عرض كتاب: "كلاب من قش.. أفكار عن البشر والحيوانات الأخرى"

18-06-2020

عرض كتاب: "كلاب من قش.. أفكار عن البشر والحيوانات الأخرى"

تأليف: جون نيكولاس غراي

جون غراي المنظر والاقتصادي الاجتماعي البريطاني في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، يدهش قراءه من حين لآخر بطروحاته المختلفة. وهو إذ يتناول موضوعات متباينة بشكل حاد, من العولمة واقتصاداتها إلى فكر القاعدة وتطرفها, لا يتهيب تسطير مقولات خلافية ومثيرة حقا, لكن ينظمها خيط مشترك من السوداوية والتشاؤم من قدرة الإنسان على تغيير واقعه التعس الذي جره على نفسه، كما رأى غراي في كتاباته السابقة وكما يؤكد في كتابه هذا حيث يرى الإنسان مجرد كائن لا يتميز بأي أفضلية عن بقية الكائنات.. إنه كلب من قش ليس إلا!

في هذا الكتاب يمعن غراي في سوداويته ونظرته للإنسان ويذهب شوطا أبعد من كل الأشواط السابقة وبأسلوب فلسفي محير.

فالفلسفة بشكل عام ليست من ذلك النوع من أنواع المعرفة الذي يستطيع المرء أن يصدر بشأنه التعميمات السريعة، حيث يكون من الأفضل كلما تعلق الأمر بالفلسفة أن يتروى المرء وأن يضيف ويركب عددا من الرؤى والأعمال معا حتى يتمكن من تصنيف الأمور والحقب الزمنية والتطورات المرافقة.

وفي حال الرغبة في تعزيز أو ترتيب الأفكار المتعلقة بحقبة معينة أو بحركة معينة، فإن ثمة نوعين من التصانيف يمكن أن يعتمدا لهذا الغرض وهما: جمع الأعمال التي تعبر عن الأفكار المقبولة ضمن تلك الفترة أو الحركة، أو جمع النصوص التي تعارض الأفكار المقبولة والتي يمكن أن تستفز القارئ بأصالتها وتثير دهشته، أو بعبارة أخرى جمع "النفي" بدل جمع "الإثبات".

ينتمي كتاب "كلاب من قش" إلى المجموعة الثانية وتظهر فيه بجلاء جدة المنظور الذي يطرحه جون غراي, وفيه يريد أن ينفي مركزية الإنسان في الكون مع أن هذه ليست أطروحته الأساسية في الكتاب.


يتجنب غراي في طريقة تفكيره الإسراف والإفراط في كل شيء ويحافظ على ما هو ضروري فقط، ويبين كيف أن قسطا كبيرا من أطرنا الفكرية لا يعدو أن يكون ترفا وإسرافا ذهنيا

يستهل غراي كتابه بالقول "لقد حاولت في هذا الكتاب أن أقدم نظرة إلى الأشياء لا يحتل فيها بنو الإنسان موضعا مركزيا". لكن هذه العبارة البسيطة نسبيا تخفي مدى صعوبة مثل هذه المهمة، خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إزاحة بني الإنسان عن قلب الأمور يستتبع إزالة المفاهيم التي أوجدناها مثل: التكنولوجيا والوعي الذاتي والأخلاقيات والحقيقة.. إلى آخر القائمة. ما يريده غراي هو خلق عالم متوازن بين البشر وغير البشر, حيوانات وبيئة ونباتات.

بيد أن عملا من هذا النوع لا يعتبر -رغم أصالته الأكيدة- الأول من نوعه في هذا المجال، فقد اتبع العالم الاقتصادي ثوماس مالثوس الذي عاش في القرن التاسع عشر نفس الخط الفكري الذي يتبعه غراي في هذا الكتاب، حين أشار إلى أن النوازل الطبيعية المروعة كالمجاعات والأوبئة والحروب تؤدي -رغم فداحة آثارها- إلى نتائج مفيدة على صعيد إنقاص عدد السكان.

قد يبدو مالثوس قاسيا وعديم الإنسانية لذهابه إلى هذا النوع من التفكير، لكن الانفجار السكاني في زمنه كان يفرض ضغوطا هائلة على الموارد البريطانية الأمر الذي دفعه إلى المناداة بتحديد عدد الأطفال في العائلة الواحدة.

يفتقر غراي إلى الضرورة الاقتصادية التي حفزت أفكار مالثوس، لكن مجال بحثه يفوق مجال اختصاص الأول اتساعا وعمقا من حيث عنايته بسلامة مستقبلنا من الناحيتين الذهنية والبدنية.

ويتجنب غراي في طريقة تفكيره الإسراف والإفراط في كل شيء، ويحافظ على ما هو ضروري فقط. ويبين كيف أن قسطا كبيرا من أطرنا الفكرية لا يعدو أن يكون ترفا وإسرافا ذهنيا.

فهو يقطع بالقول على سبيل المثال بأن "الاهتمام بالحقيقة أمر لا يحتاجه الإنسان لأغراض البقاء أو التكاثر". ويواجه القارئ نفس القدر من الصدمة إزاء تصريح آخر يقول "إن الاعتقاد بضرورة أن يكون للتأريخ معنى ليس سوى افتراض مسيحي خاطئ".


يرى غراي أن حروب المستقبل ستدور حول الموارد الطبيعية الناضبة، وتستشرف رؤيته للألفية الجديدة حربا يسقط فيها عشرات الملايين من أجل الحصول على الوقود أو الاحتياطات المعدنية

وتتوالى بيانات غراي الصاعقة فنقرأ أن "القيمة ليست إلا ظلا تلقيه على الأشياء رغباتنا أو اختياراتنا الإنسانية"، أو "أليست فكرة الأخلاق هذه مجرد خرافة قبيحة؟".

يخلق كتاب "كلاب من قش" لدى القارئ نوعا من الشعور بالخجل إزاء اكتشاف حجم الزيف في التعميمات التي يتقبلها الناس على نطاق يومي وبدافع من الخمول الذهني على أنها مسلمات وحقائق. ومما يزيد الأمر خطورة أن تلك الأفكار غالبا ما تستخدم لتبرير العنف الذي يمارس ضد البيئة والآخرين.

ويقودنا غراي إلى أن نستنتج بيننا وبين أنفسنا أن القوى التي نشكل حياتنا من خلالها مثل الصواب والخطأ، هي مجرد بدع اخترعها المجتمع لإعطاء نفسه شكلا مفهوما، وأنها لا تعدو أن تكون صيغة نعتبرها خاصة بنا ونسعى لفرضها على الآخرين وعلى العالم.

يرى غراي أن المستقبل سيشهد انتقام الأرض من البشر الذين أسرفوا في نهب مواردها، فالتوازن لابد أن يستعاد إلى النظام البيئي. ولما كان غراي يرى أن "التقدم والتقتيل الجماعي يسيران جنبا إلى جنب (من حيث ما توفره التكنولوجيا الحديثة من تطوير وكفاءة لتكنولوجيا القتل) و"أن حروب المستقبل سوف تدور حول الموارد الطبيعية الناضبة"، فإن رؤيته للألفية الجديدة تستشرف حربا يسقط فيها عشرات الملايين من الضحايا من أجل الحصول على الوقود أو الاحتياطات المعدنية.

وسوف تعمل الخسائر الكبيرة في الأرواح على التخفيف من الشحة التي قادت في الأصل إلى الحرب.. وهكذا نعود إلى مالثوس. يا له من سيناريو مرعب! حيث يظهر أن القفزات الهائلة التي حققناها في التكنولوجيا سوف تكون الوسيلة التي ننكفئ من خلالها إلى ماضينا الوحشي ولكن بنتائج أخطر وأقسى في هذه المرة. ويوجز غراي رأيه هذا بالقول "إذا أقلق البشر توازن الطبيعة فإن الطبيعة ستسحقهم وتزيحهم جانباً".

غير أن رسالة غراي ليست مطلقة التشاؤم حتى وإن بدت كذلك للوهلة الأولى، فالبساطة التي يعالج بها غراي نقاط ضعف الإنسانية تحمل بعدا علاجيا وشيئا من التطمين وسط حشد التنبؤات الكارثية. يقول غراي "لا نستطيع التخلص من الأوهام.. التوهم مجبول في طبيعتنا الإنسانية، فلماذا إذن لا نتقبلها؟".

ويمضي إلى القول "ينبغي أن يكون هدفنا تشخيص الأوهام التي لا قدرة لنا على شطبها، واكتشاف أي من المغالطات لا نستطيع العيش بدونه". لكن تطبيق ذلك على صعيد الواقع سيكون حكاية مختلفة، فالجميع -بمن فيهم غراي- يحتاجون إلى أن يختبروا بأنفسهم تلك الأصقاع الذهنية التي يسودها التضليل والتسيير من أجل أن يتمكنوا من انتقاده على هذا النحو الدقيق.


ينتهي القارئ بعد قراءة الكتاب إلى التأمل في أشياء كثيرة ننظر إليها على أنها مسلمات, في حين أنها تنطوي على اختلالات إن لم تكن جرائم لا تحصى

يمكن القول أن كتاب "كلاب من قش" كتاب مسل بشكل من الأشكال رغم قسوته والشعور بالذنب الذي يطغى على قارئه. فهو يتكون من ستة فصول مقسمة بدورها إلى وحدات أصغر لا تترابط فيما بينها بتتابع زمني أو موضوعي، الأمر الذي يجعل الكتاب تحديا للتبويب الهيكلي. إلا أنه يتمتع بنوع من الشكل المادي الواثق الذي يضفي نوعا غريبا من المتانة على عملية التحليل التي يُخضع لها غراي النسيج الاجتماعي.

والغريب في هذا الكتاب أنه بينما ينهمك غراي بإلغاء أسس الفكر الحديث غير تارك وراءه إلا المنطق المالثوسي البارد، لا يجد القارئ في فلسفته الكثير من الثغرات ويواجه صعوبة ظاهرة في التصدي لتلك الفلسفة بدون أن يسقط من حيث لا يدري في فخ المصادقة على وجهة نظر غراي.

وبوسع المرء أن يقول إن ما ينجح الكتاب في نقله إلى القارئ ليس الإحساس بالشك في اليقين إنما بيقين الشك. والفرق بين الأمرين واضح ومهم، فيقين الشك يعني ضمنا أن ليس من الضرورة الخوف من الشك مادام من طبيعة الأشياء، وما دام حاضرا باستمرار في العالم.

لكنّ ثمة قسطا من الغموض يظل يكتنف الغرض الذي يريد المؤلف التوصل إليه من خلال "كلاب من قش". فالكتاب لا يتضمن دعوة إلى عمل شيء ما لأن الرسالة الرئيسية التي يبدو أن غراي يريد إيصالها للقارئ تفيد بأننا -من أجل أن نتمكن من رؤية العالم على ما هو عليه- ينبغي لنا أن نتقبل أننا غير قادرين على رؤية الكثير أو عمل الكثير إزاء ما نستطيع رؤيته.

في بعض المواقع تصبح لغة غراي مشتتة نوعا ما الأمر الذي يتطلب من القارئ بعض التوقف لاستيعاب المعنى. لكن غراي بشكل عام يكتب بوضوح وجلاء رغم كل التعقيدات التي تحفل بها طروحاته.

قد لا ينجح غراي في نهاية المطاف في تغيير أفكارنا، لكنه يترك تأثيره على الآراء والمواقف. ولا بد للقارئ أن ينتهي بعد قراءة الكتاب إلى التأمل في أشياء كثيرة من حولنا ننظر إليها ونأخذها على أنها مسلمات, في حين أنها تنطوي على اختلالات إن لم تكن جرائم لا تحصى.

 

آفاق فلسفية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...