حوار مع الفيلسوف اليوناني كورنيليوس كاستورياديس

05-07-2020

حوار مع الفيلسوف اليوناني كورنيليوس كاستورياديس

حاوره: رامين جاهانبوغلو ـ ترجمة: عماد أيوب

* منذ بدايات تدفق قيم الحداثة على بقية العالم قام الخطاب الغربي على مشروع ذي سمة خلاصية، هل من حدود لهذه الخلاصية universalisme التي يُمثّلها الغرب في وجه الثقافات المناهِضة للديمقراطية؟
كاستورياديس: واقعاً، ثمة مستويات عدّة لهذه المسألة التي تبلغ اليوم درجة عالية من المأساوية. فـ”الخلاصية” ليست اختراعًا خاصًا بالغرب. البوذية والمسيحية والإسلام أديان “خلاصية” أيضاً بما أنّ دعوتها تُخاطِب من حيث المبدأ كلّ البشر. إنّ هذا التحوّل يفترض سلفًا إثباتًا يؤدّي إلى التعلّق بعالم من الدلالات (والمعايير والقيم، إلخ)، وهو خاصّ ومغلَق. وهذا الإغلاق هو الملمح الذي يُميّز المجتمعات ذات التّبَعية القويّة، في حين أن التاريخ اليوناني- الغربي يختص بوضع الدلالات والمؤسّسات والتمثيلات التي تضعها القبيلة موضع المناقشة لإعطاء مضمون آخر للخلاصية؛ يرتبط هذا الأمر بمشروع الاستقلال الاجتماعي والفردي، وبِأفكار المساواة والحرية، والحكم الذاتي للجماعات، وحقوق الأفراد والديمقراطية والفلسفة. بيد أننا هنا أمام مفارقة هامّة أخفاها ذوو الخُطَب الطويلة حول حقوق الإنسان، وغموض الديمقراطية، والتأثير التواصلي، والتأسيس الذاتي للعقل، إلخ... فجماعة البانغلوس Pangloss يتمسّكون بِخطابهم الأناني من دون أن يُشوّشهم ضجيج التاريخ الوجداني أو يرعبهم. وتدّعي “قيم” الغرب أنّها كونية، لكن مِنَ المستحيل أن نُغفل التجذُّر الاجتماعي التاريخي للقيم الآنفة الذكر.
* وهل يقبل غير الغربيين بالمشروع الخلاصي المدعى في الغرب ما دام لا يتوافق مع قيمهم؟
- كاستورياديس: حتى يقبل الآخرون - إسلاميون وهندوس- بالعقيدة الخلاصية وبالمضمون الذي حاول الغربُ أن يمنحه لهذه الفكرة، ينبغي أن يخرجوا من إغلاقهم الديني وهُم إلى الآن لم يحاولوا إلا قليلاً. مع الإشارة إلى أن الماركسية الزائفة أو التضامن مع العالم الثالث، بالدرجة الأولى، طُرِحَتَا كبديل مزعوم عن الأديان.
لم تضع الفلسفة الهندوسية العالم الاجتماعي موضع المناقشة، ولماذا كَتَبَ النقّاد العرب في فكر أرسطو حول ميتافيزيقيته ومنطقه، بينما تجاهلوا كلّيًا الإشكالية السياسية اليونانية؟ كذلك يجب انتظار سبينوزا لإيجاد تفكير سياسي للتقليد اليهودي. لكن يمكننا التوقّف عند العوامل التي تزعم أنّ المجتمعات الغربية الغنية غير قادِرة، اليوم، على ممارسة تأثير من شأنه أن يُحرِّر بقية العالم، ويمكن التساؤل لماذا تُساهم تلك المجتمعات في تعرية الدلالات الدينية التي تُوقِف بناء فضاء سياسي، وتَميل ربّما في النهاية إلى تقوية تأثيرها؟.
ما هو “المثال” الذي تقدمه المجتمعات الرأسمالية الليبرالية الى بقية العالم؟ إنه مثال الثراء والقوة التكنولوجية والعسكرية. وقد قَبِلَ الآخرون بذلك، ونجحوا أحيانًا (اليابان، التنانين الأربعة، بلا شكّ). لكن كما تُثبِت هذه الأمثلة، وعلى الضدّ من المُعتقدات الماركسية وحتى “الليبرالية”، لا ينطوي هذا المثال على شيء لجهة انتاج عملية تحريرية.
في الوقت نفسه، تُقدّم هذه المجتمعات لبقية العالم صورة يسود فيها فراغ تامّ من الدلالات. فالقيمة الوحيدة هناك هي النقود، والشهرة الإعلامية والسلطة. وبهذا دُمّرَت المجتمعات، وانحصر الأمر في استعدادات إدارية. وقد صمدت الدلالات الدينية في وجه هذا الفراغ، بل استعادت قوتها. لا ريب في أن هناك أيضًا ما يُسمّيه الصحافيون والساسة “الديمقراطية”، والذي هو في الواقع أوليغارشية ليبرالية. لقد بحثنا بلا جدوى، في طيّات هذه الديمقراطية، عن مثال للمواطن المسؤول، “القادِر على أن يَحكُم وأن يُحكَم” كما يقول أرسطو، ومثال للجماعة السياسة التأمّلية والاستشارية. ضمن الديمقراطية، ونتيجة الصراعات الطويلة السابقة بقيَت الحريات الثمينة والهامّة، ولكن الجزئية؛ دفاعية وسالبة. وهي في الواقع الاجتماعي - التاريخي الفعلي للرأسمالية المعاصرة، تؤدّي عملها شيئا فشيئًا كأداة مُتمّمة للجهاز الذي يُضاعف “المباهج” الفردية. وهذه “المباهج” هي المضمون الوحيد للفردانية الذي يُضجروننا بتكرار الحديث عنه. إذ لا يمكن أن يكون هناك فردانية بحتة، وفارغة. ذلك بأن الأفراد الذين يوصَفون زورًا بأنّهم “أحرار في فعل ما يريدونه” لا يفعلون شيئًا، بل لا يفعلون أي شيء كان. في كل مرّة يفعلون أشياءً مُحدّدة وخاصّة، يرغبون ويُوظّفون بعض الأشياء، ويرفضون أشياء أخرى، ويُطوّرون أنشطةً، إلخ... لكنّ هذه الأشياء وهذه الأنشطة لا يمكن تحديدها حصرًا، ولا على نحو أساسي، من خلال “الأفراد”
وحدهم، بل من خلال الحقل الاجتماعي - التاريخي، ومن خلال المؤسّسة الخاصّة التي يؤلّفها المجتمع حيث يعيشون دلالاته الوهمية. يمكن، بلا شكّ، الحديث عن “فردانية” البوذيين الحقيقيين، حتى لو تعارضت هذه الافتراضات الميتافيزيقية مع افتراضات “الفردانية” الغربية. لكن ما هو المضمون الهامّ للأول؟ إنّه في المبدأ الزهد في الدنيا والإقلاع عن “ملذّاتها”. كذلك، في الغرب المعاصر، “الفرد” الحرّ، السيد، الاكتفائي، الهامّ لم يعد في أغلب الحالات سوى دُمية تقوم لاإراديًا بالحركات التي يفرضها عليها الحقلُ الاجتماعي - التاريخي: كسب المال، والاستهلاك و”الاستمتاع”. إذا افترضناه “حرًا” في إعطاء حياته المعنى الذي “يُريده”، فهو لا “يُعطيها”، في الغالبية الساحقة من الحالات، إلا “المعنى” الشائع، أي اللَّامعنى للتزايد في الاستهلاك. إنّ “استقلاله” يصبح من جديد تَبَعيّة، و”أصالته” هي الامتثالية المُعمّمة التي تسود من حولنا. هذا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك “استقلال” فردي ما لم يكن هناك استقلال جماعي، وما لم يكن يوجد “خلق معنى” للحياة عند كل فرد لا يدخل ضمن إطار خلق جماعي للدلالات. والتفاهة اللَّامُتناهية لهذه الدلالات في الغرب المعاصر هي التي تحكم عجزَه عن التأثير في العالم غير الغربي.

اختفاء المعنى
* في المقابل، أليس السؤال الكبير المطروح اليوم هو معرفة ما إذا كان الدفاع عن محنة الحرية نفسها؟
كاستورياديس: معلوم أنني لا أتحدّث عن اختفاء معنى مُعطى من قبل، ولا أتأسّف عليه. المجتمع المُستقلّ، المجتمع الديمقراطي حقًا، هو مجتمع يضع موضع إشكال كل معنى مُعطى، وفيه يتمّ إطلاق عملية خلق الدلالات الجديدة. وفي مثل هذا المجتمع، كل فرد حرّ في أن يخلق لحياته المعنى الذي يريده. لكن لا معنى من اعتقادنا أنّه يمكن فعل ذلك خارج أي سياق وأي تكيّف اجتماعي - تاريخي. ومع العلم بماهية الفرد على المستوى
الأنطولوجي، فإنّ هذا الافتراض هو تحصيل حاصل. حيث يخلق الفرد معنى لحياته بالمشاركة في الدلالات التي يخلقها مجتمعه، وفي خلقها، إمّا بصفته “مؤلّفًا”، وإما بصفته “مُتلقّيًا” (عامًا) لهذه الدلالات. وأنا أصررتُ دائمًا على أنّ “التلقّي” الحقيقي لعمل جديد هو إبداع. هذا الأمر نراه بوضوح في الحقبتين الكبيرتين من تاريخنا، حيث ظهر في مشروع الاستقلال لأول مرّة أفراد أُعطُوا فعلًا شكلًا فرديًا. إنّ بروز مُبدِعين فرديين فعلًا وجمهور قادِر على أن يقبلَ ادّعاءاتهم يُوازي في اليونان القديمة بروز الدولة المدينية (polis)، والدلالات الجديدة التي جسّدتها: الديمقراطية، التعددية، الحرية، اللوغوس، الصفة الانعكاسية. والموقف مُماثل في أوروبا الغربية الحديثة. طبعًا بقِيَ الفن والفلسفة، وحتى البحث العلمي، لفترة طويلة، مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالدلالات الدينية. لكن الطريقة التي تموضعت فيها مقابل تلك الدلالات كانت قد تغيّرت. وجرى التوصّل باكرًا إلى صور جديدة وأعمال “دُنيوية” أثارها المجتمع وبدا قادِرًا على تلقّيها. لقد أثبت كونديرا ذلك في عمله الروائي، مُبيّنًا “وظيفتها” في زعزعة النظام القائم. كذلك شكسبير الذي لا نجد لديه ذرّة من التديّن. في نهاية القرن الثامن عشر تحرّر الإبداعُ الأوروبي من كلّ معنى “مُعطى مُسبقًا”. ومن “التطابقات” العجيبة للتاريخ أنّ العمل الفنّي الأخير في المجال الديني، وهو le Requiem de Mozart، كُتِبَ سنة 1791 –في الوقت الذي بدأت فيه الثورة الفرنسية بالتركيز على الكنيسة والمسيحية وبعد سنوات على تعريف ليسينغ Lessing فكر الأنوار بوصفه رفضًا لثلاثة أمور: الوحي والعناية والهلاك الأبدي، وقبل سنوات من جواب لابلاس Laplace في ما يخصّ عدم وجود الله في نظام العالم بالرغم من أنّه لم يكن بحاجة إلى هذه الفرضية.إنّ إلغاء المعنى “المُعطى من قبل” لم يمنع أوروبا من الدخول لمدّة مئة وخمسين سنة، من عام 1800 حتى عام 1950، في فترة إبداع خارق في كل الميادين. بالنسبة إلى كبار الروائيين والموسيقيين والرسّامين في تلك الفترة، لا يوجد معنى مُعطى من قبل (والأمر نفسه بالنسبة إلى كبار علماء الرياضيات). ومن الواضح أنّ أي بحث وإبداع للمعنى ينطوي على النشوة - وطبعًا ليس مُفاجئًا أنّ الدلالة الأقوى لأعمالهم هي سؤال مُستمرّ عن الدلالة ذاتها التي من خلالها التحق بروست Proust وكافكا Kafka وجويس Joyce وآخرون بالمأساة اليونانية. لقد انتهت هذه الفترة سنة 1950 (لا ريب أنّه تاريخ “اعتباطي”، لتثبيت الأفكار)، وهذا ليس لأنّنا دخلنا في مرحلة أكثر “ديمقراطية” ممّا سبقها، أو لأننا بلا مفارقة نؤيّد العكس، بل لأنّ العالم الغربي دخل في أزمة، ومنشأ هذه الأزمة تحديدًا هو أنّ العالم الغربي لم يعد يضع نفسه موضع إشكال.

* أليس ثمة علاقة بين الفراغ في المعنى وخسارة هذا الفنّ الكبير الذي تتحدّث عنه؟
كاستورياديس: من الواضح أنّ الأمرين يتوافقان. فالفنّ الكبير هو في الوقت عينه نافذة المجتمع على الفوضى. الفن صورة لا تُخفي شيئًا. ومن هذه الصورة يُظهِر الفنّ على نحو مُبهَم الفوضى، فهو يُشكّك في الدلالات القائمة، وصولًا إلى دلالة الحياة البشرية ومضامينها التي لا يُمكن إنكارها. لقد كان الحبّ محور الحياة الشخصية في القرن التاسع عشر- وكان تريستان في آن واحد الإبراز الأقوى لهذا الحب، والدليل لِما لا يمكن أن يتحقّق إلا في الانفصال والموت. لهذا السبب، ليس من شأن الفنّ الكبير أن يُخالف المجتمع المُستقلّ والديمقراطي بل هو لا يقبل الانفصال عنه. لأنّ المجتمع الديمقراطي يعرف، ويجب أن يعرف أن ليس هناك دلالة مؤكّدة، وأنّه يعيش وسط الفوضى، بل هو بذاته الفوضى التي يجب أن تمنح نفسها شكلًا. وانطلاقًا من هذه المعرفة يخلق المجتمع الديمقراطي معنى ودلالة. وقد علمنا أنّ هذه المعرفة - وذلك يعني المعرفة المُتعلّقة بالموت، التي سنرجع إليها- هي التي يعترض عليها ويرفضها كل من المجتمع والإنسان المُعاصرين. وبذلك يصبح الفن الكبير مستحيلًا، هامشيًا، من دون مشاركة خالِقة من طرف الجمهور.

* هل نفهم من كلامك انه بات من المتعذِّر الدفاع عن صورة الحرية في الغرب الديمقراطي؟
كاستورياديس: ثمّة إجابتان متلازمتان لهذا السؤال:
أ- تُصبح صورة الحرية مُتعذّرًا الدفاعُ عنها من حيث إنّ المرء لا يستطيع القيام بأي شيء حيال هذه الحرية. لماذا نسعى وراء الحرية؟ نسعى وراءها أولًا لأجل ذاتها؛ لكن أيضًا للقيام أشياء عدة. فلو كنّا لا نستطيع أو لا نُريد القيام بِشيء، تتحوّل هذه الحرية إلى الطور الصافي للفراغ. مُروّعًا أمام هذا الفراغ، يلجأ الإنسانُ المُعاصر إلى ملء “أوقات فراغه” إلى الحدّ الأقصى، ويلوذ بالرتابة التي تغوص أكثر فأكثر في التكرار وبوتيرة مُتسارعة.
ب: لا يمكن تمييز اختبار الحرية عن اختبار الموت. (من البديهي أنّ “ضمانات المعنى” تُعادِل إنكار الموت: هنا أيضًا يحضر مثال الأديان المُعبّر). إنّ كينونةً ما - فردًا أو مجتمعًا- لا يمكن أن تكون مُستقلّة ما لم تُوافق على موتها. إنّ الديمقراطية الحقيقية - لا “الديمقراطية” الإجرائية فقط- والمجتمع المُتفكّر في ذاته، والذي يُنشئ ذاته ويمكنه دائمًا إعادة النظر في مؤسّساته ودلالاته، يعيش تحديدًا في اختبار الموت الافتراضي لكل دلالة. وانطلاقًا من هذا يمكنه أن يخلق، وعند اللزوم أن يُشيّد “أنصابًا خالِدة” بوصفها دليلًا، لكل الناس، على إمكانية خلق دلالة بالإقامة على ضفّة البحر.
معلوم أنّ الحقيقة النهائية للمجتمع الغربي المعاصر هي الهروب من أمام الموت، ومحاولة إخفاء موتنا، التي تتمّ بكيفيات عديدة، منها إلغاء الحداد، والتنبيب tubage والوصلات التي لا تنتهي للاستبسال / للعناد العلاجي، وتدريب علماء نفس مُختصّين لأجل “مواكبة” المحتضرين، وأيضًا إبعاد المُسنّين، إلخ...
* إذا لم نستسلم لليأس من الديمقراطية الحديثة، واعتقدنا بِأنّه يجب امتلاك إمكانية خلق دلالات اجتماعية، وألا نصطدم بذلك بخطاب أنتروبولوجي، خطاب توكفيلي (نسبةً إلى توكفيل) بعض الشيء يمتدّ من فوريه Furet حتى غوشيه. أي الخطاب الذي ينصّ على أنّ تطوّر المجتمعات الديمقراطية يجعل الأفراد يجدون ملاذًا في الدائرة الخاصّة، إضافة إلى التفرّد. ثم ألا ينطوي هذا على نزوع بنيوي في المجتمعات الحديثة؟ وعلى عكس ذلك، لو وافقنا على فكرتك، التي تتعلّق بالفعل، ما هي شروط الفعل المُستقلّ في مجتمع ديمقراطي؟
كاستورياديس: إليك أولًا ملاحظة “فيلولوجية”. أعتقد أنّ ثمّة خلطًا يُرخي بظلاله على المُناقشات المعاصرة. إنّ معنى لفظ “الديمقراطية” عند توكفيل ليس سياسيًا بل هو معنى سوسيولوجي. وهو يُوازي، في التحليل الأخير، إلغاءَ المنازل الوراثية، الذي يؤسّس “مساواة في الشروط”، على الأقلّ قانونية. إنّ إقامة تلك المساواة تؤدّي أو يمكن أن تؤدّي إلى خلق جماعة من الأفراد غير مُتميّزين يتمسّكون بِعدم التنويع ويرفضون الامتياز. في النهاية، ظهرت “دولة الوصيّ”Etattutélaire، الأكثر تطوّعًا والأكثر ترويعًا بين الطغاة، وظهر “الاستبداد الديمقراطي” (مفهوم عبثي في نظري لأنّ أي استبداد لا يمكن أن يظهر إلا بتأسيس تنويعات جديدة). يقبل توكفيل بإقامة المساواة التي يراها نزوعًا لا يقبل العكس للتاريخ (هي في نظره مطلوبة من قبل العناية)، لكنّ تشاؤمه يُغذّيه حنينُه إلى الأزمنة القديمة، حيث لم تجعل “الديمقراطية” الامتياز والمجد الفرديَّين مُمكِنَين.
بالنسبة إليّ، وهو ما تعلمونه، المعنى الأول - الذي يتأتّى منه كل ما عداه- لكلمة ديمقراطية هو معنى سياسي: فهي نظام يكون كلّ المواطنين فيه قادِرين على أن يَحكموا ويُحكَموا (كلمتان مُتلازمتان)، نظام تأسيس ذاتي صريح للمجتمع، نظام الانعكاسية والتحديد الذاتي.
بعد طرح ذلك، فإنّ المسألة الأنتروبولوجية هي بلا ريب أساسية. لقد كانت على الدوام محور اهتماماتي، ولهذا السبب، منذ عام 1959 وما تلاه، أعطيْت هذه الأهمية لظاهرة خصخصة الأفراد في المجتمعات المعاصرة، ولتحليلها. لأنّ صيانة المجتمع الرأسمالي الحديث وتوازنه، ابتداء من الخمسينات، تحقّقا من خلال إعادة كلّ منهما إلى دائرته الخاصّة وانزوائه بداخلها (وهو أمر مُمكِن في ظلّ الرخاء الاقتصادي في البلدان الغنية، وأيضًا من خلال سلسلة تحوّلات اجتماعية، لا سيما في موضوع الاستهلاك و”أوقات الفراغ”)، وذلك بالتزامن مع انسحاب “مباشر” (ناتِج بالأساس كن التاريخ السابق) للشعب، ولامُبالاته إزاء القضايا السياسية. ومنذ الخمسينات، قُدِّرَ لهذا التطور أن يتزايد بالرغم من الظواهر المضادّة التي سنعود إليها. بيدَ أنّ المفارقة تكمن في أنّ الرأسمالية لم تستطع أن تنمو وتبقى إلا من خلال الوحدة بين عاملين لكلّ منهما علاقة بالأنتروبولوجيا، وأنّها بصدد تقويضهما كليهما.
العامل الأول تمثّل في النزاع الاجتماعي والسياسي، الذي عبّر عن صراعات بين الجماعات وبين الأفراد من أجل الاستقلال. بيدَ أنّه من دون هذا النزاع، ما كان هناك، على الصعيد السياسي، ما نُسمّيه “ديمقراطية”. إنّ الرأسمالية لا علاقة لها بالديمقراطية (لننظر إلى اليابان، قبل وبعد الحرب). وعلى الصعيد الاقتصادي، من دون الصراعات الاجتماعية، انهارت الرأسمالية منذ عقدين من الزمن. لقد عولِجَت مشكلة البطالة الكامنة من خلال تقليل عدد ساعات العمل اليومية والأسبوع والسنة والعمر؛ ووجد الإنتاج منافذ في الأسواق الداخلية، التي شهدت باستمرار اتّساعًا بفعل النضال العمالي وزيادة الرواتب؛ وجرى تصويب النظام الرأسمالي للإنتاج كيفما اتّفق من خلال الصمود المُتواصِل للعمال.
العامل الثاني هو أن الرأسمالية لم تستطع تأدية عملها لأنّها ورثت من أنماط أنتروبولوجية لم تكن قادرة على خلقها التالي: قضاة لا يقبلون الرّشى، موظّفين نزيهين يعتنقون أفكار فيبر، مُربّين كرّسوا أنفسَهم لِقَدَرهم، عمّال يَملِكون الحدّ الأدنى من الضمير المهني، إلخ... إنّ هذه الأنماط لا تظهر ولا تستطيع الظهور من تلقاء ذاتها، فهي خُلِقَت في فترات تاريخية سابقة، بالإحالة على قيم لا نزاع فيها: الصدق، خدمة الدولة، نقل المعرفة، الكتاب الجميل، إلخ... بيْدَ أنّنا نعيش في مجتمعات أصبحت القيم فيها لاشيء وما نضع له حسابًا هو المبلغ الذي ندّخره من المال، لا يهمّ كيف، ولا عدد مرّات الظهور على شاشات التلفزة. إنّ النمط الأنتروبولوجي الوحيد الذي أبدَعَتْه الرأسمالية، والذي لا بدّ منه في بادئ الأمر لكي تتأسّس، هو المقاول؛ فهو شخص مُتحمّس لِإبداع هذه المؤسّسة التاريخية الجديدة، التي هي الشركة، ولِتوسيعها بصورة دائمة من طريق إدخال مركّبات تقنية جديدة ومناهج جديدة لاختراق السوق. لكنّ هذا النمط نفسه حُكِمَ عليه بالتفكيك نتيجة التطوّر الحالي؛ وفي ماخصّ الإنتاج تمّ إحلال البيروقراطية الإدارية محلّ المقاول، أما في ما خصّ كسب المال فإنّ مضاربات البورصة، وعروض الشراء العمومية OPA والوساطات المالية تدرّ أرباحًا أكثر بكثير من المقاولات. اننا نرى، من خلال الخصخصة، خرابًا مُتزايدًا في الفضاء العامّ، ونكتشف في الوقت نفسه تفكيك الأنماط الأنتروبولوجية التي تحكّمت في وجود النظام.
* لقد وصفتَ “الأوليغارشية الليبرالية” التي تؤدّي عملها بصورة منفردة وهي مسرورة بذلك، لأنها استطاعت أن تُدير أعمالها بهدوء. في الواقع إنّ الشعب لا يتدخّل إلا لاختيار فريق سياسي. هل من المؤكّد أنّ أحدهما يعمل تمامًا كالآخر؟
كاستورياديس: تدلّ أشكال الثورات كالتي حدثت في منطقة فول- أنفيلان Vaulx-en-Velin على إرادة تُشبه الإرادة التي رافقت الحركة العمالية في القرن التاسع عشر وتَعكِس إرادة المشاركة الفاعلة. وعلى عكس ذلك، كان المجتمع الفرنسي قبل خمسين عامًا أقلّ مَيْلًا إلى المشاركة مما هو عليه اليوم، وكان حصريًا أكثر بكثير. ولكن كان ثمّة “تطوّر” في الديمقراطية - حتى وإن من خلال ثقافة وسائل الإعلام. بذلك ليس لنا القول ببساطة إنّ كلّ ذلك ليس إلا طلب يتعلّق بالقدرة الشرائية ودخول الرأسمالية.
يتعلّق الأمر بفهم ما يُنظَر إليه بوصفه جوهريًا أو محوريًا في النظام، وما يُنظَر إليه بوصفه ثانويًا وسطحيًا، أي “ضوضاء”. وبلا ريب تؤدّي الأوليغارشية الليبرالية عملها لوحدها؛ غير أنّه ينبغي أن نفهم أنّها كلّما عملت لوحدها بشكل أقلّ كانت أقوى من حيث هي أوليغارشية تحديدًا. في الواقع، هي “مُقفلة” سوسيولوجيًا (أنظر الأصول الاجتماعية للانتساب إلى المدارس الكبرى، إلخ...)؛ وارتأت أنّ لها مصلحة كبيرة في توسيع أسس الانتساب. ولم تُصبح أكثر “ديمقراطية” - كما لم تُصبح الأوليغارشية الرومانية ديمقراطية عندما قبلت أخيرًا بالرجال الجُدد hominesnovi. من ناحية أخرى، يسمح النظام الليبرالي لها (على عكس النظام الشمولي) بإدراك “الإشارات” الصادرة من المجتمع، حتى خارج الأقنية الرسمية والشرعية، ويسمح من حيث المبدأ بالتفاعل وإصلاح ذات البَين. في الواقع، إنّ الأوليغارشية الليبرالية تفعل ذلك بنسبة أقلّ. إلامَ أدّت ثورة فول-أنفيلان Vaulx-en-Velin (ما خلا تأسيس بعض اللجان الجديدة والمناصب البيروقراطية “من أجل معالجة المشكل”)؟ أين نحن منها في الولايات المتحدة في ظلّ الغيتوات والمخدّرات وانهيار التربية وكل ما عدا ذلك؟
في الواقع، وعلى أثر إخفاق الحركات في الستينيات، و”أزمتَي النفط”، والهجوم الليبرالي المضادّ (بالمعنى الرأسمالي للكلمة)، المُتمثّل حاليًا في الثنائي تاتشر- ريغان والذي انتصر في النهاية في كل العالم، نُلاحظ
وجود جهاز جديد لـ“الاستراتيجية الاجتماعية”. إنّنا نُبقي على الموقف العفويّ والمقبول عند 80 أو 85% من الشعب (الذي بالإضافة إلى ذلك يَعوقه الخوف من البطالة)، ونرمي بِرداءة هذا النظام على 15 أو 20% مِمّن يُشكّلون “الفئة الدنيا” من المجتمع، وهؤلاء لا يمكنهم التفاعل، أو لا يمكنهم التفاعل إلا من خلال العنف والتهميش والمُمارسات الجُرمية: العاطلين عن العمل والمهاجرين في فرنسا وإنكلترا، السود والإسبان في الولايات المتحدة، إلخ...
مما لا شك فيه أن النزاعات والصراعات تظهر هنا وهناك، فنحن لا نعيش في مجتمع ميّت. في فرنسا، خلال السنوات الأخيرة، كان هناك طلاب المدارس والثانويات وعمال سكك الحديد والممرّضات. وكان هناك ظاهرة هامّة: خلق الترتيب، أي شكل جديد لتنظيم ذاتي ديمقراطي للحركات، يُعبّر عن التجربة البيروقراطية وازدرائها - حتى وإن حاولت الأحزاب والنقابات دائمًا ابتلاع هذه الحركات. غير أنّه ينبغي أيضًا أن نلاحظ أنّ هذه الحركات التي تقف في وجه النظام القائم هي غالبًا لها طابع حِرفيّ، وفي كل الحالات هي جزئية جدًا وبالغة التحديد من حيث الأهداف. كلّ شيء يحدث كما لو أنّ الخيبة الكبرى الناتجة من انهيار الخداع الشيوعي والعرض السخيف للعمل الفعلي ﻠ “الديمقراطية” أفضت إلى أن لا أحد يُريد أن ينشغل بالسياسة بالمعنى الصحيح للكلمة، فهذه الكلمة أصبحت مُرادفًا للتنسيق والسمسرة القذرة والأعمال المشبوهة. في كل هذه الحركات أي فكرة تتعلّق بتوسيع النقاش أو الأخذ بالحسبان المشكلات السياسية مرفوضة، تمامًا كما الشيطان. (فنحن لا نستطيع أن نلوم الشيطان عليها، لأنّ الذين يحاولون إقحام السياسة فيها هم عمومًا ديناصورات مُترسّبة، وتروتسكيون أو غير ذلك). وما يسترعي النظر أكثر هم علماء البيئة الذين انزلقوا نحو سجالات سياسية عامّة - في حين أنّ المسألة البيئوية تنطوي بديهيًا على الحياة الاجتماعية الكاملة. القول إنّه يجب إنقاذ البيئة يعني أنّه يجب تغيير نمط حياة المجتمع بالكلّية، وأن نقبل بالانسحاب من السباق الجنوني إلى الاستهلاك. وتلك هي المسألة السياسية والنفسية والأنتروبولوجية والفلسفية المطروحة، في كل عمقها، على الإنسان المعاصر.

* ما المقصود بما تقول.. يبدو لي أن ما ذكرته يثير الالتباس؟
كاستورياديس: لا أقصد بذلك أنّ تعاقب الفعل هو كل شيء أو لاشيء، بل أنّ فعلًا جلِيًا يجب أن يُبقي تحت نظره دائمًا أفق الكلّية، وأن يندرج ضمن المشكل العامّ الاجتماعي والسياسي، حتى لو وجب عليه أيضًا أن يعرف أنّ ليس بمقدوره الحصول إلا على نتيجة جزئية ومحدودة، وهذا المطلب ينبغي على المشاركين أن يأخذوه على عاتقهم.
ومن جهة أخرى، لا يمكن القول، كما تفضّلت، أنّ المجتمع هو اليوم أكثر تضمّنًا، من دون أن نطرح السؤال التالي: فِيمَ هو مُتضمّن؟ هو مُتضمّن في ما يُمثّله هو نفسه، في هذا المزيج من الدلالات الخيالية الغالبة الذي أحاول أن أصِفَه.
* ثمّة نقطة إشكالية ما زالت غامضة ومن دون حسم، لكنّك عالجتها بسطحية. إنّها مشكلة التطوّر التقني. بالإمكان أن أطرح عليك هذا السؤال خصوصاً أنّك أحد الفلاسفة المعاصرين الذين خاضوا نادرًا ميدان العلوم الدقيقة. نعيش في زمنٍ يرى البعضُ فيه أنّ التكنولوجيا مصدر لكل الشرور في العالم. هل تعتقد أنّ التقنية نظام مُستقلّ بالكامل لا يجد المواطن سبيلًا إلى التأثير فيه؟
كاستورياديس: ثمّة واقعتان لا جدال فيهما. أولًا، حقّق التكنو-علم استقلاله. فلا أحد يتحكّم في تطوّره وتوجّهه، وبالرغم من “لجان الإتيقا” (امتنعت المقدّمة السخيفة عن التعليقات، وأضرّت بِخواء الشيء)، لا نجد من يأخذ في الاعتبار الآثار المباشرة والجانبية لهذا التطوّر. يتعلّق الأمر بمسارات عطالة بالمعنى الفيزيائي؛ متروكةً لذاتها، تستمرّ الحركة.
يجسّد هذا الموقف ويُعبّر عن كل ملامح الموقف المعاصر. وقد جرى تتبّع التوسّع اللامحدود للسيطرة الزائفة، وهو انفصل عن أي غاية عقلية أو قابلة للإنكار على نحو عقلاني. إنّنا نبتكِر كل ما يمكن ابتكاره، ونُنتِج كل ما يمكن إنتاجه، أما “الحاجات” المُلازمة فتُثار في ما بعد. في الوقت نفسه، يتمّ إخفاء فراغ المعنى من خلال الخِداع العلموي، الذي هو أقوى من السابق، وهذا، ويا للمفارقة، تزامن مع حقيقة أنّ العلم الحقيقي أصبح ميّالًا إلى الشكّ أكثر من أي وقت مضى لجهة أسسه ومضامين نتائجه. أخيرًا، نجد في هذا الوهم الخاصّ بالقدرة الكلّية الهروب من أمام الموت وإنكاره: ربما أنا ضعيف وميّت، لكنّ القوة موجودة في مكان ما، في المستشفى، في مختبرات التكنولوجيا الأحيائية، إلخ...
إنني على يقينٍ بِأنّ هذا التطوّر المُدمّر، هو بمرور الزمن يُدمّر التكنو-علم، لكنّ الخوض في أمر كهذا يحتاج بحثًا مُطوّلًا. إما يجب التأكيد عليه منذ الآن هو أنّه ينبغي أولًا تبديد هذا الوهم المُتعلّق بالقدرة الكلّية. ثمّ نؤكّد على أنّه، لأول مرّة في تاريخ البشرية، يتمّ طرح مسألة بالغة الصعوبة وهي إخضاع التطوّر العلمي والتقني لِمُراقبة (غير إكليروسية) مع العلم أنّ لذلك طابعًا مُلحًّا. يتطلّب هذا إعادة النظر في كل القيم والعادات التي تحكمنا. فمن جانب نحن محظوظون لأنّنا نعيش على كوكب ربما هو الوحيد من نوعه في الكون - على كل حال هو الوحيد بالنسبة إلينا-، وهذه أعجوبة لم نخلقها ناهيك بأنّنا نعمل على تدميرها. ومن جانب آخر، بديهيّ أنّنا لا نستطيع التخلّي عن المعرفة من دون التخلّي عمّا يجعلنا كائنات حرّة. لكنّ المعرفة، كما السلطة، ليست بريئة.
بذلك ينبغي علينا على الأقلّ أن نحاول فهم ما نحن بصدد معرفته وأن نتنبّه إلى العواقب الممكنة لهذه المعرفة. هنا أيضًا تبرز مسألة الديمقراطية بصور مُتعدّدة. في الظروف والبُنى الراهنة، من المحتوم أنّ القرارات المُتّصلة بكل ذلك يختصّ بها رجالُ السياسة والبيروقراطيون الجهّال والباحثون في التكنو-علم الذين يحرّكهم منطق التنافس. يستحيل أن تُبلور الجماعة السياسية في هذا الخصوص رأيًا عاقِلًا. على هذا المستوى نُشير إلى مسألة المعيار الجوهري للديمقراطية: تفادي الغطرسة ووضع حدّ للذات.

* إذًا، ما تُسمّيه “مشروع الاستقلال” يمرّ بلا ريب بالتربية؟
كاستورياديس: إنّ مركزية التعليم في المجتمع الديمقراطي أمر لا يمكن إنكاره. بمعنى ما، يمكن القول أنّ مجتمعًا ديمقراطيًا هو مؤسّسة عظيمة للتربية وتربية الذات بصورة دائمة، ولا يمكنه العيش من دون ذلك. هذا المجتمع، من حيث هو مجتمع مُتفكّر، يجب أن يعتمد على النشاط الواضح والرأي المُستنير لكلّ المواطنين. إنّه على وجه التحديد عكس ما يجري اليوم، تحت تأثير رجال السياسة المحترفين، و”الخبراء”، والاستطلاعات التي تُجريها محطات التلفزة. ولا يتعلّق الأمرُ بأي حالٍ من الأحوال بالتربية التي عفت عنها “وزارة التربية”. كما لا يتعلّق بفكرة أنّ في ظلّ عمليات “إصلاح التربية” التي لا تُحصى قد نكون اقتربنا من الديمقراطية. تبدأ التربية بولادة الفرد وتنتهي بمماته. وتحدث في كل مكان وبصورة دائمة. جدران المدينة، الكتب، العروض، الأحداث، تُربّي –وتُسيء دائمًا تربية- المواطنين. بإمكانك مقارنة التربية التي يتلقّاها المواطنون (والنساء والعبيد) في أثينا من خلال رؤية على تمثيلات المأساة، بالتربية التي يتلقّاها المُشاهد اليوم وذلك بالنظر في عبارة “سلالة حاكِمة” dynasty و”مَنسِيّ” perdu de vue.
* يُعيدنا التحديد الذاتي إلى المناظرة المحورية المُتعلّقة بالموت والخلود: اللافِت في ما نقرأه لديك، هو الانطباع بأنّ هناك من جهة الكتابات السياسية، ومن جهة أخرى عمل الفيلسوف – المُحلّل النفسي. لكن في الواقع، يوجد في أعمالك موضوع مُشترك ودائم هو مسألة الزمان: كيف نعقِد من جديد علاقة بالزمان، وفي الوقت عينه نخرج من وهم الخلود؟
كاستورياديس: يتعلّق الأمرُ أولًا بالخروج من الوهم الحديث للخطّية linéarité و”التقدّم” والتاريخ بوصفه تراكم ما تمّ الظفر به أو عملية “العقلنة”. إنّ الزمان البشري، كما زمان الكينونة، هو زمان الإبداع - التفكيك. “التراكم” الوحيد الموجود في التاريخ البشري، ضمن الأمد الطويل، هو تراكم الأداتي والتقني والمجموعاتي - الهُويّاتي. وحتى ذلك التراكم قابل للعكس. إنّ تراكم الدلالات هو لا معنى. يمكن فقط أن يوجد، على فترات تاريخية معيّنة، علاقة تاريخية عميقة (أعني أي علاقة ما خلا العلاقة الخطّية و”التراكمية”) بين
الدلالات التي يخلقها الحاضر وتلك التي يخلقها الماضي. فمن خلال الخروج من وهم الخلود (الذي يَهدف تحديدًا إلى إلغاء الزمان) يمكننا عقد علاقة حقيقية بالزمان. بعبارة أدقّ - لأنّ عبارة “علاقة بالزمان” هي غريبة- فالزمان بالنسبة إلينا ليس شيئًا خارجيًا يمكننا عقد علاقة معه، فنحن نعيش في الزمان والزمان يصنعنا- بذلك فقط يمكننا أن نكون فعلًا حاضِرين في الحاضر، وذلك بأن ننفتح على المستقبل وأن نُغذّي علاقة بالماضي لا تتضمّن معاودة ولا رفضًا. التحرّر من وهم الخلود- أو “التقدّم التاريخي” المؤكّد في شكله العامّيّ- يعني تحرير خيالنا المُبدِع ومُتَخَيّلنا الاجتماعي الخلّاق.
* يمكننا أن نستحضر هنا أحد نصوص كتابك (العالم المُجزّأ)، “حالة الذات اليوم”، حيث نرى جيدًا أنّ مسألة الخيال هي مسألة محورية. يتعلّق الأمرُ بتحرير ذات قادِرة على أن تتخيّل، أي في العمق أن تتخيّل شيئًا ما وأن لا يتمّ استلابها من قبل الزمان الماضي - الحاضر. المُهمّ هو أنّ الكتاب يُمثّل في العمق هذه القدرة للذات على أن تُصبح ذات مُتخيّلة. هل يتوقّع المرء من هذه الذات المُتخيّلة في مجتمع ديمقراطي أن تترك آثارًا، أعني نتاجًا، أو أليست هذه الذات التي تتخيّل هي في العمق الآثار؟
كاستورياديس: هناك مستويات عدّة للمسألة. أولًا الذات هي دائمة التخيّل، مهما يكن عندها من فعل. الروح هي خيال جذري. ويمكن النظر إلى التبعية بوصفها تقييد الخيال بالمعاودة. إنّ عمل التحليل النفساني هو أن تُصبح الذات مُستقلّة بمعنى تحرير الخيال، وإقامة هيئة تعتصم بالتفكير والتشاور، وتُحاور الخيال وتحكم على نتاجاته.
أن تُصبح الذات مُسْتقلّة وإبداع الفرد المُتخيّل والمُفكّر، يُصبح أيضًا عمل المجتمع المُستقلّ. ولعمري أنا لا أعتقد بوجود مجتمع يكون الجميع فيه ميشيل-أنج Michel-Ange أو بيتهوفن Beethoven، ولا بِحِرَفِيّ ليس له نظير؛ بل أعتقد بمجتمع جميع أفراده مُنفتحون أمام الإبداع، ويمكنهم القبول به من وجهة نظر خلّاقة، ثم يمكنهم أن يصنعوا به ما شاؤوا.
فمعضلة أن “يترك المرء آثارًا” بمعنى العمل الفنّي هي بذلك معضلة ثانوية، بمعنى أنّ الجميع لا يمكنه، ولا ينبغي له أن يكون مُبدِع أعمالٍ فنّية بالمعنى الخاصّ للكلمة. وليست المعضلة الثانوية بمعنى إبداع الأعمال، بالمعنى الأعمّ للكلمة، من قبل المجتمع: أعمال فنية، أعمال فكرية، أعمال مؤسّسية، أعمال تتعلّق ﺑ “ثقافة الطبيعة”، إذا شئنا التعبير. إنّها الإبداعات التي تذهب أبعد من الدائرة الخاصّة، والتي لها علاقة بِما أدعوه الدائرة الخاصّة - العامّة والدائرة العامّة - العامّة. ولهذه الإبداعات بالضرورة بُعد جماعي (إمّا في تحقيقها، وإما في تلقّيها) ولكنّها تُمثّل أيضًا ثِقل الهويّة الجماعية، وهو ما أهملته الليبرالية والفردانية. نعم، في النظرية، وفي
الليبرالية والفردانية، لا يمكن ولا ينبغي أن تُطرَح مسألة الهوية الجماعية - لِجماعة يمكن، من جهات جوهرية، أن ينغمس المرء فيها وينصرف لها، وللقدر الذي نتحمّل المسؤولية تجاهه-، فهي بلا معنى. ولكن، بِما أنّ المسألة لا مندوحة منها، فإنّ الفردانية والليبرالية تنحصِران على وجهٍ مُخجل وخِفيَةً في حدود تمثّلات مُعطاة من طريق الخبرة، وفي الواقع حول “الأمة”، فهذه الأمة خرجت، كما يخرج الأرنب من القبعة، من النظريات “والفلسفات السياسية” المعاصرة. (نتحدّث في الوقت نفسه عن “حقوق الإنسان” وعن “سيادة الأمة”). لكن إذا كان لا ينبغي تعريف الأمة من خلال “حق الدم” (ذلك من شأنه أن يقود مباشرة إلى العرقية)، فهناك أرضية واحدة تُمكّن من الدفاع عنها على نحو عاقل: بوصفها جماعة أبدعت أعمالًا تزعم صلاحية كونية. وفي ما أبعد من النوادر الفولكلورية والإحالات على “تاريخ” أسطوري وأحادي على نطاق واسع، أن يكون المرء فرنسيًا يعني الانتماء إلى ثقافة تبدأ من الأبرشية القُوطية gothique حتى إعلان حقوق الإنسان، ومن مونتين Montaigne حتى مُعتنِقي الانطباعية. وبِما أنه ليس ثمّة ثقافة يمكنها أن تحتكر زعم الصلاحية الكونية، فإنّ الدلالة المُختلَقة “أمة” تفقد أهمّيتها الرئيسة.
إذا كانت مؤسّسات الأمة تُشكّل جماعة ما، فإنّ أعمالها هي المرآة التي تنظر إلى نفسها من خلالها، وتعرف نفسها، وتضع نفسها موضع التساؤل. إنّ تلك المؤسّسات هي الصلة بين ماضي الأمة ومستقبلها، وهي مستودع الذاكرة التي لا تنفد، وفي الوقت عينه دعامة إبداعها القادم. لهذا السبب، الذين يزعمون أنّه في المجتمع المعاصر، وفي إطار “الفردانية الديمقراطية”، ليس هناك مكان للأعمال العظيمة، هم يحملون، من دون أن يعرفوا ومن دون أن يريدوا، قرار الموت على المجتمع.
ماذا ستكون الهوية الجماعية، اﻠ “نحن”، لِمجتمع مُستقلّ؟ نحن مَن نضع قوانيننا الخاصّة، ونحن جماعة مُستقلّة مؤلّفة من أفراد مُسْتقلّين، وبإمكاننا أن ننظر إلى أنفسنا وأن نعرفها ونضعها موضع التساؤل في أعمالنا ومن خلالها.
* لكن ألا يشعر المرء بأنّ “النظر إلى الذات من خلال العمل” لم يَقُم بوظيفته في المعاصرة؟ إن حِقَب الإبداع الفني الكبرى ليست في الوقت عينه اللحظة التي ينظر فيها المجتمع إلى نفسه من خلال أعماله. فالمجتمع اليوم لا ينظر إلى نفسه في رامبو Rimbaud، ولا في سيزان Cézanne: فهو يفعل ذلك بعد حين. من هنا، ألا ينبغي لنا أن نعتبر اليوم أنّنا خاضِعون لِمُختلف التقاليد التي تَصوغ مجتمعنا، حتى لو لم تكن متوافقة مع بعضها البعض؟
كاستورياديس: لقد أخذتَ مثالًا، فريدًا إلى حدّ ما، ومُفعَمًا بالدلالات طبعًا، لكنّه لا يتضمّن تلك التي تَنسِبها له. وللاختصار، إنّ “العبقرية التي تمّ إغفالها” في هذا النطاق تنتمي إلى القرن التاسع عشر. وفي ظلّ تصاعد البرجوازية، حدَثَ انشقاق عميق بين ثقافة شعبية (التي سرعان ما دُمّرَت) وثقافة مُهيْمِنة هي الثقافة البرجوازية للفنّ المُتحذلق. والنتيجة هي بروز ظاهرة الطليعة والفنان الذي “لا يُقدَّر كما يجب” ليس “مُصادفةً” بل على وجه الضرورة. لأن يخضع للمأزق التالي: تشتريه الطبقة البرجوازية والجمهورية الثالثة، فيصبح فنانًا رسميًا أو متحذلقاً، أو يتبع عبقريته ويبيع بعض اللوحات مقابل خمسة أو عشرة فرنكات. ثم تُصاب “الطليعة” بالفساد والانحلال حين يكون الهمّ الوحيد هو “إذهال البرجوازي”. إنّ هذه الظاهرة هي على وشيجة مع المجتمع الرأسمالي، وليس مع الديمقراطية، وتَعكِس بالتحديد الانشقاق غير الديمقراطي بين الثقافة والمجتمع بعامّة.
على الضدّ من ذلك، فإنّ (مأساة إليزابيث) أو (ترانيم باخ) Chorals de Bach هي أعمال كان الجمهور في ذلك العصر يُشاهدها على مسرح “غلوب” (الكرة) أو يُنشِدها في الكنائس.
أما في ما يتعلّق بالتقليد، فليس المجتمع مُجبَرًا على معاودته من أجل إقامة علاقة معه، بل العكس. إذ يمكن للمجتمع أن يُقيم مع ماضيه علاقة معاودة صلبة، هذه هي حالة المجتمعات التي تُوصَف بالتقليدية، أو مجتمعات البحّاثة، أو الأثرية والسياحية، وهي حالة مجتمعنا. في الحالتين، يتعلّق الأمرُ بماضٍ ميّت. لا وجود للماضي الحيّ إلا من أجل حاضرٍ خلّاق ومُنفتح أمام المستقبل. لنتأمّل المأساة اليونانية. فمن بين ما يقرب من أربعين مؤلَّفًا وصلت إلينا، هناك واحد فقط هو (الفرس) يعتبر مأساة يونانية قديمة كتبها إسخيلوسEschyle مُستلهِمًا إياها من الحوادث الجارية آنذاك. أما المؤلّفات الأخرى فيتركّز موضوعها على التقليد الأسطوري؛ لكنّ كل مأساة تُعيد تشكيل التقليد، وتعمل على تجديد دلالته. وبين مسرحية إليكتراElectre حسب رواية سوفوكليسSophocle والمسرحية ذاتها حسب رواية يوربيدسEuripide، ليس هناك أي شيء مشترك باستثناء مُخطّط العمل. ثمّة هنا حرية خيالية يُغذّيها العمل على التقليد وتُبدِع أعمالًا لا يتمكن رواتها المُحترفون المُدوّنون للأساطير وحتى هومير من نسج الأحلام. وعلى مقربة منا، نرى كيف يُحوّل بروست Proust التقليد الأدبي الفرنسي بكامله إلى عمل مُجدّد. ولقد كان مُعتنِقو مذهب السريالية البارزين يغرفون حتى لا نهاية من هذا التقليد أكثر مما يفعل مُعاصروهم من الأكاديميين.
لن نعود إلى إثارة النقاش حول الحياة الفكرية الفرنسية. لكنّ الأمر اللافت، في ما يتعلّق بمعضلة الموت، هو مشاهدة تيار التفكيك الحالي وقد أحاط بالماهية الهايدغرية أو بالماهية اليهودية. البعض يُحدّثنا عن الموت أو عن التناهي، وليس بوسعنا أن نقول عنه شيئًا سوى أنه تناهٍ. ألا يتضمّن ذلك نوعًا من التقييد؟ لو اقتفينا هذا التيار، فلا يجب بخاصّة العمل؛ ولا يسع هذا التقليد سوى أن يخلص بنا آخر الأمر إلى نوع من التقريظ للانفعالية. ولو سلّمنا بأنّ هذا البعض ليس مجموعة من البهلوانيين، فالجميع ليس كذلك بلا شكّ، نرى أنّ هناك فكرًا خاصًّا بالتناهي يعود إلى نقطة البداية. لماذا، إذن، يملك هذا الفكر الكثير من التأثير؟
أرى في ذلك تجلّيًا آخر للعُقم. وليس من قبيل الصدفة أن ذلك يُضاهي إعلان “نهاية الفلسفة”، والجناس المُستوفى المُحيِّر حول “نهاية الحكايات الكبرى”، إلخ... إنّ مُمثّلي هذه النزعات ليسوا قادِرين على شيء سوى الإدلاء ببضعة تعليقات حول كتابات الماضي وهم يتفادون الحديث عن القضايا التي يُثيرها اليوم العلم والمجتمع والتاريخ والسياسة.
إنّ هذا العقم ليس بظاهرة فردية، وهو يُعبّر تحديدًا عن الموقف الاجتماعي - التاريخي. بالتأكيد هناك أيضًا عامل فلسفي: ومن البديهي توجيه نقد داخلي للفكر المُتوارث، لا سيما نقد الجانب العقلاني منه. لكن رغم السّمة الطنّانة ﻠ “التفكيك”، يُوَجّه هذا النقد بصورة اختزالية. إرجاع كل تاريخ الفكر اليوناني - الغربي إلى “إغلاق الميتافيزيقا” وإلى “المركزوية الأنطو-لاهوتية- لوغوسية” يعني إخفاء البذار الخصبة التي ينطوي عليها التاريخ؛ ولا معنى من تمثّل الفكر الفلسفي بالميتافيزيقا العقلانية. أضِف إلى ذلك أنّ نقدًا غير قادرٍ على طرح مبادئ مُختلفة غير تلك التي ينقدها محكوم عليه بالتحديد أن يبقى ضمن النطاق الذي تُحدّده الأشياء التي يتمّ نقدُها. كذا كلّ نقد ﻠ “العقلانية” اليوم ينتهي بنا إلى لاعقلانية ليست إلا أحد وجوه العقلانية، وإلى رأي فلسفي عتيق كما الميتافيزيقا العقلانية نفسها. إنّ التحرّر من الفكر المتوارث يفترض مُسبَقًا التغلّب على وجهة نظر جديدة لا تستطيع هذه النزعة تقديمها. وعلى ذلك فإنّ الموقف الاجتماعي التاريخي عمومًا شديد الوطأة هنا. فالعجز الذي يعتري الفلسفة اليوم، عن خلق وجهات نظر جديدة وأفكار فلسفية جديدة، يُعبّر في هذا الحقل الخاصّ، عن عجز المجتمع المعاصر عن خلق دلالات اجتماعية جديدة وعن وضع نفسه موضع التساؤل. حاولت منذ حين أن أوضّح هذا الموقف. لكن ينبغي ألّا ننسى أنّه حين قِيلَ كل شيء بِتنا لا نملك “تفسيرًا” بل لا نقدر على الإتيان به. وكما أنّ الإبداع لا يمكن تفسيره، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى الانحطاط أو التفكيك. والأمثلة التاريخية كثيرة، سأقتصر على واحدٍ منها. في القرن الخامس، كانت أثينا، من دون الحديث عمّا عداها، ومؤلّفو المأساة الثلاثة الكبار، وأرسطوفانيس وثوسيديدس. وفي القرن الرابع، لا شيء يُماثل. والسبب؟ يمكن دومًا القول أنّ سكان أثينا انتصروا في الحرب البيلوبونيسية. إذًا؟ هل تحوّلت جيناتهم؟ فأثينا في القرن الرابع لم تكن نفسها. وبديهيّ أنّ هناك فيلسوفين عظيمين انطلقا عند المغيب وهما في ماهيّتهما نِتاجان غريبان للقرن السابق. وهناك بصورة خاصّة مُدرّسو البيان الذين هم بالتحديد ما نحتاجه اليوم إلى حدّ كبير.

* إنّ كل ذلك يختلط مع انعدام تامّ للشعور بالمسؤولية السياسية؟
كاستورياديس: بلا ريب. إنّ معظم هؤلاء الفلاسفة يُعبّرون لِمَن يُريد سماعهم عن إخلاصهم للديمقراطية، وحقوق الإنسان ومناهضة العرقية، إلخ... لكن باسم ماذا؟ وما السبب الذي يجعل المرء يُصدّقهم في حين أنّهم يُجاهِرون في الواقع بنسبية مُطلقة، ويُعلنون أنّ كلّ شيء ما هو إلا “قصة” - وبتعبير مُبتذل ثرثرة؟ لو أنّ كل “القصص” مُتساوية، فباسم ماذا نُدين “قصة” شعب الأزتيك وأضاحيهم البشرية، أو “القصة” الهتلرية وما تتضمّنه؟ ما الأمر الذي لا يترك مجالًا لِإعلان “نهاية القصص الكبرى” أن يكون هو نفسه قصة؟ إنّ الصورة الأوضح لهذا الموقف تُقدّمها “نظريات ما بعد الحداثة” التي تُعبّر أوضح تعبير، وأقول إنّها تُعبّر بصلافة، عن رفض (أو عجز) طرح الموقف الحالي.
أما أنا، فمن واجبي أن أرى بوضوح قدر الإمكان الواقع والقوى الفعلية في الحقل الاجتماعي - التاريخي لأنّني تحديدًا أعمل على مشروع لن أتخلّى عنه. وأحاول النظر مُتسلّحًا ﺑ “معاني بسيطة”. ثمّة في التاريخ لحظات كل شيء فيها ميسور في الحالة الحاضرة ويُشكّل عملًا تحضيريًا بطيئًا وطويلًا. ولا يعلم أحد ما إذا كنّا نجتاز مرحلة قصيرة من سبات المجتمع، أو ما إذا كنّا بصدد الدخول في حقبة طويلة من التقهقر التاريخي. لكنّ صبري لم ينفد.

***
المصدر:
Le délabrement de l'Occident: Entretien avec Cornelius Castoriadis
Esprit
No. 177 (12) (Décembre 1991), pp. 36-54

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...