لماذا لا يجد مريض القلق العلاج المناسب؟

19-03-2018

لماذا لا يجد مريض القلق العلاج المناسب؟

 

فلتقم بحل المسألة التالية: يعاني نحو 10% من الأشخاص من القلق، إلا أن نحو 27% منهم فقط من سبق أن تلقوا علاجًا، ولم يكن هذا العلاج مناسبًا إلا لنحو 9.8% منهم. إذن كم نسبة من يحصل على علاج مناسب؟

تبدو معضلة علمية رياضية، إلا أن هذا ما كشفته دراسة عالمية، هي الأولى من نوعها، أجرتها منظمة الصحة العقلية العالمية. لكن ما هو القلق؟

القلق هو اضطراب عقلي يعتقد أنه ينشأ من مجموعة من تغيرات دماغية، بجانب العوامل البيئية والجينية ويسبب قدرًا من الضيق العارم الذي يمنع الحياة بصورة طبيعية، ويتسم بمشاكل في النوم والعجز عن البقاء هادئًا ويسبب الذعر والخوف وعدم الارتياح وتنميل بالقدمين واليدين أو خفقان القلب، بجانب الغثيان والدوار وتوتر العضلات. تقول جوردي ألونسو، مديرة قسم الأوبئة والصحة العامة والباحثة بمعهد أبحاث مستشفى ديل مار، التي أجرت الدراسة:

يميل اضطراب القلق إلى أن يكون مزمنًا، ومصاحبًا لأمراض أخرى، ويسبب إعاقة كبيرة لحياة الفرد. إذا أضفنا إلى ذلك حقيقة أنه في عام 2010، وجد أن القلق يكبد 30 دولة من دول الاتحاد الأوروبي 74.400 مليون، سندرك أنه من الواضح أنها مشكلة صحية عامة ومهمة.
تشير الدراسة إلى أن القلق يبدأ في وقت مبكر للغاية بداية من عمر 5 إلى 10 سنوات، وأن نسب الإصابة تختلف بين البلدان المختلفة، ففي حين تصل في الدول الأوروبية لنحو 10.4%، تبلغ نحو 5.3% في سكان الدول الأفريقية.

العلاج يمنع أن يصبح المرض مزمنًا

يقول فيكتور بيريز، مدير معهد مستشفى دي مار للطب النفسي والإدمان:

يشمل العلاج المناسب لمرض القلق… العلاج الدوائي الذي يحتاج أربع زيارات للطبيب على الأقل، أو العلاج النفسي الذي لا يقل عن 8 زيارات، ومن شأن العلاج المناسب أن يمنع الاضطراب من أن يصبح مزمنًا، ويقلل من فرصة حدوثه مع أمراض جسدية أو عقلية أخرى مثل الاكتئاب.
العلاجات الدوائية مثل «مضادات الاكتئاب – antidepressant»، و«مضادات الهستامين – Antihistamine»، تعمل على المواد الكيميائية بالدماغ، ويتم تعاطيها عادة يوميًا، سواء كان المريض يعاني من نوبة قلق أم لا، ويصفها مقدم الرعاية الصحية فقط. ويوجد عدد من العلاجات غير الدوائية المتبعة منهجيًا وعالميًا، وتشمل الآتي:

1. العلاج المعرفي السلوكي (Cognitive Behavioural Therapy (CBT: أشهر طرق العلاج، وهو طريقة علاجية يتشارك فيها كل من المريض والمعالج، وتعتمد على تحديد أنماط التفكير، وفهم التغيرات التي تطرأ على السلوك، ويتعلم من خلالها المريض مهارات حياتية للتأقلم، ويمكن أن يثمر نتائجه خلال فترة تتراوح بين 12 و16 أسبوعًا.

2. العلاج بالتعرض Exposure Therapy: نوع من أنواع العلاج السابق، ويتضمن التعرض التدريجي للمواقف التي تسبب الخوف والتردد للمريض؛ كي يصبح أقل حساسية تجاهها مع الوقت.

3. العلاج السلوكي الجدلي (Dialectical Behavioral Therapy (DBT: وهو يدمج بين مفاهيم التأمل وبين تقنيات المعرفة السلوكية، ويتضمن جلسات علاج فردية وجماعية؛ لتعلم مهارات القبول والتغير والتسامح والتحكم في العواطف.

4. العلاج الخاص بالعلاقات الشخصية (Interpersonal Therapy (IPT: ويركز على البحث في المشكلات التي تؤثر في العلاقات وتساهم في حدوث المرض.

5. إبطال الحساسية وإعادة المعالجة عبر حركة العينين Eye Movement Desensitization and Reprocessing EMD: يجمع بين تقنيات العلاج المعرفي والسلوكي النفسي للوصول إلى حل للتأقلم، ويفترض أن سبب كثير من الأمراض النفسية يعود للاستيعاب السيئ لتجارب الحياة القاسية، وعدم قدرة الشخص على الاستفادة من هذه التجارب. وتؤثر حركة العين تحت ظروف معينة في الحد من شدة الأفكار المزعجة، والطريقة التي يتعامل فيها الدماغ مع المعلومات؛ ما يجعل الشخص يرى التجربة القاسية على نحو أقل إيلامًا.

6. الاسترخاء التدريجي Progressive muscle relaxation: ويعتمد على شد جزء معين من الجسم، ثم إرخائه، وعادة يبدأ من إصبع القدم، ثم الانتقال للجزء الذي يليه؛ حتى يتخلص الجسم من التوتر. ويشمل كذلك الاحتفاظ بصور مهدئة أو روائح وأصوات مريحة، ومحاولة استرجاعها، خاصة قبل أو عند المواقف التي تسبب القلق والتوتر.

7. الارتجاع البيولوجي Biofeedback: وهي تقنية للتحكم في استجابات الجسم، ويتم خلالها توصيل الشخص إلى مجسات كهربية، ويتعلم الشخص تدريجيًا كيفية السيطرة على هذه الموجات.

ضعف النظام الصحي والثقافة أبرز الأسباب

يُروى عن ابن سينا أن أحد المرضى كان يدّعي أنه بقرة، ويلح على أن يُذبح، فامتنع عن الطعام لرفضهم ذبحه، فضعفت بنيته ووهن جسده، فما كان من ابن سينا إلا أن طلب إحضار السكين لذبحه، وأمر بربطه من يديه وقدميه، وعندما هم بذبحه فَحَص المريض وأردف أنه ضعيف للغاية، ويجب أن يسمن قبل الذبح، فانكب المريض على الطعام والشراب؛ فقوي جسده وصح عقله وشفي من مرضه.

كان السابق مثالًا على التحليل النفسي وطرق العلاج عند العرب والمسلمين القدامى الذين كانوا يعالجون المرضى بالعقاقير المهدئة والموسيقى والرياضة والراحة والغذاء والمعاملة الطيبة في حجرات طبية مهيئة، وبيمارستانات منتشرة وموجودة في دمشق والأندلس وبغداد؛ أما الآن فربما يعاني أحدهم من مرض عقلي، فينصحه الآخر بالذهاب لأحد المعالجين الشعبيين الدينيين أو الروحانيين للتخلص من العين الشريرة، وليُخرج منه الجن فإنه ممسوس أو باستخدام الكي، ووضع لبخة أو الكهرباء بالأسلاك، وغيرها من الأمور التي ما زالت تنتشر بين أوساط المتعلمين، وغير المتعلمين على السواء، إلا أن هذه الطرق قد تودي بصاحبها للوفاة. فنقص الوعي والإدراك في المجتمع للحاجة للعلاج؛ أفسح المجال لأدعياء علاج هذه الأمراض.

فعلاج الطب النفسي يعتمد على نحو كبير على الجانب الثقافي، فوفقًا لزياد قرنفل، الطبيب النفسي في كلية طب وايل كورنيل في قطر، يوجد توصيف جيد للأمراض النفسية في الدول المتقدمة، يتضمن إدراكًا شاملًا للأعراض وعوامل الخطورة والمضاعفات، كما توجد بيانات لهذه الدول، لكن تفتقر الدول النامية لمثل هذا؛ فيصعب معرفة مدى انتشار هذه الاضطرابات ما يؤدي لتجاهلها لعدم إدراك حجم المشكلة.

وفقًا للدراسة يعود انخفاض نسبة من يحصلون على العلاج المناسب إلى عدة أسباب؛ منها ضعف النظام الصحي، وارتفاع تكاليف العلاج، فحتى في الدول ذات الدخل المرتفع لا يحصل على العلاج سوى ثلث الأفراد المصابين، إضافة إلى وصمة العار التي ترافق المريض وتحد من رغبته في تلقي العلاج، فيكبت أحاسيسه هربًا من حكم المجتمع، أو قد لا يكتشف المعالج أو المريض حاجته للعلاج أصلًا.

علاوة على ذلك، يأتي افتقار المنطقة العربية لقوانين منظمة للمعالجة النفسية أو هيكلية فعالة للعلاج النفسي وترخيصه، إلى جانب قلة توفر الاختصاصيين النفسيين. فعلى سبيل المثال يصل عددهم في ليبيا وحدها إلى نحو 12 طبيبًا نفسيًا وفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، وتسبب الصراع الدائر في سوريا في تدمير العديد من المستشفيات ومؤسسات تقديم العلاج النفسي، وفي بعض دول العالم يوجد نحو طبيب نفسي واحد لكل مليون شخص، وفقًا لقرنفل.

لكن قرنفل يشير إلى أن المنطقة العربية تشهد بعض التغييرات على نطاق محدود، ففي الإمارات بموجب القانون يتعين على جميع المدارس ضم الطلبة ذوي الاحتياجات الخاصة، وتأمين متطلباتهم؛ ما يعني مزيدًا من الوعي لفهم الاضطرابات التي تتطلب رعاية خاصة.

ومن جانبه، ينصح قرنفل بتحديث وسائل التدريس، وزيادة الوعي، وتعليم مهارات المقابلات النفسية والمواقف المتغيرة المتعلقة بالصحة النفسية عمليًا، والتركيز على الأبحاث السريرية، وتدريب أطباء الرعاية الأولية على اكتشاف الاضطرابات النفسية الشائعة وعلاجها، إلى جانب وضع قوانين وتشريعات تحقق التوازن بين السلامة والجودة وحقوق المرضى في الحرية والخصوصية، ووضع إرشادات عملية عند اتخاذ القرار، مثلما تفعل الدول المتقدمة، إلى جانب ضرورة تغيير توجهات الجمهور الذي يوضح قرنفل أنه بدونهم لن يتغير الأمر، ويشير إلى أسبوع الصحة النفسية التي تطلقه منظمة الصحة العالمية وعدد من المنظمات الأخرى للترويج لقضايا الصحية النفسية، ونشر الوعي بشأنها.

تتفق ألونسو فتقول: «يجب محو الأمية ونشر الوعي الصحي في البلدان التي ينقصها ذلك، وعادة ما تكون البلدان متوسطة أو منخفضة الدخل… ويجب تشجيع مقدمي الرعاية الصحية على اتباع المبادئ التوجيهية السريرية لتحسين نوعية العلاج عندما يتعلق الأمر باضطرابات القلق».
إضاءات

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...