خيارات تركيا غير المستساغة في سورية

21-02-2020

خيارات تركيا غير المستساغة في سورية

الكاتب: غالب دالاي Galip Dalay


تشهدُ محافظةُ إدلب في شمال غرب سورية أزمةً إنسانيةً متفاقمة؛ فبينما تضغط الحكومة السورية لاستعادة السيطرة على آخر جيب رئيس لـ "لمعارضة"، فرّ مئات الآلاف من الأشخاص باتجاه حدود تركيا. وقد وصلَ عدد الفارين من إدلب وفقاً للأمم المتحدة إلى نحو 700.000 شخص منذ الأول من شهر كانون الأول/ديسمبر.

حاولت أنقرة جاهدةً بصفتها داعماً رئيساً لـ "المعارضة" إقناع موسكو بوقف هجوم الجيش السوري، ولكن دون جدوى. وما زاد الطين بلةً، أن الجيش السوري قتل 13 جندياً تركياً في هجومين قاتلين دعمتهما روسيا في الأسبوع الماضي.

تتناقض هذه التطورات مع الصورة الناشئة عن العلاقات التركية-الروسية في السنوات القليلة الماضية، والتي كانت تتحسن بسرعة (اجتذبت الكثير من الانتباه الدولي). في الواقع، دفعت هذه العلاقة الكثيرين في الغرب إلى الاعتقاد بأن تركيا تتحرك بعيداً عن الغرب وتقترب أكثر من روسيا.  وأثار هذا الوضعُ جزعاً كبيراً وقلقاً لدى حلفائها في الناتو، كما أسهم شراء تركيا لنظام صواريخ S-400 المتطور من روسيا بشكل أكبر في تعزيز هذا التصور. كانت عملية الشراء نتيجة لعملية تعاونية ولدت في سياق فوضى الحرب السورية. في حين أدت الاختلافات بين الولايات المتحدة وتركيا حول "قوات سوريا الديمقراطية-قسد" التي يقودها الأكراد، وبخاصّةٍ في شمال شرق سورية، إلى تفريقهما، إلا أن الرضا الروسي عن العمليات العسكرية التركية ضد "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال غرب سورية قد جعلها أقرب لروسيا.

لذلك، كانت سورية هي من قرّب العلاقات بين موسكو وأنقرة. علاوة على ذلك، أصبح تعاون البلدين في سورية أكثر تنظيماً عن طريق عمليات أستانا وسوتشي التي تقودها روسيا منذ نهاية عام 2016. ولم تسعَ هذه العمليات التي تركز على سورية إلى إيجاد تسوية للأزمة السورية فقط، بل أعادت هيكلة العلاقات التركية-الروسية.

ومع ذلك، ظلت مواقف تركيا وروسيا حول القضية السورية الأكبر، بما في ذلك ما يشمل رؤيتيهما حول نهاية أزمة ذلك البلد، مختلفةً تماماً؛ بينما ركزت روسيا وشريكها في دمشق منذ مدّة طويلة على كسب الحرب في أجزاء أخرى من سورية، وقد ألقى الهجومُ الأخير على إدلب الضوء على الخلافات الروسية-التركية وكشف مدى حدود تعاون هاتين الدولتين.

تظل الطموحات الاستراتيجية لتركيا وروسيا خارج سورية، على التوالي، قادرة على التنافس في جميع المناطق المجاورة لها تقريباً. إذ تتميز العلاقة بعدم الثقة، وليس التقارب الجيوسياسي. على هذا النحو، واجهت علاقات التعاون بينهما حداً موجوداً منذ البداية. قد تكون النفعية السياسية والواقعية والسخط المشترك تجاه الغرب أسباباً كافية لبدء هذا التعاون، لكنها ليست كافية للجمع جيوسياسياً بين تركيا وروسيا بشكل فعلي.

الوضع يزداد سوءاً بالنسبة لتركيا

تحدث الأزمة في إدلب في وقت تواجه فيه الحكومة التركية رد فعل محلياً على وجود نحو 3.5 ملايين لاجئ سوري. على هذا النحو، ستقاوم موجات جديدة من اللاجئين، وستبذل قصارى جهدها لإبقاء الناس الفارين من إدلب على الجانب السوري من الحدود. ومع ذلك، بالنظر إلى الأزمة الإنسانية التي تتكشف والظروف الشتوية القاسية، فإن مقاومة تركيا القوية لقبول أشخاص جدد ستأتي بتكاليف معنوية وسياسية –ما يسهم في زيادة سوء صورة أنقرة المتفاقمة دولياً.

إضافة إلى ذلك، يزيد التوتر في العلاقات التركية-الغربية من تعميق نقاط الضعف في تركيا. لقد أدى تحسُّن علاقات تركيا السريع مع روسيا في السنوات الأخيرة إلى ابتعاد حلفاء أنقرة الغربيين، وبخاصّةٍ الولايات المتحدة في ما يتعلق بإدلب، وتريد تركيا دعماً غربياً أكثر قوة –إما لوقف الهجوم الروسي السوري أو التقليل من تأثيراته. يقدم المسؤولون الأمريكيون دعماً كلامياً لتركيا، وقالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال زيارة إلى تركيا في أواخر كانون الثاني/يناير: إن ألمانيا وأوروبا ستساعدان في تقديم المزيد من المساعدات المالية لتركيا للتعامل مع أزمة اللاجئين المتزايدة. ولكن في هذه المرحلة، قد يكون هذا هو المستوى الأقصى للدعم الذي يمكن أن تتوقعه تركيا من الغرب.

ويُحتمل أيضاً أن ترى الولايات المتحدة فرصة في مأزق تركيا في سورية. كما يُرجّح أن تضغط الولايات المتحدة على تركيا إما للموافقة على شكل ما من أشكال التدبير المؤقت للتعايش مع "قوات سوريا الديمقراطية" التي يديرها الأكراد إلى حدٍ كبيرٍ، والتي شنت تركيا ضدها عملية توغل عسكرية في شمال شرق سورية قبل بضعة أشهر، أو تقديم بعض التنازلات عن نظام الصواريخ S-400 الذي اشترته تركيا من روسيا. ومع ذلك، بالنظر إلى الصورة السياسية الداخلية الحالية في تركيا، لا يمكن توقع حدوث تقدم على أي من الجانبين، ما لم تدخل العلاقات بين أنقرة وموسكو مرحلة أكثر صراعاً. حتى الآن، لا تزال تركيا تحاول حل التوترات مع روسيا دبلوماسياً.

في الوقت نفسه، يستمر وضع تركيا في إدلب بالتدهور. إذ استولى الجيش السوري على مدينة معرة النعمان الاستراتيجية، على الطريق السريع M-5 المهم الذي يربط دمشق بحلب، ودخل مدينة سراقب التي يسيطر عليها المتمردون، واستعاد السيطرة على الطرق السريعة الرئيسة M-4 وM-5 مع التقدم الإقليمي لـ "النظام"، أصبح عددٌ من مراكز المراقبة العسكرية التركية (سبعة، حتى يوم الثلاثاء) فعلياً تحت سيطرة الجيش السوري.

وإدراكاً منها لخياراتها غير المستساغة، تواصلت أنقرة مع موسكو للمطالبة بوقف إطلاق النار. ومع ذلك، رغم الجهود التركية المتكررة لمنع الهجوم العسكري على إدلب، فقد دعمت روسيا الجيش السوري في هجومه هناك. والأسوأ من ذلك، وفقاً لتصريحات روسيا، أنَّ تركيا فشلت في الوفاء بالتزامها في أيلول/سبتمبر 2018 (بموجب اتفاق ثنائي كان من المفترض أن تضغط تركيا فيه على جماعات المعارضة "المعتدلة" في إدلب لكي تنفصل عن الجماعات المتطرفة مثل "هيئة تحرير الشام") للتخلص من القوى المتطرفة في إدلب. تبعا لذلك، تشارك موسكو بالكامل في الهجوم.

هذا، وما يبعث على الغموض، كما يوضح مقتل الجنود الأتراك في الآونة الأخيرة، أن الوضع في إدلب يمكن أن يخرج عن السيطرة بسرعة –هي في الأساس حرب بالوكالة يمكن أن تصبح مواجهة عسكرية مباشرة بين تركيا والجيش السوري. في الواقع، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشن ضربة عسكرية في أي مكان، بما في ذلك استخدام القوة الجوية، إذا تم استهداف جندي تركي آخر.

يعد أفضل أمل لتركيا في هذه المرحلة هو تجميد الأزمة إلى أن تبدأ عملية سياسية في سورية، وتأمل تركيا في هذه المرحلة في تعزيز وجودها العسكريّ مقابل تنازلات سياسية. وما أثار غضب أنقرة أن موسكو تتجاهل حتى الآن مطالب تركيا من هذا القبيل.

خيارات تركيا

في ظل كل هذا السياق، هناك بعض السيناريوهات التي يمكن التفكير فيها:


التصعيد: يمكن أن تسعى تركيا إلى زيادة خسائر روسيا والدولة السورية. في بعض النواحي، تقوم تركيا بهذا بالفعل عن طريق إرسال أسلحة ثقيلة –بما في ذلك الدبابات والعربات المدرعة ومدافع الهاوتزر– إلى إدلب وبتيسير تعزيز المعارضة. إن تهديدات أردوغان وهذا التعزيز العسكري –محاولة أنقرة للردع– لم تسفر عن نتائج ملموسة بالنسبة لتركيا، لأن دمشق تعتقد أن لديها الزخم العسكري وتواصل هجومها. يمكن أن تختار تركيا أن تصبح علاقاتها أكثر اضطراباً مع روسيا، بما يتجاوز قضية إدلب.

التفاوض: يمكن أن تسعى تركيا إلى ترتيب جديد مع روسيا بشأن إدلب أو صفقة أستانا مُحدثة. هذا هو المسار الأكثر ترجيحاً لسورية، حيث إنه سينقذ أيضاً العلاقات التركية-الروسية. قد يعني هذا على الأرجح أن أنقرة وموسكو ستوقعان اتفاقاً حول "منطقة عازلة" تسيطر عليها تركيا على الجانب السوري من الحدود التركية السورية (ربما بالتنسيق مع الروس) للأشخاص الذين يفرون من الأزمة الإنسانية في إدلب. في الواقع، دعا وزير الدفاع التركي هولوسي عكار بالفعل إلى إنشاء "منطقة آمنة" للأشخاص الذين يغادرون إدلب. في هذه الحالة، من المرجح أن تتعامل تركيا مع الأوروبيين لتمويل، على الأقل جزئياً، تكلفة هذه المنطقة. يمكن أن يعالج هذا، لبعض الوقت على الأقل، المخاوف بشأن موجة جديدة محتملة من اللاجئين. ومع ذلك، تخاطر هذه "المنطقة العازلة" بأن تصبح "أرضاً متنازعاً عليها" على الطريق.

التواصل مع الغرب. إذا اختارت تركيا أن تلعب دوراً أكثر اضطراباً تجاه روسيا، فقد تقترب من الولايات المتحدة، وهو ما يحدث بالفعل إلى حد ما. في الواقع، شارك وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في العديد من التغريدات التي كان يدعم فيها بشدة موقف تركيا من إدلب. وقال أيضاً: إنه أرسل المبعوث الأمريكي الخاص بشأن سورية جيمس جيفري لتنسيق الخطوات مع تركيا، للرد على الهجمات الروسية السورية. كيف ستترجم هذه العبارات إلى أفعال؟ يمكن للولايات المتحدة ضرب أهداف معينة لـ "النظام" شرق الفرات، حيث يكون موقف روسيا ضعيفاً نسبياً، أو في أي مكان آخر؛ كما يمكن أن توفر المزيد من الدعم العسكري لـ "المعارضة" السورية أو تطبق مزيداً من العقوبات على "النظام" السوري. في الأساس، يمكن للولايات المتحدة وتركيا اتخاذ خطوات لزيادة تكلفة هجوم إدلب على روسيا و"النظام" السوري. ومع ذلك، سيتطلب التواصل التركي مع الولايات المتحدة بدوره بعض القرارات الصعبة بشأن سياستها تجاه الأكراد السوريين أو في ما يتعلق بنظام الصواريخ (S-400). هذا، ولا يرجّح أن تتنازل تركيا عن أيٍ من هذه الأمور. في هذا الصدد، من المحتمل أن يكون دعم الولايات المتحدة لتركيا مجرد دعمٍ كلاميٍّ في هذه المرحلة. وقد تستمر العلاقات التركية الروسية في هذه الجولة الأخيرة من التوتر حول إدلب. لدى كلا الجانبين الكثير ليخسره، بما في ذلك فقدان النفوذ أثناء العملية السياسية على سورية، في حال انقطاع علاقتهما.     ومع ذلك، سيظل هذا الخلاف الأخير يؤثر في علاقتهما، ويكشف عن معضلات حقيقية في السياسة الخارجية التركية. تحتاج تركيا على المدى القريب، إلى إنشاء "منطقة آمنة" للأشخاص الفارين من الأزمة الإنسانية المتفاقمة في إدلب. في الوقت نفسه، ينبغي أن تعيد أنقرة تقييم نهجها المتشدد غير المجدي تجاه الأكراد السوريين. التناقض هو الذي يجب على أنقرة معالجته. كما تحتاج في الوقت نفسه إلى تصحيح الخلل في علاقاتها مع روسيا والغرب عن طريق إعادة تعزيز علاقاتها الغربية. لكن خلافاً لذلك، كما كان الحال في السنوات الأخيرة، فإن تقلّب تركيا المستمر بين روسيا والغرب لن يؤدي إلا إلى تعميق مشاكلها في سياستها الخارجية والأمنية.

 



المصدر: بروكنغز (Brookings)


الجمل بالتعاون مع مركز دمشق للدراسات 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...