مرسيا إلياد: أساطير وكوارث

06-04-2020

مرسيا إلياد: أساطير وكوارث

قام مارسيا إلياد من خلال تحليله التقاليد الدينية والأساطير المختلفة، بتشريح المعنى الذي أعطته المجتمعات التقليدية للكوارث (الحروب والأوبئة والمجاعات ...). وفيما أبعد من الخصائص المحددة لكل شعب من الشعوب، سلّط مؤرخ الأديان الضوء على المعارضة بين مفهومين، واحد تقليدي والآخر حديث، ورأى في الفكر اليهودي المسيحي قطيعة كبرى في التقليد الذي أدّى إلى الحداثة.
لا يفتأ مرسيا إلياد يذكرنا في كتابه "أسطورة العودة الأبدية" أنّ العديد من الأساطير تقوم على وجود دورات أبدية من الدمار وإعادة ولادة العالم. فمن الراكناروك الألماني- النوردي إلى الاحتراق الكوني لهيراقليطس، من العصور المظلمة للتقليد الفيدي الهندي إلى الطوفان التوراتي، تمتلئ الأساطير والتقاليد بأمثلة على الإبادة الحتمية للكون. لكن هذا التدمير الكارثي ليس نهائيًا أبدًا: "يضع الطوفان أو الفيضان نهاية لبشرية منهكة وخطّاءة، لتلد بشرية جديدة، تنشأ عادة من" سلف " أسطوري نجا من الكارثة أو من حيوان قمري." في الواقع، يلاحظ مرسيا إلياد تشابه هذه الدورة الكونية مع الدورة القمرية للنمو والانحدار كما يمكن ملاحظته من الأرض. وعلى الرغم من حتمية الكارثة العظيمة، فإن الفكر التقليدي يتوفّر على بعض التفاؤل، لأنّ الولادة من جديد هي أمر مؤكّد مثل الكارثة التي سبقتها. هذا الانهيار ضروري من أجل استمرار بقاء الكون نفسه: "أيّة صورة وعلى أيّ نحو كانت، وبمجرّد أنّها موجودة وتداوم على هذا النحو أو ذاك تهون وتستنفد ذاتها؛ ولاستعادة نشاطها، ينبغي إعادة امتصاصها في اللا متبلور بعد، ولو لبرهة؛ أي إعادة ادماجها في الوحدة البدائية التي أتت منها؛ وبعبارة أخرى، الدخول في "الفوضى" (على المستوى الكوني)، في "العربدة" (على المستوى الاجتماعي) ... "
لا توجد علاقة سببية بحتة بين هذه المراحل المختلفة، ولكن الكارثة والتجديد يحدثان عضويا. لأنّه يجب أن يأتي أحدهما ويتبعه الآخر. وقد وصل التعبير عن هذا المنطق الدوري إلى ذروته في التقاليد الفيدية حيث كل دورة تدوم اثني عشر ألف سنة وتتكون هي نفسها من أربع "دورات فرعية"، ذات مدد متناقصة، ترتحل من العصر الذهبي إلى العصر المظلم. هذه الرؤية، الدقيقة للغاية، الموثقة والمشفرة بين الهنود، تجد نظيرتها اليونانية في أسطورة خلافة "الأجناس المعدنية" لدى هزيود. يرى مرسيا إلياد، أيضًا، في الراكناروك انهيار العالم الذي ينبغي أن يحدث عندما ينجح الذئب فنرير في كسر سلاسله، وهو التعبير الجرماني للعصر الفيدى المظلم مع أسطورة هندو-أوروبية لأصل مشترك. ربطت هذه الرؤية الدورية بشكل منهجي الأحداث الجديدة بالمقولات الأسطورية والنماذج البدئية archétypes المعروفة من قبل. وحدها الوقائع التي تقع ضمن هذه النماذج البدئية يمكن أن تكتسب خصائص واقعية.
قطيعة الفكر العبري
قطعت التقاليد العبرية مع هذا التصور التقليدي منذ حوالي 2500 عام، بتوفيرها معنى للكوارث التي تصيب شعب الله المختار. فالشرور التي عانى منها هذا الأخير، بما في ذلك الغزوات الأجنبية، نجمت جميعها عن تدخّل إلهي. وهذا التدخل هو تعبير عن إرادة يهوه لمعاقبة شعب تخلىّ عن عبادته، هذه المصائب والويلات الجماعية لها معنى، إنّها تنشأ من سبب. ففي حين يفترض تعاقب الدورات اللانهائي أنّ الزمان لا يتدفق ولكنه يتشكّل من جديد على الدوام من خلال إلغاء التاريخ، فإنّ أحبار العبرانيين دشّنوا رؤية خطية للزمان تتراكم فيها الأحداث وتخلق التاريخ. لم يعد الإله العبري يشتغل عبر التكرار البسيط للنماذج البدئية بل يتدخّل في التاريخ الذي يجسّد الإرادة الإلهية. فهذه القطيعة، بالنسبة لميرسيا إلياد، تتوضح عبر الأسطورة العبرية في التضحية بإسحاق. في حين أنّ التضحية بالابن البكر كانت ممارسة معروفة في الشرق السحيق، فإن إبراهيم لم يفهم أمر يهوه. ومع ذلك وافق على التضحية بإسحاق. لم تعد هذه الموافقة قائمة على تكرار نموذج أصلي بل على فكرة جديدة هي فكرة الإيمان. كان الغرض من طلب الرب نفسه هو اختبار إيمان إبراهيم وإسحاق لم تتم التضحية به. التكرار لم يحصل ولكن الإيمان نشأ. كلن للإيمان أولويةعلى الطقوس. ستتناول المسيحية هذا التصور الجديد وتوسّع نطاقه.
ومع ذلك، لم يلغ الفكر العبري الوظيفة التجديدية للكارثة. لكن الانهيار النهائي الذي يجب أن يحدث في نهاية الزمان هو الذي احتفظ بهذا الدور. فالتاريخ هو مجرّد دورة واحدة تبتدأ من الفردوس المفقود إلى نهاية العالم الأبدية وبعد ذلك يتم حفظ العالم بشكل دائم وينتهي التاريخ. بالطبع كان على هذه القطيعة الفكرية والروحية التي فرضتها النخب العبرية أن تواجه مقاومة شعبية. ففي مواجهة ثقل التاريخ، كان هناك إغراء كبير للعودة إلى معتقدات التجديد الدوري وممارسات إلغاء التاريخ. فإنّ هذا الأخير، بالنسبة إلى مرسيا إلياد، لا تزال رؤيته ممكنة داخل العقيدة المسيحية، على سبيل المثال في الدورة الليتورجية السنوية، ولكن بشكل خاص في الممارسة الفعلية للمسيحية: "لم ينجح إضفاء الطابع المسيحي على الطبقات الشعبية الأوروبية في إلغاء لاهوت النموذج الأصلي، ولا في إلغاء النظريات الدورية والفلكية. "
بصرف النظر عن هذه الثورة الدينية اليهودية المسيحية، يذكرنا مؤرخ الأديان بالمحاولة الرومانية للانفلات من جبر الدورات دون إلغاء منطقها. فقد أدّى قلق الرومان على ذريتهم القادمة في مدينتهم إلى البحث عن مفتاح للتلاقي بين النسور الاثني عشر لرومولوس وعدد السنوات قبل الكارثة النهائية. ولحلّ هذا القلق المعضل، حاول البعض أن يرى في مجيء أغسطس ولادة جديدة تعيد العدادات إلى الصفر. فعقود من الاضطرابات التي تشير إلى نهاية الجمهورية وحدها كانت ستشّكل كارثة تسمح بالنشوء الجديد الضروري. هذا كان من شأنه أن يوفر نهاية للعالم أكبر حجماً. لم يدم هذا التصور فعلاً حتى عهد أوغسطس وتم عزل الإمبراطور الأخير بعد حوالي اثني عشر قرناً من النشأة الأسطورية لروما.
القلق الحديث إزاء التاريخ
يرى مرسيا إلياد، مثل العديد من المفكرين، في التصور الحديث للزمان علمنة للفكر الخطي اليهودي-المسيحي. ومع ذلك، فهو يؤكّد حقيقة أنّ العصر الذهبي البدائي لم يعد موجودًا في هذه الرؤية التقدمية الحديثة. فقد غدا المستقبل وحده مصدراً للخلاص ولا يمكن بأيّة حال من الأحوال أن يتقوّم هذا الأخير من خلال العودة إلى الأزمنة الأولى. الإيمان بالمستقبل وتقدير الابتكار ورفض الحنين إلى الماضي وتخفيض قيمة التكرار أصبحت هي الينابيع المشتركة للخير عند الحداثيين. ففي هذه التقدمية الحديثة، يتم استبعاد أي نشأة ثانية للزمان الدوري. يجب أن يتحمّل الإنسان ثقل التاريخ وعذاباته. ففي حين أن الرؤية الدورية والبدئية النموذجية قد أرضت "التعطش للكينونة" لدى الإنسان القديم من خلال ترسيخه في الطقوس وفي المقدس، تقدّم المشاريع التقدمية الحديثة الإنسان إلى دوار الزمان اللا نهائي واللاعكوسي irréversible.
بالتأكيد كان يمكن لهذه "التاريخانية" الحديثة أن تكون، في بدايتها، مصدرًا للحرية منذ أن صنع الإنسان، الذي أصبح صانعاً démiurge ، التاريخَ بدلاً من إلغائه. يمكن أن يكون التخلي عن النموذج الأصلي مصدرًا للحرية والمعنى. لكن الإنسان المعاصر، الذي تجاوزته الأشياء التي خلقها وتُرك بلا حماية في مواجهة "رعب التاريخ"، فقدَ مكانته وغرق في الكرب، يُفرض عليه التاريخ الآن ويتطلب منه اتباع اتجاهه المفترض. يتساءل مرسيا إلياد عن قدرة هذا التصوّر "التاريخي" الحديث على الاستمرار: "لا شيء يمنع من تصور حقبة، ليست بعيدة جدًا، حيث سترى البشرية، لضمان بقائها، نفسها تُردّ إلى التوقف عن "صنع" المزيد من "التاريخ" بالمعنى الذي بدأت في صنعه منذ إنشاء الإمبراطوريات الأولى، وسوف تكتفي بتكرار النماذج البدئية المنصوص عليها وستضطرّ إلى نسيان أي لفتة عفوية قد تكون لها عواقب "تاريخية"، باعتبارها غير مهمة و خطيرة. "

 

*برتران غاراندو 

ترجمة شريف مبروكي

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...