قابيل ويحيى الشغري

19-02-2020

قابيل ويحيى الشغري

Image
 السوري يحيى الشغري

الجمل ـ بشار بشير:

تقول الأسطورة (وربما الحقيقة) أن قابيل أقام شمالاً وزرع أرضه وهابيل أقام جنوباً ورعى مواشيه , وعندما تفاخرا على بعضهما أيهما يقيم في الأرض الأفضل ويقوم بالعمل الأفضل لم يجدا حلاً إلا أن يقدم كل منهما قرباناً للإله ومن يُقبل قربانه يكون قد نال إعجاب ورضى الإله أي أنه الأفضل . .

ولن نعرف أبداً أي قربان قد قبِل الرب , فالذين كتبوا التاريخ ( على هواهم ) فيما بعد هم رعاة كهابيل فادعوا أن الرب قد قبل قربان هابيل الراعي ورفض قربان قابيل المزارع مما أثار حفيظة قابيل وغضبه فقتل هابيل وهكذا بدأت وترسخت العداوة بين الجنوبيين والشماليين، بين الرعاة وبين المزارعين .

أغلب الظن أن سببا آخر قد رسخ العداوة بين الطرفين غير الحظوة عند الرب وهو الغيرة  التي آتى بها الموقع الجغرافي وطريقة العيش . فالشمال حيث الطقس المعتدل والطبيعة الجميلة والحياة السهلة الرغدة , بينما الجنوب يعيش الطقس الصعب والطبيعة الجرداء والحياة الصعبة المتعبة .

أصحاب الحياة الصعبة غاروا وحقدوا على أصحاب الحياة السهلة وربما تكون أسطورة هابيل وقابيل  مجرد تظهير لمكنونات أنفس الحاقدين حيث جعلوا أنفسهم المفضلين المقبولين عند الرب وهذا إضافة للغيرة كان كافياً لكي يضعوا جيرانهم أو أقربائهم الشماليين  نصب أعينهم فكلما تجمعت لأهل الجنوب قوة كان من أوائل أهدافها غزو الشمال ثم مع مرور الوقت أصبح الجنوبيون إن لم يستطيعوا غزو الشمال يكتفون بمناوشته أو بلبلة أفكاره أو بعرقلة تقدمه أو بتخريب ما يستطيون تخريبه مما يمتلكه الشمال مادياً أو معنوياً . المهم أن يطفوا ويظهر الطمع والعداوة القديمان .

لم يستطع الجنوبيون أن يُخرجوا الشمال من خيالهم وأفكارهم .. عندما أرادوا وصف الجنة لم يجدوا لها أوصافاً إلا ما شاهدوه في الشمال : ظلال وارفة وقطوف دانية ومياه جارية ولبن وعسل وخمر , حتى حور العين لم يخرج وصفهم عن نساء الشام اللواتي قال فيهن أحد الصحابة : تكاد ترى مخ عظامهن من فرط بياضهن .

أصبح هناك سبب آخر لوضع اليد على الشمال وهو الدخول للجنة على الأرض قبل الوصول لها في السماء.

لابد أن الغزوة الكبرى التي هيمن بها أهل الجنوب أتت في وقت كان فيه الشمال في حضيض مرحلة حضارية . فلم ينجح الجنوبيون بغزو الشمال بسهولة والسيطرة عليه وحكمه فقط بل استطاعوا تغييب حضارته وتاريخه ومحو ذاكرته وزرعوا بدلاً عن ذلك أفكارهم و تاريخهم بل ووصل نجاحهم لجعل الشماليين الحراس المجدّين والناشرين الدؤوبين لأفكار وتاريخ الجنوبيين . وهكذا تخلينا وتركنا ونسينا نحن الشماليين  أننا نحن أول من عرف الإله , و أول من اجترح لغة وأول من كتب الحروف, نسينا وتركنا قصصنا الحكيمة وأساطيرنا المجيدة و عشتارنا وتموزنا وأدونيسنا ..

تركنا ونسينا وطمرنا تاريخاً يمتد من أول مزارع  وضع أول حبة قمح في رحم الأرض , ومن مهندس مبدع شذَّب جذع شجرة وصنع منه أول دولاب محققاً بذلك أعظم إختراع للبشرية , ومن كاتب مُجِد أستطاع أن يرسم الحروف التي ننطقها فسجلها على قطعة طين صغيرة تدين لها الإنسانية وكل التقدم الحضاري الذي حققته بالعرفان . نسينا التقويم الأول و المنجل الأول والنوتة الموسيقية الأولى والنقود الأولى ووصفة الطبخ الأولى والتلاقي الحضاري الأول مع مختلف الشعوب بالتجارة وبالثقافة لا بالغزو والحرب , نسينا الشرائع الأولى والمعابد الأولى ومحاولات الإجابة الذكية الأولى على أسئلة البشرية الوجودية . نسينا وتخلينا عن ملوك وأمراء ومخترعين وبناة ومشرعين وفلاسفة وشعراء وفنانين. تركنا وراءنا كل هؤلاء وكل ذلك لصالح من حاول خلال آلاف السنين أن يفهم ويتعامل مع ما أنتجنا ولم ينجح .

أصبحت شوارعنا ومدارسنا ومستشفياتنا ومؤسساتنا وحتى أولادنا يحملون أسماء من أتونا من الجنوب .

ليتنا أحتفظنا بجزء صغير من تاريخنا الخاص , ببعض الأسماء ببعض القصص ببعض الذكريات , ليتنا احتفظنا بجزء من ذاتنا الحقيقية التي أجبرتنا الأزمة الحالية على العودة للتفتيش عنها .

سورية ليست بقعة جغرافية وإنما بقعة حضارية , وللذين يبحثون عن الهوية السورية فيبدأون بحثهم بمحاولة رسم حدود الوطن السوري فيقبلون ببعض حدوده ويرفضون بعضها.

وللذين يبحثون عن تعريف للمواطن السوري وكيف يمكن أن يجدوا صيغة جامعة للمواطنة بين كل الخليط الذي يعيش على هذه الأرض التي لا زالوا غير متفقين على حدودها , وللذين يبحثون في التاريخ هل وجد شيء أسمه سورية يمكن أن نبني الحاضر عليه أم لم يوجد , فليخرجوا من عذاب تساؤلاتهم , سورية حالة خاصة من أشكال الوجود حدودها ومجتمعها تحددهم حالتها الحضارية والثقافية أكثر مما تفعل الحدود و التعاريف والقوانين والدساتير كبقية البلدان . والأزمة التي نمر بها فتحت أعيننا على أننا ومن فترة طويلة نمر بحالة انفصام بهويتنا الحضارية لم يعد من الممكن التغاضي عن نقاشها ومحاولة إيجاد صيغة مبدعة لتحقيق توازننا النفسي والإجتماعي والثقافي والحضاري من جديد.

                                                                                                                                                       أبسط جندي قاتل وربما أستشهد في هذه الأزمة يقدم أمثولة رائعة عن بذرة الحضارة الأصيلة الموجودة في كل سوري.. فهو قاتل و دافع و قدم حياته لسورية دون أن يعنيه هل قبل البعض بحدودها الحالية أم لا , ودون أن يعنيه هل وصل البعض لتعريف للمواطن السوري أم لا , ودون أن تعنيه الكثير من التعاريف والسجالات والنقاشات الأخرى الطائفية والإيديولوجية و حتى السفسطائية .       

السوريون الصامدون قاتلوا وربما استشهدوا كرمى لإحساس قديم لازال يختزنه كل سوري في داخله إحساس بأننا لسنا أصحاب دور حضاري فقط وإنما نحن أحد أرحام الحضارة الأساسية  وقد آن لنا أن نعاود لعب دورنا كمولدين للحضارة و كمنتجين لها ( ليس بمعنى صنع سيارة أو كومبيوتر )

آن لنا أن نعود لدورنا الأصيل الذي يعرف أن حفظ واستذكار الكتب المقدسة لا يُعد مشاركة بصنع الحضارة , وأن التكايا والزوايا (والمقاهي حالياً ) ليست بمصانع حضارية , وأن الطوائف والمذاهب ليست روافع حضارية , وأن حرق البخور (والمعسل حالياً) و رقص الميلوية لن يفيدا في أي قفزة معرفية للإنسانية .

هذه ليست دعوة للتخلي عن كل ذلك أو إلغاءه (فالميلوية مثلاً جميلة الطقوس) و كل تنوع هو إغناء للوحة المجتمعية  التي تزداد جمالاً بإزدياد ألوانها لا  بأحادية لونها , لكن هنا يجب التفريق بين ماهو مجرد لون تجميلي وبين ماهو أساسي ووظيفي ومنتج .

آن لنا أن نكون  صادقين مع أنفسنا فنتخلى عن ممارسات و شعارات و أوهام لا جذور لها في تربتنا لصالح إعادة تبني ما برعنا عبر بضعة آلاف السنين في صنعه وربما خلقنا لأجل صنعه، ولن تستقيم و تصح ذواتنا إلا بالعودة إليه , نحن للحضارة صناع ولسنا مستهلكين ,نحن في المدنية شركاء أساسيين ولسنا متابعين هامشيين .

 

*يحيى الشغري: جندي سوري صرخ بوجه قاتله الداعشي قبل أن يستشهد: "والله لنمحيها" وقد تحققت نبوءته بزوال دولة داعش الدينية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...