نيتشه، من الفيلولوجيا إلى الفلسفة

21-07-2018

نيتشه، من الفيلولوجيا إلى الفلسفة

ولادة التراجيديا:

لقد اجتمعت في فلسفة "مولد التراجيديا" المرجعيّة الفنيّة نظراً لعشق نيتشه لـ فاغنار الذي كان يعتبره قيمة ثقافيّة متميّزة، ومرجعيّة أدبيّة نظراً لعشقه لـهولدرلين، إلى جانب مرجعية أخرى فلسفيّة من خلال استناده على كلّ من شوبنهاور وكانط. لذلك لم يتحدّث نيتشه عن التراجيديا اليونانيّة بلغة أرسطية أو بلغة تاريخية، لكنّه تحدّث عنها بلغة فنيّة انطلاقاً من تعلّقه وعشقه للموسيقى الفاغنارية خاصّة، لذلك كان عنوان هذا الأثر الذي دخل به نيتشه إلى الفلسفة "ولادة التراجيديا من خلال روح الموسيقى". يرى نيتشه أنّ هذا الأثر هو "غير ملائم للعصر"، وأنّ ما هو جديد فيه هو أمران حاسمان: الأمر الأوّل هو سعيه إلى فهم "ظاهرة ديونيزوس" لدى الإغريق، وهي الظاهرة التي اكتشف لأوّل مرّة أنّها ظاهرة "نفسية" أساساً، فجعلها منبتاً أصليّاً ومولداً للفنّ الإغريقي عامّة. أمّا الأمر الثاني فهو "ظاهرة سقراط" في حدّ ذاته الذي يظهر لأوّل مرّة في صورة المنحطّ، بل نموذجاً للانحطاط والتفكّك الاغريقي، ذلك أنّ العقل السقراطي يظهر مناقضاً للغريزة وللفنّ وللحياة، فهو رمز انحطاط الحياة من الدّاخل. يكشف هذا الأثر عن نشأة التراجيديا من روح الموسيقى، وانطلاقاً من الصّراع بين ظاهرتين فنيّتين هما أبولون وديونيزوس، فيرمز الأوّل إلى "الحلم" والثاني إلى "النشوة". لقد أقدم نيتشه من خلال هذه الثنائيّة على إحداث قلب جذريّ للأنساق الفلسفية جاعلاً دخوله للفلسفة بعد اهتمامه بالفيلولوجيا منصبّاً على الظاهرة الفنيّة بامتياز ومركّزاً على انتعاش القيم الجمالية الإستيتيقية التي تجد إثباتها الأقصى في التوحّد بين إله الحلم وإله النشوة، تجاوزاً للفردانية ومعانقة للزمن الأبديّ الذي يتجلّى في العودة إلى الأصل. فالتراجيديا في هذا السياق هي الدّليل القاطع على أنّ الإغريق لم يكونوا يوماً متشائمين، بل كانت حيلة في الانتصار على التشاؤم، وهاهنا يحيل نيتشه إلى خطأ شوبنهاور في تأويله للتراجيديا وفي جعله للحياة مناقضة للغريزة[1].

تُعدّ التراجيديا عند نيتشه مقاومة للموت، عشقاً للحياة، معانقة للمتعالي وممارسة للذّة لحظة الألم. نقرأ في مولد التراجيديا ازدواجيّة في اللغة مقترنة بازدواجية في الرؤية نفسها. فيتحدث نيتشه عن التراجيديا اليونانية وعن العصر الهيليني في لغة تجمع بين الشاعرية والرمزية. أمّا فيما يخصّ ازدواجية الرؤية فتظهر فيما سمّاه نيتشه "الروح العلميّة" و"الروح الديونيزوسية". يعرّف نيتشه "الروح العلميّة" على أنّها اعتقاد ظهر أيّام سقراط وأنّه معرفة الطبيعة وحقائقها. وتتلخّص هذه "الروح العلمية" أساساً في المعرفة الحقيقية، الفضيلة وسقراط نفسه من جهة إحالته على المبادئ السقراطية الثلاثة والمتمثلة في: الفضيلة معرفة، لا نذنب إلا عن جهل، الإنسان الفاضل سعيد.

لقد حكمت هذه الروح العلميّة على التراجيديا بالاحتضار والموت لكونها تزدري الفنّ والشعر وتنفي الغريزة والجسد. لذلك تقوم "الروح الديونيزوسية" على أنقاض هذا التصوّر السقراطي للحياة، فيفسح نيتشه المجال للغريزة والفنّ والمسرح والموسيقى. ففي الموسيقى يعود ديونيزوس بعد اختفاء طويل معبّراً عن الإرادة الكونيّة، وهو أمر لا يتحقّق إلاّ بالموسيقى لكونها تعطي للأسطورة معنى ميتافيزيقا أكثر نفاذاً وإقناعاً.

تتخلّص التراجيديا من الواقع اليوميّ والعالم الخارجي بفضل الأسطورة والموسيقى، فبالموسيقى يتحرّر الجسد وبالأسطورة نعانق الزمن الأصليّ. فالأسطورة هي قصّة فعل الآلهة في بداية الزمن، فإذا كان الزمن الأولي متعلّقاً بالزمن الأبديّ المقدّس، فإنّه من شأن العودة إلى عمق الماضي أن تنسينا كلّ شيء، كلّ ألم وكلّ قلق. وإن كان أكبر ألم لدى الإنسان هو الموت، فإنّ التراجيديا تكون في عمقها للموت نفسه والانصهار في الزمن الأبديّ.

الهوامش:
[1]- نيتشه، هذا هو الإنسان، ترجمة علي مصباح، الطبعة الأولى، منشورات الجمل، 2003، "ما الذي يجعلني أكتب كتباً جيّدة"

 

 د.فوزية ضيف الله

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...