا عاديًا أو خمرًا). لكن يحدث في أثناء تلك المشاكسات أن يقول أحدهم شيئًا دون قصد ينفذ إلى العمق مباشرة، فيتحول المشهد من الخفة إلى القتامة، ويحدق رعب الوجود في أعيننا مباشرة، وندرك في لمعة مخيفة أن عقولنا تتدلى كالعناكب من خيوط واهية، وأن جحيمًا يتلظى تحتها.ونادرًا ما تُستبدَلُ الوطائدَ العميقةَ دون تقلصات اجتماعية كبيرة، وخطر الانزلاق إلى التحلل الكامل (دعوات الإصلاح والثورة). في تلك الأوقات، يتزايد اعتماد الأفراد على طرقهم الخاصة في الارتساء، وتزداد حالات العجز عن ذلك، فتظهر حالات اكتئاب وتطرف وانتحار (الضباط الألمان بعد الحرب [الأولى]، والطلاب الصينيون بعد الثورة).
ومن عيوب النظام الأخرى أن جبهات الخطر المختلفة تحتاج إلى وطائد شديدة الاختلاف. وعند إقامة بنية فوقية منطقية فوق كل وطيدة منها، تشتعل أسفلَها صراعاتٍ بين أنماط من الفكر والشعور لا سبيل إلى التوفيق بينها. ثم يتسلل اليأس من بين التصدعات. في تلك الحالات، ربما يتملك الشخصَ هوسٌ بالمتعة التدميرية، فيحطم كامل البنية الاصطناعية التي تقوم عليها حياته منتشيًا في رعب وهو يكنسها ليبدأ من جديد. ينشأُ الرعبُ من فقدان كل القيم الحامية، وتنشأ النشوةُ من انسجامه وتوحده الشديد في تلك اللحظة بأعمق أسرار طبيعتنا، العطب الحيوي، النزوع الدائم نحو الموت.
إننا نحب نقاط ارتسائنا لأنها تنقذنا، لكننا نكرهها أيضًا لأنها تقيد إحساسنا بالحرية. وكلما واتتنا القوة، نستمتع بدفن إحدى القيم الميتة في جنازة مهيبة. وهنا تكتسب الأشياء المادية معنى رمزيًا (النهج الراديكالي في الحياة).
وعندما يتخلص المرء من نقاط ارتسائه الظاهرة له، ولا تبقى داخله سوى النقاط اللا واعية، حينها يسمي نفسه شخصية متحررة.

ومن أشهر طرق الحماية «الإلهاء». يصرف المرء انتباهه عن النوازع الخطيرة داخله بسيل لا ينقطع من الانطباعات الآسرة. وهذا أمر معتاد حتى في سنوات الطفولة؛ فدون إلهاء لا يطيق الطفل نفسه أيضًا وسيضجر قائلاً: «أمي، ماذا أفعل الآن!» وها هي فتاة إنجليزية صغيرة تزور خالاتها في النرويج تخرج من غرفتها قائلة: «ماذا نفعل الآن؟» فترد المربيات ببراعة: انظري، كلب صغير! انظري، إنهم يطلون القصر! والظاهرة أوضح من أن تحتاج إلى شرح أكثر من ذلك. والإلهاء هو على سبيل المثال حيلة ‹الطبقات العليا› وطريقتهم في عيش الحياة. الأمر أشبه بآلة طائرة، مصنوعة من مادة ثقيلة، لكنها تنطوي على مبدإ يجعلها تطير عند تطبيقه. لا بد لها أن تظل في حركة في دائمة، لأن الهواء لا يستطيع أن يحملها طويلاً. ربما ينام الطيار ويستريح بحكم العادة، لكن ما إن يتعطل المحرك حتى تصبح الأزمة حادة.
هذه الحيلة واعية تماماً في الغالب. وستجد اليأس يمرح بالأسفل مباشرة ويندفع في دفقات، كما يحدث في نوبة بكاء مفاجئة. فحين تُستنفد كل خيارات الإلهاء، تحل الكآبة، بدءًا من اللامبالاة الخفيفة إلى الاكتئاب القاتل. والنساء، لكونهن في العموم أقل عرضة لأن يتملكهن التفكير ومن ثم فهن أكثر أمانًا في حياتهن من الرجال، يفضلن استخدام الإلهاء.
يتمثل جزءٌ كبير من مساوئ السجن في الحرمان من معظم خيارات الإلهاء. ولسوء وسائل الخلاص الأخرى أيضًا، سيجد السجين نفسه دومًا على مشارف اليأس. ما يفعله حينها للهرب من المرحلة الأخيرة ينبع من مبدأ الحيوية نفسه [مبدأ وجود قوة خفية تسري في الكائنات]. إنه في تلك اللحظات يختبر روحه داخل الكون، ودافعه الوحيد لذلك هو حالته تلك التي لا تحتمل.
والأمثلة الخالصة على حالة الذعر من الحياة نادرة على الأرجح، لأن آليات الحماية رفيعة وتلقائية وإلى حد ما لا تتوقف أبدًا. لكنّ التخوم المجاروة حتى تحمل علامة الموت، والحياة فيها مجهدة ولا تكاد تحتمل. يظهر الموت دومًا كمهرب، ويتجاهل المرء الاحتمالات بشأن الآخرة، ولأن الطريقة التي نختبر بها الموت تعتمد جزئيًا على مشاعرنا ونظرتنا تجاهه، فقد يكون نوعًا ما حلاً مقبولاً. ولو أن المرء في وقت الوفاة استطاع أن يتصرف كما لو أنه يتخذ وضعية تصوير (كأن يلقي قصيدة أو يأتي بإيماءة معينة، لكي ‹يموت واقفًا›)، أي كنقطة ارتساء أخيرة أو كوسيلة إلهاء أخيرة (كما في مشهد موت الأم ‹آس› في مسرحية بيرجنت لإبسن)، فإن تلك النهاية ليست الأسوأ على الإطلاق. والصحافة، التي تُوظَّف كآلية للإخفاء هنا، لا تعجز أبدًا عن أن تجد أسبابًا لا تثير القلق وراء الظواهر – «يُعتقد أن الانخفاض الأخير في أسعار القمح…».
حين يقدم إنسان على الانتحار بسبب الاكتئاب، فهذه «وفاة طبيعية» نتيجة لأسباب روحانية. إن البربرية الحديثة في محاولة «إنقاذ» المنتحرين تنبع من سوء فهم شنيع لطبيعة الوجود.
إنّ جزءًا محدودًا فقط من البشر هم من يكتفون ببعض ‹التغييرات›، سواء في العمل أو الحياة الاجتماعية أو الترفيه. أما الشخص المثقف فيحتاج إلى روابط، وخطوط، إلى تقدم في التغييرات. لا شيءَ محدودٌ يكفي على المدى البعيد، فالمرء يتحرك دومًا، يحصّل معرفة، يترقى في العمل. تعرف هذه الظاهرة باسم ‹التوق› أو ‹التطلع إلى المفارق أو المتجاوز›. كلما تحقق هدف، يتجه التوق إلى هدف آخر؛ ومن ثم فليس الهدف هو موضوعه، وإنما فعل الوصول إليه نفسه، الميل وليس أعلى نقطة، في المنحنى الذي هو حياة الشخص. وربما تكون السعادة عند الترقي من مجند إلى عريف أكبر منها عند الترقي من عقيد إلى لواء. هذا القانون النفسي المهم يدمر أي إمكانية ‹للتفاؤل التقدمي›.
إن التوق الإنساني ليس مجرد ‹سعي نحو› بل هو بنفس القدر ‹هرب من›. وإذا استخدمنا الكلمة بمعنًى دينيٍّ، سنجد أنها تتحقق بالمعنى الثاني فقط. ففي هذه الحياة، لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذي يتوق ‹إليه›، لكن المرء يعي بوضوح ما الذي ‹يفر› منه، وهو تحديدًا وادي الدموع الأرضي، الحالة الإنسانية التي لا تحتمل. فإذا كان الوعي بهذا المأزق هو أعمق طبقة في الروح، كما أشرت للتو، سنتفهم أيضًا لِمَ يُنظر إلى التوق الديني كخبرة وشعور، على أنه شيء لا يمكن التخلي عنه. لكنّ الأمل في أن يتجسد موضوعه في صورة إلهية، وهو احتمال سعيد في حد ذاته، ينبع في ظل هذه الاعتبارات من رغبة حزينة حقًا.
أما العلاج الرابع للذعر، وهو «التسامي»، فهو يتعلق بإعادة التشكيل بدلاً من الكبت. فمن خلال المواهب الفنية والأسلوبية، يمكن أحيانًا تحويل وجع الحياة إلى خبرات قيمة؛ حيث تَشتبك الاندفاعاتُ الإيجابية مع الشر وتستغله لتحقيق أهدافها، مستندة إلى جوانبها التصويرية أو الدرامية أو الملحمية أو الغنائية أو حتى الكوميدية.
لكن ذلك الاستخدام لا يحدث على الأرجح، إلا إذا خفف الشخص لَسْعَة المعاناة القاسية بوسائل أخرى، أو لم يترك لها زمام السيطرة على العقل. (صورة: لن يستمتع متسلق الجبال برؤيته للهاوية إذا كان يختنق من الدوار؛ ولن يفعل إلا إذا تغلب على مشاعره نوعًا ما – أي نجح في أن «يرتسي» على شيء ما). لكي يكتب المرء عملاً تراجيديًا، فعليه أن يتخلص إلى حد ما من إحساسه الشخصي بالمأساة – أن يخونه – وينظر إليه من وجهة نظر خارجية، وجهة النظر الجمالية. وتختبئ هنا بالمناسبة فرصةٌ لجموح لا سقف له في اللعب مع المفارقات الساخرة، ينزلق للأسف إلى هوة جحيمية سحيقة. هنا يستطيع المرء أن يطارد أناهُ في ساحات كثيرة، مستمتعًا بقدرة طبقات الوعي المختلفة على تعرية بعضها البعض.
هذا المقال هو محاولة نموذجية للتسامي. فالمؤلف لا يعاني، بل هو يُدبّج الصفحاتِ وسوف يحظى بالنشر في صحيفة.
كذلك يظهر نوع من التسامي في ‹استشهاد› السيدات الوحيدات، فهن تكتسبن بعض الإجلال عن طريقه. ومع ذلك، يبدو أن التسامي هو أندر وسائل الحماية التي ذكرت هنا.


4


هل من الممكن أن تطرح «الطبائع البدائية» كل هذه التشنجات والألعاب البهلوانية وتنسجم مع ذواتها في الهناء الصافي الذي يخلقه الحب والعمل؟ أعتقد أنه لكي ندخلهم في عداد البشر بأي حال من الأحوال، فلا بد أن تكون الإجابة لا. فأقوى دعوى يمكن أن نطرحها بشأن الشعوب التي تعيش في الطبيعة هي أنهم نوعًا ما أقرب إلى المثال الحيوي الرائع منا نحن الشعوب غير الطبيعية. فحتى ونحن نتمكن حتى الآن من إنقاذ الأغلبية عند حدوث كل عاصفة، فإن ما يساعدنا على ذلك هي جوانب طبيعتنا التي لم تتأثر بالتحديث إلا بقدر بسيط أو متوسط. فلا بد أن هذا الأساس الإيجابي (لأن الحماية وحدها لا تخلق الحياة، وإنما تعوق تدهورها فحسب) يرجع إلى ما تطور لدينا بالطبيعة من حشدٍ للطاقة في الجسد والأجزاء النافعة في الروح من الناحية الحيوية، تحت وطأة مشقات نابعة تحديدًا من قصورنا الحسي وضعفنا الجسدي وحاجتنا إلى العمل من أجل الحياة والحب.
هذه المساحة المحدودة من الهناء داخل الجبهات هي وحدها التي تتأثر سلبًا بالتقدم الحضاري والتكنولوجيا وإرساء القواعد. لأنه مع الانسحاب المستمر للمزيد من وظائفنا العقلية من المعركة ضد البيئة، فثمة زيادة في «البطالة الروحية». فلا بد أن نحكم على قيمة أي تقدم تكنولوجي بالنسبة للحياة عمومًا بمدى مساهمته في إتاحة الفرصة أمام الإنسانية للشغل الروحي. ورغم تداخل الحدود، فربما تعد أول أدوات التقطيع مثالاً للاختراعات الإيجابية.
أما الاختراعات التكنولوجية الأخرى فتثري حياة مخترعها فحسب، وتمثل سرقة كبرى تُنتزع من احتياطي البشرية المشترك من الخبرات والأنشطة، وينبغي أن تستدعي أقسى العقوبات إذا أتيحت للعموم ضد قبضة الرقابة. إحدى تلك الجرائم، من بين جرائم أخرى عديدة، هي استخدام آلات طائرة لاستكشاف أراضٍ لم تستكشف بعد. فهكذا يدمر المرء بضربة تخريبية واحدة فرصًا ثرية للخبرة لربما استفاد منها الكثيرون إذا استطاع كل منهم، بمشقة، أن يحصل على حصته العادلة*.هذا الظرف على وجه التحديد يلطخ المرحلة الحالية التي تعاني فيها الأرض من حمى مزمنة. فغياب النشاط الروحي الطبيعي (الحيوي) المنشأ، يظهر على سبيل المثال في انتشار اللجوء إلى ‹الإلهاء› (الترفيه والرياضة والراديو – «إيقاع العصر»). ولم تعد نقاط الارتساء تلقى القبول – فكل أنظمة الارتساء الجمعية الموروثة تتلقى سهام النقد؛ ويتسرب القلق والاشمئزاز والحيرة واليأس من خلال الشقوق (‹جثث في السفينة› [بتعبير إبسن]). وتحاول الشيوعية (التي لها انعكاس روحي أيضًا) والتحليل النفسي، اللذان لا يجمعهما شيء آخر بخلاف ذلك، تجديد المهرب القديم بوسائل جديدة؛ إذ يستعينان، على الترتيب، بالعنف والمكر لتحسين الحالة الحيوية للبشر بالقبض على الفائض الحرج من الإدراك لديهم. الفكرة في كلتا الحالتين في منتهى المنطقية، لكنها أيضًا لا تستطيع أن تنتج حلاً نهائيًا. وقطعًا قد يكون في الهبوط المتعمد إلى حضيضٍ قابلٍ للبقاء إنقاذ للنوع على المدى القريب، لكنه لن يتمكن بطبيعته من أن يجد السلام في مثل هذا التنحي، أو هو في الحقيقة لن يجد أيَّ سلامٍ على الإطلاق.

إذا مددنا هذه الاعتبارات إلى نهايتها المريرة، فليس ثمة شك فيما سنصل إليه. لو ظل النوع البشري متمسكًا في سذاجة بوهمه المشؤوم أن الانتصار هو قدره الحيوي، فلن يحدث أي تغيير جوهري. فمع تصاعد أعداده وتلبد الأجواء الروحية، لا مفر من أن تتخذ أساليب الحماية طبيعة وحشية متزايدة.
وسيظل البشر يحلمون بالخلاص والتوكيد الذاتي وبمسيحٍ جديد. ويومًا ما بعد أن يكون مخلصون كثرٌ قد صلبوا على جذوع الأشجار ورجموا في ميادين المدن، حينها سيظهر المسيح الأخير.
حينها سيظهر الرجل الذي سيكون أول من جرُأ على تعرية روحه وتقديمها قربانًا حيًا لأعظم فكرة للنوع البشري، فكرة الموت. رجلٌ سبر أغوار الحياة وأبعادها الكونية، وألمه هو بحجم الألم الجمعي للأرض. كيف لا تنطلق صرخات مسعورة من غوغاء كل الأمم تطالب بموته ألف مرة حين يحيط صوته بالأرض كعباءة وتصدح الرسالة الغريبة للمرة الأولى والأخيرة:«- حياة العوالم نهرٌ هادر، لكن الأرض بِركةٌ وماءٌ آسن.
– آية الموت مكتوبةٌ على جبينكم: فإلامَ تصارعون المصائب الصغيرة؟
– ليس هناك إلا نصرٌ واحد وتاجٌ واحد وخلاصٌ واحد وحلٌ واحد؛
– اِعرفوا أنفسكم: كونوا عقيمين ولتتركوا الأرض صامتةً من بعدكم.»وعندما يقول كلمته، سيتكاثرون عليه، تقودهم القابلات وصناع السكّاتات، ويدفنونه في أظافرهم.
إنه المسيح الأخير. وكما يأتي الابنُ من الأب، فهو من نَسْل ذلك الصياد الميت عند حوض المياه.

*لا أعني بهذا مقترحات إصلاحية كبيرة، وإنما رؤية نفسية للمبدأ.

 
*بيتر فيسيل زابفه،فيلسوف نرويجي 1933،عن ترجمة إنجليزية أنجزها جيزل تانجينز



إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...