غياب الأخت

28-02-2007

غياب الأخت

لا أذكر من طفولتها إلا نتفاً متناثرة. ربما بسبب التمييز الذي مارسته الأسرة على البنات، مرت طفولة أمينة من أمام عيني، مثلما مرت طفولة أخواتي الأخريات، من دون أن يرسخ شيء كثير في ذهني عن تلك الأيام.

كانت تخرج معي إلى اللعب. تخرج حافية القدمين، وأخرج أنا حافي القدمين. ترتدي فستاناً ملوناً بسيطاً وتخرج إلى اللعب. لها عينان عسليتان وشعرها ينسدل على كتفيها. نخرج إلى ساحة بئرنا الغربية، يأتي ابن عمي ومعه أخوه، يأتي نفر من أولاد العشيرة، كل ولد يأتي ومعه أخوه. أنا آتي إلى اللعب ومعي أختي. ليس لي أخ يخرج معي إلى اللعب، ويساندني إذا ما تشاجرتُ مع الأولاد. كان هذا الأمر يؤلمني. أغضب أحياناً من وجودها معنا نحن الأولاد. أغضب منها وأطردها لكي تعود إلى البيت أو لكي تذهب وتلعب مع البنات. في بعض الأحيان نلعب نحن الأولاد والبنات في شكل مختلط، فيكون وجودها معي مبرراً.

لا أذكر شيئاً من كلامها في الطفولة. لا أذكر شكل ضحكتها، لا أذكر شيئاً من مطالبها. أعتقد أنها عاشت طفولتها من دون مطالب! أو هذا ما تصوره لي أنانيتي. ولعلّ التمييز الذي مارسه أبي وأمي في البيت لمصلحتي، هو المسؤول عن امحاء طفولتها من ذاكرتي. ما حاجتي إلى تفاصيل طفولتها ما دامت محكوماً عليها بأن تحيا في الظل بعيداً عن مجال امتيازاتي! وهي امتيازات طفيفة على أية حال.

لا أذكر إن كانت مرضت في طفولتها. لا أذكر متى أخذتها أمي إلى المدينة لتطعيمها ضد الأمراض السارية. لا أتذكرها وهي على صدر أمي ترضع الحليب من ثديها، (أمي قالت إنها أرضعتها سنة مثل بقية أخواتها. قالت إنها أرضعت كلاً من أبنائها الذكور سنتين كاملتين!) لا أتذكر إن كان أبي حملها بين ذراعيه وراح يهدهدها. لا أدري إن كان رفعها في الهواء ومن ثم تلقفها بيديه وهي تضحك مكركرة من بهجة وفرح. لم يكن لطفولتها في طفولتي سوى حضور طفيف.

كنت أراها وهي تلعب مع البنات. لها حضور مميز بينهن، سيتعزز هذا الحضور حينما تذهب إلى المدرسة، ستظهر قوة شخصيتها وهي تلميذة، ما سيجعل المدرسات يحببنها ويضعن ثقتهن فيها. تلعب مع البنات وتبدو أقدر منهن على ابتداع أساليب اللعب، وعلى التحكم في مسار كل لعبة. تجلس مع صاحباتها وتنهمك معهن في صنع عرائس من قماش، يصنعن العرائس ويحملنهن إلى صدورهن، كأنهن يتدربن على الأمومة التي ستأتي بعد زمن.

في أحيان أخرى، كانت تتسابق مع صاحباتها وقريباتها، يركضن حول البيوت ثم ينطلقن نحو ساحة بئرنا الغربية، ولا يندر أن تأخذ كلبنا ذا الشعر الأبيض المرشوق ببقع حمر، حماسة مفاجئة فيركض مع الراكضات، ثم لا تلبث العدوى أن تنتقل إلي وإلى غيري من الأولاد، فنظل نعدو أمام البنات وخلفهن حتى نفسد لعبتهن، ونحكم عليها بالانتهاء.

لم أعد أذكر متى رأيتها ترتدي الحذاء للمرة الأولى في حياتها! لم أعد أذكر أمي وهي تحممها ومن ثم تمشط لها شعرها. أمي نفسها لم تعد تذكر سوى القليل من تفاصيل طفولتها. (قالت إنها كانت طفلة جميلة، فيها من ملامح أبيها الشيء الكثير. قالت إنها منذ أن أصبحت بنتاً بالغة، علمتها كل شيء يتعلق بتدبير المنزل: كيف تكنس البلاط وتغسل الملابس، كيف تطبخ طعاماً للأسرة، وكيف تعجن الطحين ومن ثم تخبزه على الصاج. قالت إنها كانت بنتاً معدّلة) تتوقف فجأة عن الاسترسال في الحديث، وتستغرب لأنني أسألها عنها. تتطير لاعتقادها أن السؤال عن فتاة ميتة ينطوي على محاذير وشرور. كانت لها صورة مركونة فوق خزانة الملابس في غرفة أبي التي درجنا على اعتبارها غرفة نومه، وعلى اعتبارها في الوقت نفسه الغرفة التي نستقبل فيها الضيوف. الصورة بقيت زمناً بعد وفاتها، ننظر إليها في شكل عرضي، نقول شيئاً ما عنها، وقد لا نقول شيئاً ونكتفي بالنظر.

لم أعد أتذكرها وهي تضحك، لم أعد أتذكرها وهي تبكي. لا أتذكر يومها الأول في المدرسة، لا أتذكر حقيبتها المدرسية ولا كتبها، لا أتذكر جلوسها على بلاط الغرفة وهي تنسخ درس القراءة في دفترها، لا أتذكر خطها، لا أتذكر واحدة من شهاداتها المدرسية. إنها مكرسة، بقرار غير معلن منا، للنسيان!

أخي الطبيب الذي يصغرها بسبع سنوات، قال إنها أخذته معها إلى القدس، حينما أخذتها مدرستها إلى المدينة مع غيرها من التلميذات لحضور فيلم سينمائي تعرضه سينما الحمراء، عن خالد بن الوليد. قال إنه فرح لهذه الرحلة التي ما كانت لتتم لولا أخته التلميذة، وهو ما زال يتذكرها باستمتاع حتى اليوم. أمي لا تتذكر شيئاً ولا تضيف شيئاً، أو ربما تتطير من إعادة فتح الصفحة من جديد.

لو أنها درست في المدينة. لو أنها تخرجت في المدرسة الثانوية. لو أنها ملكت حرية الذهاب إلى السينما مرة في الشهر. لو أنها اختارت رفيق حياتها من دون ضغوط أو إكراهات. لو أنها الآن معلمة مُجدّة وزوجة وفية. لو أنها الآن أم لثلاثة أولاد وثلاث بنات. لو!

لو أنها قالت لا. لو أنها عرفت كيف تعبر عن مشاعرها بكلام صريح. لو أنها رفضت ما نسجناه حول جسدها من شباك. لو!

محمود شقير

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...