"بين سيف الجوع، وترف النصيحة"

11-04-2020

"بين سيف الجوع، وترف النصيحة"

الجمل - يارا انبيعة


لم يكن الإنسان في العصر الحديث إلّا "كرة" تتراماها أنظمة اقتصادية وتتقاذفها مصالح طبقيّة لا تعبأ إلا بنفسها، ولا يضيرها ما يحصل لسواها من أذىً أو فاقة، ولسوء حظ هذا الانسان التعيس فإنه لا يتعلم ولا يتكلم، بل إنّه في بعض الأحيان لا يتألّم حتى، فهو يظنّ أنّ ألمه هذا استنكار وبكاءه امتعاض، وهو أقل من أن يمتعض وأجبن من أن يستنكر!.


حكى لنا أحد الثعالب أنّ أسراباً من النحل كانت في حياة مكتظّة على جذوع الشجر بانيةً لنفسها قفيراً تألفه ويألفها وصنع فيه عسلها قوت يومها وقد أتى إلى هذه الجذوع دبّ هائمٌ لم يعتادوا رؤيته ولكنهم ألفوا وجوده، فقد كان يستند إلى شجرتهم تلك ويخمشها بمخالبه ويدمر ما حولها من ورد وخضرة، ولم تكن تبدي هذه النحلات ويعاسيبها أيّ اعتراض لما يمارسه عليهم، بل إنه تجرأ ومد قبضته إلى خليتهم وكان يسرق منها عسلاً ويقاسمهم ما جنوه طوال سنيّ عملهم وهم بذلك راضون وعنه وساكتون، إلى أن دهمت الشجرة داهمة! وأتت مجموعة من الجراد الذي لا يبقي ولا يذر، فارتاع لذلك الدب ّ المهول وبكى قلبه المتبول وخاف على رزقه وطعامه فأوعز للنحلات أن ادخلوا منازلكم فإن خرجتم منها كنتم طعاماً سهلاً للجراد ومتمّ شرّ ميتة وأنا والله لا أحبّ لكم ذلك فبيننا من العسل والزهور الذي لا يهون إلا على الأشرار، فارتاعت النحلات من هول الكلام وخافت ووجلت من الموت المحتم الذي ينتظرها إن هي خالفت قرار الدب الذي يحكمهم لا لشيء له عليهم وإنما لأنه دبّ ! بقبضته قتل الخلية كلها إن شاء ولكنّه لا يفعل، فأخذت النحلات بالفرار والعويل والخوف والثبور والتهويل على أطفالها وكبارها وأغلقت عليهم الصوامع وأنذرت المذنبين منهم أنّه سوف يلحق بهم العذاب لتفريطهم بحياتهم وحياة ذويهم، و في هذه الجلبة وقف يعسوبٌ نحيل يدرك أن حياته في تلقيح الملكة لم تكن هدفاً له أساساً ونادى بهم برفيع الصوت : يا أهل القفير، إنّ إتباع السلامة واجب والخوف من الموت حقيقة لا يمكن انكارها،ولكن أعيروني أسماعكم هنيهات، يا طباخي الدببة! كان لهذه الكلمة "طباخي الدببة" وقع المطرقة على الرؤوس المشدودة فانتبه له الجميع وأداروا رؤوسهم نحوه، فأردف قائلاً : إننا منذ نشأتنا نصنع هذا العسل الذي هو علة وجودنا وغذائنا، نصنعه من رحيق ننشده و نجذبه من خارج الخليّة فكان خروجنا لتجميع الرحيق و اخراج العسل في خليتنا شيئاً لا بد منه! و من دونه سنموت، فيا معشر النحل نحن أمام خيارين اثنين! إما الموت جوعا هنا أو الموت قتلاً خارج منازلنا، علماً أننا قد لا نموت في الخارج وإن متنا فسنموت ونحن نحاول الحياة لا سواها، أما ذلك الدب السمين الذي أصبحتم تصفقون له وتحبونه فهو لا يزنكم بشيء ولا يخاف عليكم كما يدّعي إنما يخاف على غذائه من العسل أن ينقضي إن أنتم قُتلتم، فهو لا يراكم سوى خدماً لملذّاته وعمالاً لدى بطنه الكبير الذي لا يشبع، يريدكم أن تبقوا في منازلكم حتى تنقضي هذه الغمة لتعودوا لمزاولة عملكم وتجميع العسل له ليرضي بها شهواته! سنمتثل لحكمته الفائضة إذا وفقط إذا دفع عنّا الموت جوعاً وأعطانا من مخازنه المليئة بالعسل ما يكفينا الخروج للبحث عن قوتنا، فماذا أنتم فاعلون؟

 فعلت الأصوات وارتفعت الجلبة والصراخ بين متهكم وبين مستظرف "وما أكثرهم" وبين من يدّعي وصلاً بالدببة، والدببة لا تقر لهم بذاكا ....فاطّلع اليعاسيب وخاوفوا من الفوضى وكسر القوانين التي تسنّها ملكتهم – التي همّها و شغلها التلقيح – فطاروا إلى زميلهم المتوثّب الثائر وأثخنوه إبراً وأبرحوه ضرباً حتى هلك وألقوه وسط الخلية عبرة للجميع كي لا يتجرأ أحد ويرفع صوته بوجه المجتمع الخامل! وكان هذا اليعسوب هو القتيل الوحيد في هذه الخلية حتى انقضائها! 

والباقون أهلكم الجوع وقبضة الدب الذي لم يتبقّ له غذاءٌ سواهم، ذلك اليعسوب هو الوحيد الذي تمتّع برقصة جنائزية ودويّ من النحل لتشييعه ووضع بدنه عبرة للجميع، أما الجميع فلم يبقّ أحدٌ يعتبر بهم! فقد فضّلوا الصمت عن سرقة – خبزهم – غير موقنين أنه في القبر متّسع كبير من الوقت لممارسة الصمت المجدي وغير المجدي.



إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...