حنا مينا: كونياك وطني مع قهوة وجلواز فرنسي وحمراء

12-05-2006

حنا مينا: كونياك وطني مع قهوة وجلواز فرنسي وحمراء

الجمل - خاص : الشمس بدأت تلامس نهاية النصف الشرقي من النهار ونحن نقطع الطريق الواصل الى مساكن برزة حيث منزل قبطان الرواية السورية "حنا مينا" ، في موقع لم يصله بعد التلوث والضجيج، ولجنا دهيلزاً قصيراً نحو غرفة المكتب حيث كان ينتظرنا على كنبة طويلة أمامه طاولة صغيرة ،يصطف عليها كأس الكونياك الوطني "الريان" إلى جانب فنجان قهوة ممتلئ حتى الشفة.
سلامات مولانا وشيخنا
سلامات واستقبلنا بالأحضان والقبلات، بفيض من الحب والألفة ..
جئنا نشرب معك فنجان قهوة
أهلاً وسهلاً هاتوا القنينة من هناك.. وسرعان ما حضرت الكؤوس ومكعبات الثلج والفستق والموالح، ومن صناديق الويسكي المركونة إلى جانب أكوام الكتب. خرجت زجاجة ويسكي بكر، لكننا تنبهنا الى وجود أخرى لم تنته بعد ارتأينا البدء منها، لكن شيخنا لا يحب النهايات، فأبى إلا أن تفتح زجاجة جديدة على شرف الجلسة.
ومع أول طرق للكؤوس استرسل الكلام عذباً طلياً ، متحرراً من إنشاء اللقاءات الصحفية أو الرسمية، فنحن ذهبنا إليه لشرب فنجان قهوة والاطمئنان على صحته والتمتع بصحبته، زيارة لنرتاح نحن أيضاً في ساعة نسرقها من روتين عملنا اليومي، فكانت ساعة لا بل عدة ساعات خارج الزمن، وخارج تحفظات العقل، كل فكرة كل كلمة صالحة للمرح والعبث مهما كانت مؤلمة، فمع الكأس ومع شخص كحنا مينا يتأنق بالكلمة كما يتأنق بالشراب كل شيء في الحياة سيبدو فرحاً طازجاً كدهشة الطفولة، حدثنا عن صديقه الذي رحل مؤخراً محمد الماغوط وكيف بكى حين تلقى الخبر المؤسف. عب من كأس الكونياك وأخذ نفساً عميقاً من سيجارة "الحمراء" وقال: ذات مرة سألته إذا كان يوافق على أن أرشحه لنيل جائزة، فقال لي لا ترشحني، إذا تذكروني هم كان به. وفعلاً تذكروه، وذهب لاستلام مائة وعشرين ألف دولار. يعب من كأسه رشفة كونياك ملفوعة بلحظة صمت ليتابع: حين عاد اتصل بي وقال: يا حنا أنا رجعت تعال وأجلب معك ويسكي.
ذهبت إليه وكان في مشفى العباسيين. سألت ما مرضه؟ فقالوا لي: اسأله هو. كان متعباً. أمسك بيدي وراح يروي لي النكات.و"شايل" أسنانه وحين دخل عليه شخص يحمل إليه نسخ من كتابه الجديد، قال له: اذهب، وناداني: يا حنا وين الويسكي، قلت له: الويسكي هناك في البيت وليس في المستشفى.
الله يرحمك يا محمد ...
يطرق رأسه قبل أن يرشف من كأسه. يرفع رأسه قليلاً ليرمقنا بنظرة حزينة منكسرة ويعود ليطرق مجدداً مركزاً نظره على الطاولة الصغيرة أمامنا، مسترسلاً: ذات مرة صرخ محمد مالكم ومال حنا مينا لماذا تلاحقونه، لما كل هذا الحسد والغيرة .. الله يرحمك يا محمد ...
أحد الشعراء أمضى خمساً وعشرين عاماً وهو يشتمني، وحين لم يجد في ذلك فائدة، جاء إلى بيتي، فاستقبلته وقبلته وكأن شيئاً لم يكن ..
نقاطعه بالقول: لكننا نعلم أنك حين أوقف ذلك الشاعر عن الكتابة في جريدة "تشرين" ذهبت إلى وزارة الإعلام وصعدت عشرة طوابق  كي تقابل الوزير وتحل له مشكلته مع الجريدة ليعود للكتابة..
يجيب دون أن يرفع رأسه: لا أتذكر ذلك..
أما نحن فنتذكر ..
لا يسمعنا، وهو يتذكر... انسحبنا من اتحاد الكتاب أنا وسعد الله ونوس من أجل أدونيس، وأدونيس "حاطط" عينه على نوبل، مستعد يعمل كل شيء ليحصل عليها.
يأخذنا إلى قصة أخرى عن توسطه لابن عمه لدى رئيس الحكومة "عبد الرحمن خليفاوي" حيث بعث برسالة إليه كي يوافق على تعيينه مستخدماً، وجاء رد رئيس الحكومة بعدم الموافقة، فاستغرب حنا مينا الأمر وذهب ليسأل خليفاوي لماذا لم توافق فأنا لم أطلب سوى أن يتم تعيينه مستخدماً، فأجابه خليفاوي: كيف أوافق! هل يجوز أن يعمل ابن عم حنا مينا آذن، فأجابه حنا مينا: وماذا تريد أن تعينه  محافظ!!
ينقر كأسه بكؤوسنا ضاحكاً ثم يتابع:
أهل حلب لا يجيدون السباحة.. لأن طريق الذهاب في البحر يكون سالكاً، أما طريق العودة فنهاك دائماً حفرة يسقطون بها. قال لي صديقي إن ابنه لا يخاف البحر، فحملته إلى البحر وعلمته السباحة.
يقاطعه نبيل صالح: بل قل إنك علمته الغرق.
يضحك والكأس في يد والسيجارة في اليد الأخرى.. ويوجه الحديث الى نبيل: لقد أخطأت في بيتك، وما كان يجب علي أن أخطئ، لقد كنت زعلان ومقهور ولا أعرف السبب، وفي بيتك قلت كلاماً كان يجب أن لا أقوله .. كان معن حيدر شاب لطيف..
يصحح له نبيل إنه ليس معن حيدر، بل هو فائز الصايغ المدير العام للإذاعة والتلفزيون، حسناً، ويتابع سرد موقف جرى في تلك السهرة التي جمعته مع ثلة من الأصدقاء في بيت نبيل، ويعود ويكرر اسم معن حيدر، وكأنما كل مدير عام للتلفزيون بات اسمه معن حيدر في ذاكرة حنا مينا الانتقائية جداً... فهو حين أراد أن يعبر عن إعجابه بفايز الصايغ، كان خارج سياق الكلام فلم يخطئ بالاسم هذه المرة ولا بالتذكر، فقال أنا أحب الرجل الذي اسمه فايز الصايغ، حسبي أنه وقف ورفع كأس حنا مينا..
ونحن رفعنا بدورنا كأس حنا مينا، وأخذ سيجارة جديدة من باكيت الجلواز الأزرق وضيفنا منها.
ـ سألناه لماذا تدخن نوعين من الدخان، الحمرا الوطني والكلواز الفرنسي في وقت واحد..؟
ـ لأني مجنون.. فقط لو أعرف ما أريد من الحياة..
نبيل: من الأفضل لك ألا تعرف ماذا تريد منها، ولو عرفت لأصبحت مثل زوجتك..
نقرت الكؤوس مجدداً بصحة نبيل..
سألته:
ـ لماذا تكرر أنك لم تحب في حياتك، وأنت في روايتك لم تترك مغامرة عاطفية إلا وكتبت عنها؟
فأجاب: حنا مينا لم يحب، حنا مينا انتقم..  حنا مينا لا يسكت على خطأ.. ذات مرة غمز أحدهم من أصلي... فقلت له حنا لا ينسى أصله، أخواتي كن خادمات حين كنت طفلاً وحين كبرت حررتهن وزوجتهن أفضل زيجات، وتوفين بكرامة.. لقد انتقمت لهن. أخذت بثأري انتقاماً لا حباً..
نبيل ـ هذا كلام قاس جداً ؟
ـ انتقاماً لا حباً..
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها      عند التقلب في أنيابها العطب
أنا الآن أفعى بدون أنياب ... إن حنا مينا الذي لا يهاب الدنيا كلها لم يقل لشيء كن إلا  فكان.
كنا الملوك على العروش          وكانت الدنيا لدينا
نبيل ـ لكنك أحببت ..
ـ حنا لم يحب ..(يكمل شعراً):
ما راعنا الدهر بالبلوى وغمرتها
لكننا بالإباء المرّ رعناه
إن نحمل الحزن لا شكوى ولا ملل
غدر الأحبة حزن ما احتملناه
وما راعنا على عصف الخطوب بنا
هوى حبيب رعيناه ونرعاه
ليت الذين وهبناهم سرائرنا
في زحمة الخطب أغلوا ما وهبناه
- لكن النساء يحببنك ويرون فيك أبطال روايتك؟
ـ وهذه هي البلية يا بنتي ..
لم يبق في الكرم غير الحطب.. حين عبرت عن رغبتي بامرأة جاءت إلي تعرض حبها، وحين أصبح الأمر جدياً قلت لها امض فقد كنت أمزح معك، فأنا بنظرها كالبطل في رواياتي، إنه امتحان صعب، وما بودي وجهي يسود آخر عمري..  لم يبق بالكرم غير الحطب...
نبيل ـ الحطب يشعل حرائق ويا ويلنا من حرائقك ..
ـ وين الكبريت: يقول حنا ممازحاً..
تنقر الكؤوس وتلتف الرؤوس، قاربت الساعة الرابعة بعد الظهر، ومازال الحديث يؤدي رقصته الدائخة بين نتف أخبار من هنا وهناك وبين تداعيات الذاكرة البعيدة والقريبة، على وقع صخب ثمل في غرفة اتسع ضيقها لتغدوا بحجم البحر، يحملنا إليه حنا مينا ليعلمنا الغرق.
ـ أنا أحب شخصاً اسمه حسين حمزة !!
بعد زجاجتي بيرة بإمكانك أن تصمت وهو يحكي..
حنا مينا مجنون... يربح كثيراً وينفق كثيراً... أمي وبعد إنجابها لثلاث بنات، توجهت إلى ربها ودعت يا رب أرزقني ولداً "كيف ما كان يكون"، وأنا جئت إلى هذه الدنيا هيك "كيف ما كان يكون" ..
لكن هذا الشخص، الذي جاء كما يقول بالخطأ، هو شيخ الرواية السورية وبحارها، الذي أهدى للأجيال السورية خبرته المريرة والشقية في الحياة، عبر مجموعة روايات، إن لم تعلمنا فن اكتشاف الحياة فهي لا شك منحتنا متعة القراءة، عبر لغة أدبية رفيعة، كما منحتنا هذه الجلسة الفريدة معه، فرصة للتعرف على جانب آخر من هذا الإنسان، الذي أخرج الكونياك من داخله ذلك فرح الطفل الطيب القلب، العفوي والبسيط، لتكون لحظات خارج الزمن، وخارج المألوف.

 

سعاد جروس

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...