هل الحب شعورٌ بالنقص أم بالابتهاج؟

06-06-2020

هل الحب شعورٌ بالنقص أم بالابتهاج؟

أندريه كونت سبونفيل:

الحب: استجابة موازية للفعل العاطفي والإرادة في كل شيء معروف أو محسوس بأنه جميل أو جيد، هي حركة وجدانية تقود نحو قداسة ما، لكل ما هو مثالي، لشخص ما، هي مشاعر قوية تربط بين شخصين، وتشمل الرقة والحنان والجاذبية نحو الجسد، وهي أيضا ذوق موسوم ومولع بشيء ما.
– أحبَّ، بمعنى ارتبطَ، والارتباط هو قيد أي ألم، معاناة، وفي هذه الظروف كيف يمكننا إدراك تلك الحالة من الحب المليئة بالسعادة؟
– سبق لرولان بارت أن لاحظ أن المفكرين المعاصرين يعتبرون «الحب» هو الموضوع الأكثر بذاءة من الجنس، بل هو الموضوع الأكثر إزعاجا، الأكثر حميمية والأصعب تعبيرا وبرهانا، وأعقد فكريا، لنقل بأن الجنسانية أصبحت نوعا ما، قاعدة يجب الانصياع لها، بينما سيكون «الحب» بالأحرى استثناءً، الجنسانية هي جزء من حياتنا الصحية، لكن «الحب» سيكون نوعا ما مرضاً، أو في جميع الأحوال اضطرباً، إذا كانت الجنسانية قوة، فالحب ضعف أو هشاشة، أو على الأعم جرح، الجنسانية هي شيء بديهي، الحب هو إشكال أو يمكن القول بأنه أحجية، وفي مقدورنا القول بأن لدينا القدرة على أن نشك فيه، بل حتى في وجوده، أو على الأقل في حقيقته، إذا كان مجرد حلم أو وهم أو كذبة، ماذا في وسعنا أن نقول في هذه الحالة؟ أو إذا سلمنا بأنه لا يوجد شيء اسمه «حب» يوجد فقط الجنس والأنانية والباقي هو مجرد تصورات أدبية له، فهل هذا صحيح؟
إذا لم يكن هناك وجود لشيء اسمه «الحب» ، فكيف استعرضه لاروشفوكو (فرنسوا) بالحدة نفسها التي نطرحه بها الآن؟
غير أن هذا الجهد الذي بذلناه إلى حد الآن لن يذهب سدى، ما دمنا نتحدث عنه بالفعل، ولا يمكننا غض الطرف عنه، إذا أخذنا «الأنانية» فهي بحد ذاتها تعبير عاطفي عن الحب ـ حب الذات ـ إذا افترضنا أننا لا نحب أنفسنا، فكيف يمكننا أن نفضلها على الآخرين؟ وهناك شيء آخر نقوم به تقريبا بشكل دائم ـ إذا صح افتراضنا – هو لماذا نحن دائما نود أن نكون محبوبين؟ ثم أطفالنا، إذا كنا لا نحبهم فعلا، فهل هذه النقطة تشكل خطرا؟ بالإضافة إلى أصدقائنا: هناك منهم من كنا لا نحبهم إلا لأنفسنا، وهذا بالفعل قابل للإدراك، والذين هم لن يكونوا أكثر قيمة في أعيننا من أعدائنا الذين نكرههم، أو هؤلاء الذين يختلفون عنا وأعدادهم لا حصر لها، وبالتالي يجب ألا نعتبر «الحب» شيئا تافها، لأنه مبدئيا يولد في علاقتنا هذه المفارقة الواضحة: بين من هم أعزاء ومن هم لا شيء.
وبعد ذلك هناك أشياء نحبها، وهي ملقاة على عاتقنا: حب المال، حب السلطة، حب المجد، بالإضافة إلى تلك الأمور الأخرى التي تسرنا: مثل الطاولات الممتدة والمملوءة بالأطعمة الشهية، متعة تذوق، متعة الحياة.. وهناك سؤال آخر: ما الذي نرغبه من الجنس، حتى إن كنا لا نحبه؟
وإلى هنا، يمكننا القول بأن الأمر يتعلق بالاختلاف الذي نلحظه في درجات حبنا، التي لا يمكننا وضعها في مستوى واحد مع الحب الذي نكنه لشيء ما (مثلا الطعام أو النبيذ) أو شعورنا تجاه موضوع ما، ولكن لا يمكننا تمييز هذه الفوارق والاختلافات، إلا بشرط واحد وهو المقارنة بينها أولاً، واللغة تتيح لي الحق في ذلك، في أغلب اللغات: «يقول أفلاطون: العاشق، يحب الطفل كطبق يريد أن يلتهمه، أو مثل الذئبٍ يحب حَمَلا»، ويرد نيتشه ساخراً من هذا «الحب» الذي تبنوه الفلاسفة بعد أفلاطون: «كيف لا يحب النسر لحم الحمل وهو لذيذ جدا؟».
سأتناول مفهوم «الحب» في أقصى درجات وجوده، وسأحاول فهمه كما هو. أحب النبيذ والجعة، موزارت وفيرمير (يوهانس)، أحب النساء وأيضا هذه السيدة… ما هو الشيء المشترك بين مختلف هذه الأشياء التي أحبها؟ من المؤكد أنني أتوق إلى متعة أو أجد تسلية معينة فيها، شيء من المرح، وأيضا أجد فيها أحيانا تلك السعادة الممكنة. أن تحب، هي تلك القدرة على الاستمتاع أو على الفرح والابتهاج بشيء ما أو شخص ما، وبالتالي هي أيضا القدرة على المعاناة والألم، وبما أن المتعة والمرح تتعلق هنا، حسب تعريفها، بشيء خارجي، الذي من الممكن أن يكون حاضراً أو غائباً، يعطي أو يرفض.
يقول سبينوزا في كتابه «رسالة في إصلاح العقل»: «الشيء غير المحبوب لن تنشأ حوله خصومة؛ فلو هلك هذا الشيء، ما شعرنا بالحزن؛ ولو أصبح بحوزة غيرنا، ما حسدناه عليه، وما شعرنا لا بالخوف ولا بالكراهية، وبإيجاز، ما حصل في أنفسنا أي اضطراب»، نحن بعيدون عن ذلك، بمعنى أنه بقدر ما نحن نتعلق بـ«الحب» بقدر ما هو يحملنا. إذا كنا لا نحب شيئاً بل حتى أنفسنا، حياتنا ستكون أكثر هناءً وراحةً، مما هي ليست عليه، ولكننا ـ في هذه الحالة ـ سنكون ميتين بالفعل.
لا يمكننا العيش بدون «حب» يقول سبينوزا، لأن «الحب» هو الذي يجعلنا نعيش، في مؤلفه «رسالة مختصرة عن الله والإنسان» يضيف: «نظرا لضعفنا في الطبيعة، وبدون ذلك الشيء الذي ننعم به ونستمتع به، عن طريق ماذا يمكننا أن نكون متحدين، وبماذا سنكون محصنين، في هذه الحالة لن نستطيع المقاومة». «الحب»، قوة ـ قوة الاستمتاع والمرح ـ ولكنها محدودة. لهذا السبب أيضا ينبه سبينوزا إلى ضعفنا، هشاشتنا، فنائنا. قوة المتعة هي موازية لقوة المعاناة، مثل الفرح والحزن، وهذا ما يدل عليه لفظ «الحب»: ذلك أنه تعين علينا نحن أن نعيش في حالة ينعدم فيها الاستقرار، بين الأمل والخوف، بين الشعور بالمتعة والشعور بالنقص، وأخيرا من المأساة (تراجيديا) إلى استياء، إذن فما نتيجة؟ هل من الواجب فقط حب الخالق أو كل شيء، وهو الشيء الذي يرجع إلى نفسه، وهو نفسه الذي أطلق عليه سبينوزا لفظ « الحكمة»، ما هو الحب؟ سبينوزا يعطي تعريفا جميلا له «الحبُ هو فرحٌ مصحوبٌ بفكرةِ عِلّةٍ خارجيةٍّ»، أن تُحبَ هي أن تستمتع بـ…، ولكن إذا كانت العلة أو السبب بها خلل أو عيب؟ وهنا فلن يبقى إلا الحزن والنقص.
يمكننا أن نحصر تفكيرنا على تعريفين اثنين للحب، وهما اللذان يهيمنان على تاريخ الفلسفة، الأول لسبينوزا، والتعريف نفسه لأرسطو فهذا الأخير يقول «أن تحب يعني أن تشعر بالسعادة»، وأيضا هناك معنى آخر أدلى به أفلاطون، وأظن بأنه يناقض كل هذا. الحب بالنسبة لأفلاطون ليس هو الشعور بالسعادة، بل هو شعور بالافتقار، بالإحباط وبالألم. يقول في محاورة «المأدبة»: «الحب هو الرغبة، وأن الرغبة هي النقص أو الافتقار، فما لا نملكه، وما لا نستطيع أن نكونه، ما ينقصا، تلك هي أغراض الرغبة، تلك أغراض الحب»، هما نوعان من الحب وقد شكلهما اليونان بكلمتين: فيلياphilia ، لوصف السعادة في الحب، وإيروس Eros لوصف النقص. الصداقة إذا أردنا القول والشغف (الافتقار الشَّرِه للآخر). سنكون مخطئين إذا قلنا بأنهما متضادان قطعياً، في أغلب قصص الحب لدينا خلط بين هذين الشعورين، وفي العمق هناك سعادة: بما أننا مكرسون في النقص وفي المحدودية، ونحن نعلم أيضا بأن السعادة هي وحدها الكفيلة بجعلنا مرتاحين… الجنس على سبيل المثال، يمكن أن يعيش في ظل النقص والحرمان، كما يمكن أيضا أن يعيش في ظل السعادة، والأكثر من هذا فلن يكف عن مرافقتنا من هذا إلى ذاك.
السعادة والافتقار (النقص) فيليا وإيروس، هما مختلفان أيضا، الإيروس يأتي في المرتبة الأولى، طبعا، لأن الشعور بالنقص يأتي أولاً، لنأخذ مثلا الطفل الرضيع، أنظر إليه حينما يبحث عن ثدي أمه، فهو يجهش في البكاء عندما ننزعه منه.. إنه الحب الذي يأخذ، والذي يريد الحيازة على الشيء، الحفاظ عليه، الحب الأناني، حب بدافع العاطفة، وكل عاطفة هي افتراس، نهم. أحبك بمعنى أريدك، كيف لهذا الحب أن يكون سعيداً؟ أن تحب هي أن تعشق ما ليس لديك، وتعاني من هذا النقص، أو أن تحصل على ذلك الشيء وهنا ينجلي الشعور بالنقص (لأنه لديك) وبالتالي يتضاءل حبك له يوما بعد يوم (لأننا لا نحب ولا نرغب إلا في ما ليس لدينا). المعاناة العاطفية هي عدو الأزواج. ولهذا يجب أن نحب بشكل آخر تماما: ليس في الشعور بالنقص ولكن في الشعور بالمرح، ليس في العاطفة، ولكن في الفعل ـ ليس عند أفلاطون، ولكن عند سبينوزا. أحبك: أنا سعيد لأنك موجود. كل الأزواج السعداء ـ وهم موجودون طبعا ـ يمثلون نفياً للأفلاطونية.
إيروس هو نقص وفقر، أما الشغف العاطفي، فهو ذلك الحب الذي يأخذ أو يريد أن يأخذ. فيليا هي تلك القوة أو ذاك المرح الشديد تجاه الآخر: هو حب ممتع ومشارك مع الآخرين. فلتلحظوا الأم والرضيع. فهذا الأخير يأخذ ثدي أمه: (إيروس)، الحب الذي يأخذ، وهو مبدأ الحياة نفسها، والأم تعطي ثديها له: (فيليا)، الحب الذي يعطي، لماذا يتم هذا التبادل والاستمرار في العملية؟ لأن الأم بدورها كانت رضيعاً في البداية: بدأت بالأخذ أيضا مثل الجميع، ولكنها تعلمت أن تعطي، على الأقل لأطفالها (ما نسميه بالشخص الراشد). في بادئ الأمر لم يكن إلا إيروس ـ الأخذ ـ (ولم يكن إلا هذا، يقول فرويد) وبدون شك لن نخرج من هذه الحالة: كل بداية تبدأ بالأخذ والسلب لا تنتهي بتاتا. ولكن في الأخير يتعلق الأمر بتعلم العطاء ولو قليلاً، أو أحياناً، أو على الأقل للأشخاص الذين نحبهم ويشعروننا بالمتعة والارتياح.
لن نخرج من مبدأ اللذة والمتعة: دائما الأمر متعلق بالاستمتاع قدر الإمكان وبالمعاناة بأقل قدر ممكن، وليس الشيء نفسه بأن نستمتع إلا بما نأخذ، أو أن نعي كيف نستمتع أحياناً، بالشيء الذي نعطيه ونشاركه.
كيف سيكون الأمر إذا أعطينا وشاركنا بدون أن نأخذ؟ بمعنى أن نستمتع بدون أن نأخذ، أو أن نحصل على شيء؟ في هذه الحالة ستكون فيليا محررة من إيروس، سيكون هو الحب المحرر من سلطة الأنا، المتعة المحررة من الشعور بالنقص، وهذا ما كان يطلق عليه المسيحيون الأوائل ـ عندما يكون من الواجب ترجمة رسالة المسيح إلى اليونانية ـ باللفظ agapè ، ويمكننا أن نترجمه بشكل لآخر بالحب أو الإحسان ، أو الحب المحرر من الأنا ((ego، بدون حدود، بدون نهاية… هل لدينا القدرة على ذلك. أنا أشك في ذلك كثيرا.
ولكن هذا في الأخير يحدد لنا على الأقل الطريق، وهو طبعاً الطريق المُوجِّه للحب: الحب ليس هو ضد الأنانية، بل على العكس هو موجههٌ لها، مثل ذلك النهر الذي يصب في البحر، هو علاجها، وكما قال سبينوزا هو خلاصها. هل ستمضي حياتك باحثا عن ثدي ما، أم أنك تريد أن تحافظ عليه، أو أن تندم عليه عندما يكون عالم بأكمله يستلطفك لأن تحبه؟ لا نحب بشكل مبالغ فيه، بل نحب بشكل سيئ وقليل.

 

* ترجمة: أيوب هلالي « لو نوفيل أوبسرفاتور L’Obs »

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...