عبد الرزاق عيد : هكذا يغدو المثقف تبشيريا !! .. المأزق يكمن بحالة الطرد ا

09-03-2006

عبد الرزاق عيد : هكذا يغدو المثقف تبشيريا !! .. المأزق يكمن بحالة الطرد ا

 
في حواره مع موقع جدار أجراه الزميلان خلف علي الخلف وأحمد برهو يقول الدكتور عبد الرزاق عيد : أننا أمام ظاهرة محزنة في سوريا وهي أن نضطر أو أن تقود الظروف القائمة لأن يملا الفراغ السياسي بالفعل الثقافي إنها معادلة استثنائية باستثنائية الحالة في سوريا، نظاما وحكما وأحكاما استثنائية. مؤكداُ أننا نعيش في مجتمع محكوم بقيم كلية مجتمع يفتقر للحريات يفتقر لأي معنى لأي عقد اجتماعي، سمتها حنة آرندت في وصفها للمجتمعات الفاشية بـ"الاعتباطية المقيدة". مضيفاً أن أهم انجازات النظام الشمولي في سوريا قيميا هي قيم الـنـفـاق، وثقافة الخــوف ,
      نص الحوار
الدكتور عبد الرزاق عيد من مؤسسي "لجان إحياء المجتمع المدني" وناشط سياسي معروف، يكتب أيضاً الكثير من المقالات سواء في متابعة الشأن السياسي بجانبه الحدثي أو جانبه الفكري منها مقاله الشهير عن "ثقافة الخوف" حاولنا في هذا الحوار أن نبتعد عن السياسي إلا أن الدكتور عبد الرزاق عيد بدى في الآونة الاخيرة ذا صوت سياسي واضح وإن لم يلحق السياسة بمعناها المباشر فهي تلحقه، فمن المطالبة من قبل (أحدهم: عضو مجلس شعب) لإحالته الى القضاء (قضاء: محكمة امن الدولة) بسبب مقالة له، إلى إحالته الى القضاء العسكري فيما بعد بسبب عدد من مقالاته إلى تبرئته إلى.. كان لجدار معه هذا الحوار.
 
 * يحجز المثقف (السوري ) لذاته مقعدا رسولياً مكرسا عبره نسقاً تبشيرياً فاقعاً يحتكر عبره الحقيقة وتعبيراتها.. ويمكن أن نلحظ ذلك بسهولة من خلال نتاجه المكتوب وبلاغاته الشفهية مستلهماً في هذا " اشهد اللهم أني قد بلغت " كيف يتلقى عبد الرزاق عيد هكذا صياغة وأين موقعه منها ؟
 
 **السؤال مطروح بطريقة استنكارية ماكرة، ويهجو نموذج المثقف الرسالي بشكل سليط، لذلك يضطر الكاتب أن يتبرأ من هذه التهمة. أنا من الناس الذين يعتقدون ويؤمنون أن الفعل الثقافي نتاج وانتاج وفاعلية في الحياة والواقع، وإذا لم يكن فاعلا ومؤثرا فلا قيمة له، هذا على المستوى الوظيفي الإجرائي، لكن خلط السؤال الإجرائي بالسؤال المعرفي قد ينتج هذه الالتباسات بين ما هو معرفي وبين ما هو وظيفي إيديولوجي، ان المراهنة على الوظيفة الاجرائية ان كانت ايديولوجية او سياسية على حساب المستوى المعرفي أو الابداعي في الممارسة الفنية والابداعية: إن كان في التشكيل، الموسيقى، الادب... هي التي تفضي الى هذا المعنى المرذول للمثقف الذي صاغه السؤال عبر صيغته الوظيفية الاجرائية: ايديولوجي، سياسي، نفعي، غرضي (من غرض ) يخضع البرنامج للراهن في خدمة مؤسسة حزبية تنظيمية قائمة، بهدف الاستقرار والاستمرار والتأبيد، ومن هنا يتأتى المعنى الأدائي المرذول للمثقف في صيغة المثقف التبشيري أو هكذا يغدو المثقف تبشيريا...!
 
 * يعيش المثقف (السوري ) ازدواجية واضحة سواء بانفصام سلوكه الحياتي والاجتماعي عن تنظيراته الكتابية أو بانفصامه اتجاه دفاعه عن الآخر عندما لا يوافقه الرأي هذا الآخر.. إذ نرى أن هذا المثقف لا يتمثل المقولات التي يرطن بها شفاهة أو كتابة.. كيف تشكلت هذه الازدواجية وتعممت ؟
 
** ان موضوع هذه الازدواجية التي عادة يمكن فهمها بلغة السياسة الافتراق بين الفكر والممارسة أو بلغة الإبداع الانفصال بين الفكر والواقع، هذه سمة لا تخص المثقف السوري وحده، لكن إذا كان ثمة ما يميز المثقف السوري بهذه السمة بشكل فاقع فإنه يمكن نسبها لمجمل تركيبة الحياة السياسية والثقافية في المجتمع السوري خلال أربعين سنة تم فيها تفكيك بل وتدمير المجتمع المدني. و مما يمكن تسميته أيضاً بأنها سمة ملازمة للبنية السياسية للمجتمع السوري هو الافتراق بين البرنامج السياسي وبين الممارسة التي أنتجها النظام الشمولي الذي أهم انجازاته قيميا هي قيم النفاق، وثقافة الخوف من قيم الصدق، ولعل حزب البعث خلال اربعين سنة من حكمه لسوريا يقدم مثالا خارقا على هذه الازدوادجية..
 
 * هل تنسب هنا ضمناً لحزب البعث فعلاً ثقافياً..؟
 
** انا اتكلم على مستوى حياة الجماعة، مستوى الصيرورات الاجتماعية او التيارات السياسة وبالتالي فمادام حزب البعث هو الفاعل الأكبر في الحياة الثقافية كونه الفاعل الوحيد في الحياة السياسية، وبالتالي كيف لنا أن نتصور هذه الأجيال التي تكونت خلال 40 سنة، وكيف سيكون عقلها السياسي الذي تربى على هذه الازدواجية القائمة بين الشعارات التي يتعلمها منذ ان كان في طلائع البعث الى الشبيبة الى الجامعة وبين واقع مغاير لا يفتأ انتهاكا لشرف هذه الشعارات. أما على المستوى العام فإن المثقف لا يستطيع ان يعيش خارج هذه المعادلة التي -هي أصلاً- أصبحت كأنها سمة اجتماعية مميزة للمجتمع السوري، حيث يبدو وكأن هناك ثمة عقد ضمني، مضمونه: أنه مقابل أن تقول قول السلطة وتنتظم في خطابها ( سلطة السياسة "سلطة ومعارضة"، سلطة الاعراف، سلطة الايديلوجيا السائدة) مقابل أن تضمن راحة البال والاستمرارية حتى يمكن العيش بأي ثمن ولو على حساب المكانة والكرامة. عندما نتحدث الان عن حزب البعث فان هذا ينطبق على كل الحياة السياسية في سوريا، وهذا أمر طبيعي إذ أنه استقطب كل تيارات الحياة الفكرية (القومية / اليسارية) من خلال الحاقها تبعيا في ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية. إن المثقف يعيش في بيئة متكاملة من النفاق والرياء والكذب بوصفها حياة يومية، لكن هذا لا يعني حكم على كل المثقفين السوريين (المثقف بالمعنى المنتج للثقافة )، وربما يكون حظ المثقف السوري بما يتعلق بمسألة الاتساق والانسجام السلوكي: العقلي والنفسي والثقافي هو الأميز على المستوى العربي، إنه احد اكبر التحديات التي طرحت على السلطة السياسية خلال 40 سنة، وقد تكشف للسلطة أنها لاتملك مثقفا مبدعا واحدا، لذلك قرروا أمام حالة العزلة الثقافية التي يعيشها النظام السياسي أن ينتجوا مثقفين، فأرسلوا بالألاف خريجي الجامعات على أساس الولاء (الحزبي، الامني، المظلي) للتخصص في الدراسات العليا.. والآن فإن جامعاتنا مليئة بأكاديميي الموالاة: مخابرات ومظليين، حيث من المعروف أن ليس في سوريا استاذ جامعي غير بعثي، بينما الكفاءات من الكتاب السوريين نجدهم منتشرين في معظم الصحافة العربية التي تصدر في الخارج إن كان على مستوى المقال السياسي أو على مستوى المُبدَع الأدبي والفني مليئة بكتابات السوريين، حتى فترة قريبة نشر جهاد الزين رأياً يقول فيه لغسان تويني (النهاراللبنانية) بأن النظام السوري لو تغير باتجاه الحريات الديموقراطية، فإن معظمنا قد يحال إلى المعاش، بسبب كثرة المواهب السورية التي يمكن أن تمثل الصحافة.
 
 
 * كما نرى يعيش المثقف عزلة واضحة للعيان عن الفعل الاجتماعي في الوقت الذي لا يكل فيه هذا المثقف ولا يمل من الحديث باسم المجتمع.. كيف يمكن لهذا المثقف ان يسير باتجاه الناس (كاصطلاح بديل عن الجماهير ) الذي يدعي أنه يمثل مصالحهم ويعبر عن خياراتهم الطامحة لحياة أفضل ؟
 
 **يمكن هنا ان اتحدث عن تجربتي..نحن أمام مأزق انعدام الحياة السياسية في سوريا ومن ثم انعدام الحياة الثقافية، فإن المثقف المنتج للثقافة يجد نفسه يتوجه الى متلق افتراضي ويكتب وكأنه شاهد على عصره، شاهد على فترة زمنية معاشة أكثر مما يهدف التوجه الى متلقي ملموس ومحدد، وبالتالي يفترض أن على نصه أن يقول الحقيقة (كما يراها طبعا) بغض النظر عن المردودية المنتظرة التي هي بالمحصلة لا تملك من الرمزية إلا القباحة والبشاعة، بعد أن أفقرت الحياة الثقافية والاجتماعية الرمزية (القيمية ) ضمن هذه المناخات.. انهيار القيم.. انهيار الطبقة الوسطى المنتجة للثقافة والسياسة، عندها لن تسود سوى عندها طقوس الاوغاد والحثالات والرعاع التي تفرض على المثقف أن ينأى بنفسه عن هذا الالتياث المعمم، والوسخ الذي يملأ دروب القلب والوجدان!
 
* لا يملك المثقف السوري أي مشروع بمعزل عن السلطة (وجوده في مقابلها ) إذ أن مشروعيته ومشروعه مستمدا من وجود هذه السلطة التي يمكن اعتبارها المحرك الاساسي لكل مقولاته وانفعالاته النظرية.. و كذلك اشتغاله اليومي.. ويمكن أن نخمن دون أن نرجم في الغيب أن غياب هذه السلطة يعني بالضرورة غياب كل تنظيرات و(مشاريع ) هذا المثقف.. لماذا لم يتملك المثقف السوري مشروعا مستقلا بذاته خارج الاشتغال السياسي المباشر ؟
 
** بداية إن هذا التشخيص الذي يطرحه السؤال ينطلق من توصيف موضوعي لواقع النظام الكلياني الشمولي المطبق على المجتمع بكل حيزاته، فيستحيل -والامر كذلك- ان يتمكن المثقف من ممارسة بطر لذة تذوق الدال في النص كما يدعو رولان بارت. من هنا نجد حالة التسييس الشديد الذي تفرض على المثقف موضوعياً أن يملأ الفراغ السياسي في سوريا التي أفرغت من قواها السياسية الحقة منذ أربعة عقود، فمنذ خمس سنوات نجد أن من ينشط ويفعِّل الحراك الداخلي السياسي والاجتماعي ما هم إلا المثقفون، لان هناك ازمة تتمثل في غياب للأحزاب السياسية القادرة على التعبير عن الجماعات، الشرائح، القوى المجتمعية، الامر الذي يفرض على المثقف مهمات ربما تبدو اعباء حقيقية عليه، وهي لا تستجيب فعليا لتطلعات او للاستجابات الداخلية للمبدع لممارسة الابداع، وعلى كلٍ هذا الامر ليس سورياً فقط إنما هو الى حد كبير حالة عربية بسبب الظروف الاجرائية المتشابهة على المستوى الاجتماعي أو السياسي من حيث غياب الحريات الديموقراطية. إنه يكتب أو ينتج (اتكلم هنا عن المبدع الفعلي ) لانه لا يستطيع الا وأن يكتب ويبدع تماما كما يستعار مثال الشجرة التي لا تستطيع إلا أن تثمر لنفسها، دون أن يكون هدفها أن تقدم ثمارها لأحد...
 
*... لكن ألم يساهم هذا المثقف بانتاج هذه العزلة بمعنى ادق ألم يكن صانعاً لها ليس بالمعنى الارادي بل بالمعنى الافتراقي عن الناس إذ ان غالبية المثقفين هم من وسط يساري قومي بينما مزاج الناس هو ديني الى حد كبير...
 
**... المشكلة أن المأزق يكمن بحالة الطرد المستمر خارج السياسة وبالتالي لا تكمن المشكلة بتوجهات المثقف إن كانت يسارية أو يمينية. والعزلة بهذا المعنى لا تكون مشكلة المثقف فقط إنها مشكلة الحزب السياسي.. مشكلة أي مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الذي تم تقويضه عبر عقود من الزمن فلم يعد هناك ساحة للتواصل الاجتماعي سوى ساحة المسجد باعتباره الساحة الوحيدة التي لا يمكن أن تطالها وثنية السلطة وعنفها فلم يبق امامنا سوى هذا المقدس وحتى هنا ليست المشكلة مشكلة المثقف اليساري وانما مشكلة مجتمع غيب عن الفاعلية السياسية.. الاجتماعية.. الثقافية.. نحن في سوريا فقدنا حتى مقام (الوجيه ) اجتماعيا الذي يشكل عنصر اللاحم الاجتماعي الرمزي في المجتمعات. يمكن القول أنه على المستوى المجتمعي الأهلي أو المدني فلا حضور سوى للسلطة ورموزها، من هنا تبدو المعادلة مقلوبة إذ يفترض بالعالم الروحي والثقافي الإبداعي والوجداني أن يتفتح باحثا عن أسئلته العليا التي تتجاوز الوجود بشروطه الموضوعية، من اجل البحث عن المعاني التي تتجاوز الواقع برثاثته السردية (تفاصيل يومية)، عندما تحل وثنية السلطة محل وثنية السلعة، يكون المدخل لتجاوز الشرط الواقعي (برثاثته) هو شرط تجاوز مشكلة السلطة التي تشكل عقبة أمام أي تغيير لوافع صنعته وصنعها فهي قوة قهرية وظيفتها الاقصاء السياسي من خلال عملية التوثين الدائمة والدائبة لكائنات سلطوية جاهلة وغبية، ومن هنا يكون المثقف في وضع زائد عن الحاجة، وتلك هي الاشكالية.
 
* يبدو لنا في كثير من الاحيان ان المثقف السوري هو مثقف موسوعي .. و عارف بكل شيء من أقدم النظريات السياسية الى آخر النظريات التقنية في الانترنت.. إذ أنه (أي المثقف ) غير ميال بالمطلق الى الاختصاص فالشاعر ينظّّر في الموسيقى والفنان التشكيلي ناقد للشعر.. الخ أنت كنموذج كان اشتغالك الاساسي هو النقد الادبي لكنك نسجت صورة عامة لك هي خارج اختصاصك الاساسي بل ومهملا له... كيف تفسر لنا هذا ؟
 
** عود على بدء، المثقف الذي يعيش في المجتمعات العالم ثالثية يفتقر الى ممارسة بطر تذوق لذة النص، لذة الابداع، وهو بالتالي عالق بشرط اشكالِه كمثقف، فهو غير قادر ان يعيش ببرودة الاختصاص كتكنوقراط إذا كان عازماً حقيقة ألا يكون أية سلطة مرجعية سوى مرجعية ضميره عقله لكي لا يكون فيما يكتبه سلطة (أي سلطة).
ينبغي هنا ان نميز بين المثقف التقني الاختصاصي الذي عادة ما يسميه الكواكبي المثقف (المتمجد) بمجد السلطة، أي مثقف السلطة وهو الذي لا يهتم بعلوم الانسان، والمثقف الماجد وهو مثقف يسكنه هم التغيير، مثقف اشكالي يعيش حالة مأزقية في علاقته مع الواقع المحيط به، والذي دائماً يعيش حالة الاستعصاء الذي يريد الانتصار عليه باتجاه انتاج كليات نوعية جديدة، معارف وآفاق اخرى وتحديات وطنية ونهضوية وتنويرية تفرض عليه، ولا يجد مفرا من مواجهتها، وهذه ليست خاصة بالمثقف السوري، فمن الممكن أن تجد تمظهرات عالمية لها من مثل ادوارد سعيد فهو أيضا ناقد أدبي إلا انه في السنوات الاخيرة غدا ناقدا سياسيا، ويمكن أن أذكر تشومسكي عالم اللغويات الشهير فهو منذ ربع قرن وكأنه متخصص بمناهضة السياسات الامريكية .. ان ظاهرة المثقف الاشكالي موجودة في المجتمعات النامية اكثر من المجتمعات المتقدمة بسبب الاشكاليات المطروحة أمام المثقف، وعلى المستوى الشخصي فانا لا التزم بأية مجلة أو جريدة للكتابة المنتظمة بالتكليف لاني لا أستطيع أن اكتب المقال السياسي إلا وفق حاجتي الفكرية والروحية للكتابة، وليس بسبب التزامي نحو جريدة ما أو مجلة هذا يتيح لي أن اعود الى شغلي الاساسي الذي يمكن أن يكون منتظما في اطار ما يمكن تسميته المشروع الكتابي. وبالتالي فإن التساؤل الذي يطرح ما معنى أن الناقد الادبي يشتغل باختصاصات مغايرة أو مختلفة؟ أراه سؤالا غير ذي جدوى فالنقد الادبي اليوم هو تكوين خبرة اختصاصية في معالجة النص وتحليل استراتيجياته تفسيرا وتأويلا لبلوغ المغزى القار في باطن النص، ومن هنا فالناقد الأدبي هو الاقدر اختصاصيا على مغادرة ساحة اختصاصه ما دام اختصاصه الأساسي هو الاشتغال على النص، والنص لا ينبغي أن يكون بالضرورة نصا أدبيا، فالحياة كلها بكل متجلياتها وساحاتها وخيراتها نصوص للبحث والتحليل والتأويل والاستقراء والاستنباط، وعلى هذا فالسياسة يمكن أن تكون نصا، المجتمع نص، وهكذا لا يمكن أن نستهجن اشتغال الناقد الادبي بالشأن العام ومن ثم انخراطه بالمعاش واليومي السياسي الاجتماعي، مادام هذا الأمر ناتجا عن الاستجابة لضغط داخلي يكابد الكاتب مطارحاته.
 
 
 * يلاحظ أن غالبية المشتغلين بالسياسة الآن (معارضة وسلطة ) هم قادمون من حقل ثقافي مما يعني أنهم يضمرون احتقارا للفعل الثقافي ويأخذونه مطية للتسلل إلى الحقل السياسي حيث هناك (كما يعتقدون ) تتكرس القيمة والدور ويكونون تحت الضوء... أنت كمثال للقدوم من الثقافي الى السياسي كيف تنظر إلى هذا ؟
 
** لست موافقاً على تعبير سلطة ومعارضة، فبالنسبة للسلطة فإن الأمر معروف أنهم هناك من اجل الارتزاق ليعززوا مواقع النفوذ والامتيازات والمكاسب المخزنة، ولم يعودوا يكتفوا بها، بل هو يريدون قنص حتى الامتيازات المعنوية التي يسعى لها المثقف. لقد أصبح لدينا في سوريا جائحة سلطوية هي جائحة الحصول على لقب دكتور للتقدم في مواقع النفوذ والامتيازات، بينما النص المعارض أو الكتابة المعارضة هي مكلفة أكثر بكثير من مكاسب الأضواء أي السجن فعلا أو بالقوة، فكل المثقفين المعارضين المحترمين في سوريا يعيشون في السجن بالقوة، أو هم مشاريع سجناء، في بلد محكوم بخصوبة اللامتوقع، بالمحصلة ربما يمكن القول أننا أمام ظاهرة محزنة في سوريا وهي أن نضطر أو أن تقود الظروف القائمة لأن يملا الفراغ السياسي بالفعل الثقافي إنها معادلة استثنائية باستثنائية الحالة في سوريا، نظاما وحكما وأحكاما استثنائية.
 
 * هل هذا يفسر أن المثقفين السوريين لم يتوقفوا عند حدود إنتاج النص المعارض فرديا بل قاموا بنشاط جماعي مؤطر بدءاً بالبيانات واستمر عبر التجمعات.. لجان أحياء المجتمع المدني.. جمعيات حقوق إنسان.. منتديات.. الخ
 
 **نعم هذا يفسر الى حد كبير ذلك، فنحن عندما تداعينا لاصدار بيان الـ99 أو وثيقة الالف أو الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني كان يحفزنا شعور أن ثمة نواة للحياة السياسية المدنية ينبغي احياؤها، ولم نكن نطمح الى انشاء حزب او تنظيم وإنما كان طموحنا أن ننتج مقالا جماعيا أو ان نلقي بحجر في هذا الاستنقاع السياسي والركود والانقباض، على حد تعبير ابن خلدون وهو يتأمل انهيارات زمنه، وذلك من اجل هز الحياة السياسية دون ان يكون لدينا هدف لا نشاء حزب سياسي وواقع لجان احياء المجتمع المدني الان يبرهن على أن المؤسسين لم يكونوا يهدفون لقيام تنظيم حزبي أو سياسي.
 
 *يرى البعض ان المثقف مشغول بصناعة العدو سواء عبر حياته اليومية أو حيزه الثقافي.. موهما نفسه أنه يعيش في اجواء معركة مستمرة.. هل هذا واقع الحال لديك ؟
 
**إن هذة السلطة تقود منذ اربعين عاما حربا باردة وساخنة ضد الثقافة والمجتمع، فهي تؤسس ممارستها على نوع من التضاد الثنائي الحاد، إما معي أو ضدي. فأنا نصف حياتي (السياسية ) في موقع سياسي حليف (الحزب الشيوعي السوري ) ومع ذلك لم يرضهم هذا الموقع وقادوا حربا ضدي في لقمة عيشي وعملي... فهم لا يقبلون أن تكون حيادياً حتى!! إما ان تكون معهم أو يكونون ضدك.. نحن نعيش في مجتمع محكوم بقيم كلية مجتمع يفتقر للحريات يفتقر لأي معنى لأي عقد اجتماعي، سمتها حنة آرنت في وصفها للمجتمعات الفاشية بـ"الاعتباطية المقيدة". فمن الطبيعي –والأمر كذلك- أن تتحكم ثقافة الغاء الآخر بعد أن تم تدمير المجتمع على المستوى التعايشي، وقبول الاخر. نحن نتاج بنية المجتمع الشمولي وبالتالي يمكن ان نكون جميعا -إلى هذا الحد أو ذاك- ملوثين بالاستبداد والافتقار إلى ثقافة الحوار وقبول الآخر.
 
 * في مقال لك عن عبد الرحمن منيف التقطت شخصية (المحملجي ) وشخّصته واستطعت من خلاله نسج نصا بقدر ما هو ابداعي بقدر مايرتبط بحالة واقعية تحتاج لاشتغال نقدي وبالقدر نفسه يرتبط بعبد الرحمن منيف، لقد حللت تلك الشخصية من خلال زاوية معينة (لا اخفي اعجابي بها ).. لكن اليوم في علاقتك مع السياسة من حيث هي فعل يومي أو وضع مشاريع، لم نعد نقرأ لك هكذا نص مما يشكل خسارة لي كقارئ من إمكانية قراءة نص إبداعي كهذا النص كما أرى.. دون أن أعوض بشيء من انصرافك إلى السياسي...
 
** قلت قبل قليل نحن محرومون اليوم من ممارسة متعة تذوق فخامة الدال، ومن متعة ممارسة ما نحبه من الكتابة المنتجة للذة النص، متعة النص على حد تعبير رولان بارت. كتبت عن المحملجي وانا اتمتع بتحليل هذه الشخصية واتعرف عليها واتوغل عبر المحور السيمولوجي والسيسيولوجي والفني. ان النص الادبي عبر تعقيده وتشابكه يتيح لك ان تستنفر كل مكوناتك وكفاءتك وكل ما راكمته من الخبرات الفكرية والمعرفية.. لكننا ونحن الآن أمام هذه الحالة الكابوسية يشعر المرء انه بدء يخسر هذه النعمة، نعمة ممارسة متعة الكتابة.
 
 
 * لكن الواقع الحالي من زاوية ما يستدعي هكذا نص لضرورات الحالة التي نعيشها.. هذا الواقع بيئة صالحة لأن تبدع نصاً بهذه الطريقة إذا جاز التعبير..
 
 **انا طوال عمري لم استطع ان اكتب نصا لا ينتج معادلا معرفيا ونظريا ذا وظيفة تغييرية في الواقع لكن يبدو ان طبيعة التحديات والظروف هي التي تقرر شكل ممارستك لهمك الثقافي والمعرفي والسياسي، يقول بلنسكي ( مارسنا النقد الأدبي كتورية عن ممارستنا للنقد السياسي، في ظروف الاستبداد وغياب حريات التعبير) فهو نموذج للمثقف المنخرط في عصره وزمنه. نحن نعيش ظروفا مشابهة للاستبداد القيصري ونخضع لذات التحديات، ما يفسر ربما الابتعاد عن رفاه ممارسة النقد السياسي عبر النقد الادبي كما فعل بلنسكي، فهذا يعبر عن شدة سوء الوضع الذي نعيشه.. الذي استشعره ككاتب ..
 
 * الا تعتقد ان هذا نسق من التوريط تقوم به السلطة لاستدارج من نوع ما للكاتب كي يدخل في دوامة  مالا يترك أثراً مهماً و باقياً...
 
 **أنا برايي السلطة المستبدة على طول الزمن كما قال الكواكبي تهتم بعلوم اللسان لا بعلوم الانسان وبالتالي فإن أي سلطة تفضل ان يهتم المثقف بانشغالاته كتقني يقدم خبراته فيما يخدم قوى الامر الواقع لانها بالنتيجة هي التي تستفيد من هذا الواقع، لانها هي سيدة الامر الواقع، على المستوى الفعلي وصلتني رسائل تقول أن كتابك في نقد العقل الفقهي / سدنة هياكل الوهم، إن كان نموذج البوطي أوالجزء الثاني نموذج القرضاوي، هما أهم من كل ما كتبته في السياسة بمعناها اليومي، ليتبين لي من خلال تكرار هذه الانطباع أن ثمة ناظم يوحد هذه الاطروحات وهي صادرة عن مثقفي السلطة، الذين لا يريدون أن أكتب في الشأن اليومي رغم ان الكتاب ممنوع تداوله سلطوياً، ورغم أنه الأكثر انتشارا وذيوعا، وفي كل الأحوال لا يهم السلطة أن تترك أثرا مهما وباقيا أو لم تترك، كل ما يهمها أن تمارس طغيانها دون رقثيب أو حسيب.
 
 * دائما يتم الحديث عن اربعة عقود كانت السبب في مجموعة من النتائج وهذا ما كررته انت الان  الا  يمكن الافتراض أن السؤال هو اليوم أو الراهن، فإذا كنا على دراية بسوية النظام وطبيعة علاقته بهذا المجتمع استطعنا أن نحلل ونصل الى نتائج... ألم يعي هذا المثقف أو جموع المثقفين هذه المسلمات وآلية التعاطي معها ؟ ألا يعني هذا اننا انتقلنا بالحالة الثقافية الى منحى التعاطي السياسي وهذا جانب يمكن افتراضه أقل أهمية الى حد كبير بالقياس مع ما يمكن أن ينتجه المثقف الذي يمكن أن يكون دوره اعمق واوسع واكبر ويتجاوز الحيز السياسي والاجتماعي.. على اعتبار ان مهمته العليا هي الحق .. لماذا الحديث دائما في هذه النقطة بالذات مما يبدو وكأنه ميل الى سهولة التحليل بتعليق كل شيء على هذه النقطة ؟
 
** الان نحن نفسر لماذا واقع الابداع الثقافي بشتى تجلياته يعيش مأزقا، نحن نفسر هذا المأزق بحكم المعادلة التي تحكم المجتمعات ما قبل الرأسمالية بأولوية الايديولوجية، وفي مجتمعات الاستبداد فإن السياسة هي الصانعة للاقتصاد، وهي الصانعة للثقافة والمجتمع وبالتالي البناء الفوقي الثقافي يكون متقدما على البناء التحتي في مجتمعات ما قبل الرأسمالية، إن المعادلة التي أشرت إليها هي المعادلة الموضوعية أو هكذا ينبغي أن تكون عليه الامور، لكن في هذه المجتمعات تحل وثنية السلطة محل وثنية السلعة (كما اسلفت قبل قليل ) أي أنه في المجتمعات ما قبل الرأسمالية السلطة حاضرة أو شاملة لكل مفاصل الحياة.. الديمقراطية، الحريات، الحراك السياسي.. وأمام هيمنة انماط التفكير الشمولي وممارسات الطغيان والقمع يجد المثقف نفسه -ومن خلال استشعاره لبعض الحصانات- انه مطلوب منه اخلاقيا ان يتقدم صفوف الناس المذلين المهانين، يستشعر موضوعيا انه ينبغي ان يكون صوت الناس الذين لا صوت لهم.. في مجتمعات تعامله انظمتها كأنها رهائن تساوم عليها الخارج.ومن هنا يجد المثقف انه يمتلك حصانات (إعلامية ) قادرة على الانتصار على صورة الرهينة هذه، انها حالة تبلغ ذروة مأساويتها عندما يجد المثقف الوطني أن ملاذه الآمن يكمن في نجدة الخارج على أخوته وأبناءعمومته وأهله وعشيرته في الداخل.. إذ يمكن أن نذكر هنا ان اتفاق الشراكة الاوربية – السورية بقي عالقاً بدون توقيع بسبب البنود المتعلقة بحقوق الانسان، فهذا النظام يستخدم مجتمعه رهينة أمام الاوربيين من اجل أن يقدم تنازلات على مستوى حريات الشعب ويفاوضهم مقابل ارخاء قبضة الاضطهاد عن شعبه، وصلنا إلى مرحلة غدا فيها الخجل لا يخجل من نفسه، عندما ترفض التوقيع على طلب الآخرين بأن تحترم أهلك!؟
 
أجرى الحوار
 
عن موقع جدار

كادر
الدكتور عبد الرزاق عيد من مواليد حلب 1950 حاصل على شهادة دبلوم الدراسات المعمقة في السرديات وتحليل النص وعلم المناهج من السوربون في باريس، وعلى شهادة الدكتوراه من الجامعة نفسها. ناهزت مؤلفاته العشرين مؤلفا في التنوير العقلاني والتأسيس لعقل نقدي، أصدر مؤخرا كتاب (يسألونك عن المجتمع المدني "ربيع دمشق الموؤد ") الصادر عن مركز الإنماء الحضاري في القاهرة ودار الفارابي في بيروت. ومن أبرز المؤلفات الأخرى التي أصدرها: "طه حسين، العقل والدين، بحث في مشكلة المنهج" ـ "الثقافة الوطنية، الحداثة، مشكلة المنهج" "ياسين الحافظ، نقد حداثة التأخر" - "العالم القصي لزكريا تامر" و"الثقافي الجمالي الايديولوجي"، ( أزمة التنوير، شرعنة الفوات الحضاري) – دار الأهالي – دمشق 1997، الديموقراطية بين العلمانية والإسلام – مشترك – سلسلة حوارات لقرن جديد – دار الفكر- دمشق 1999، إنجاز بحث حول النظام الأبوي وعلاقته بحقوق الإنسان لينشر كفصل في كتاب سيصدر بالإنكليزية من قبل ملتقى الثقافات (الغرب والشرق) في كمبردج – الولايات المتحدة الأمريكية – بإدارة د. سلمى الخضراء الجيوسي – عام 1998، أبو حيان التوحيدي (فصل الدين عن الدولة / فصل الدين عن الفلسفة) – الأهالي - دمشق عام 2001، قراءة سوسيودلالية في " مدن الملح " – الأهالي – دمشق 2002، ذهنية التحريم أم ثقافة الفتنة (حوارات في التعدد والتغاير والاختلاف) دار الحوار– اللاذقية- 2001، نقد العقل الفقهي (سدنة هياكل الوهم / البوطي أنموذجا) دار الطليعة– بيروت 2003. كما صدر له الجزء الثاني من نقد العقل الفقهي/ سدنة هياكل الوهم، متناولا نموذجا آخرا تحت عنوان "يوسف القرضاوي بين التسامح والإرهاب".

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...