آخرةٌ بلا جنةٍ: عنفُ الخطاب الدينيِّ

19-01-2017

آخرةٌ بلا جنةٍ: عنفُ الخطاب الدينيِّ

رغم تراكُّم العالم الراهن وظواهره (أحداثاً ومعرفةً)تحت أناملنا الالكترونية لكننا ما زلنا داخل كهوف التراث. فالموروث الإسلامي يستبق إلى ماذا نريد. يمنحنا وجوداً مشْحُوناً بصراعاته وأدواره الرمزية. جاء في حديث منسوبٍ إلى نبي الإسلام : “ستفترق أمتي على بضعٍ وسبعين شعبة كلُّهم في النارِ إلاَّ واحدةٌ. قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي”([1]).هل ثمة عبارة كاشفة لذهنية الجماعات المتشدِّدة أكثر من هذه؟! النار تترقب. ونبرة التعميم الكلي تغْرِّقُ الجميعَ. والحسمُ في المعنى كالسكين الباتر. والتأويلات قابلةٌ للانحراف العنيف. والبعد الأخروي يطلُّ برأسه من كافةِ النوافذ.وأخيراً سيتحقق انهيارُ الأمة لا محالة بينما تنجو فرقةٌ واحدةٌ لا غير… كيف ذلك؟!!

القضية ليست قضيةً خاصةً.فحصر العلاقة بين مؤمنٍ وكافر ينفي الدين إجمالاً. ويجعل الحديث فعل إقصاءٍ إزاء الآخرين. فالكلام يطرح تأويل الخطاب لحسم الصراع بين المِلّلِّ والفرّق والنِّحل بأدوات فقهيةٍ.بالمقابل: كيف يُفهم الكلام الديني في إطار انفتاح المعنى؟ أهذا الخطاب مرتبط بالدين كإيمان إنسانيّ أم لا؟ لن تكون الإجابة هنا دينية. ولن تقف لدى محددات لاهوتية خاصة بالآخر أو المغاير، لكنها ستلجأ إلى فهم الخطاب مع أداء المعنى فكرياً بشكلٍّ أوسع.

فالخطابُ أداةُ تأثيرٍ فاعل لممارسة التأويل الديني. حتى ضمن المجالات غير الدينية. وهذه خاصية لسريان التأويل في تضاعيف الثقافة الإسلامية:إذ لا يتحقق خلال أبنية تعْنيه حصراً إلاّ ويطرحها بواسطة أكثر التصورات بُعداً عنه.هو يُفيرِّس أيَّ وسيطٍ يسكنه بحسب طبيعته ويغتذي على أحشائه محولاً مساره ونمط عمله. بحيث يعدُّ إنتاجه متسقاً مع الأهداف غير المعلنة والتي تخدم مصالح مؤيديه.

لن أُناقش مدى صحة حديث الفرقة الناجية،ولن أجادل إزاء ضعفه من قوته إسنادياً. فليكن ما يكون. لكنه أصبح بالتداول الثقافي- شئنا أو لم نشأ- كلاماً ذا بُعْدٍّ مقدس،مهما اعتبرناه ضعيفاً أو حتى غير صحيحٍ!!حينئذ ليس من عقلٍ لمسلمٍ(ولاسيما المؤدلَّج) أنْ يتجاوزه دونما التصديق بمضمونه([2]).ليس هذا فقط، إنما هناك التعلُّق بأطياف المعاني إذ تأتيه مع رواج النصوص الدينية في المجال العام. كلُّ نصٍ دينيٍّ وبخاصة المتون(بما فيها نصوص الفقهاء والأئمة) تأخذ يقيناً متواصلاً كأنَّها خارج اللغة. كذلك يؤكد وضعها الخارق تراكم تاريخها النوعي باعتباره دليلاً على تصور أو ممارسة عامة حينما يُستشهد بها هنا وهناك.

موت الواقع

صحة الأحاديث النبوية من عدمها موضوعٌ زائفٌ داخل الثقافة واللغة الجارية.لأن الحديث إجمالا يتأول في خطاب يمارس سلطةً مَّا. ذلك للأسباب التالية:

  • لأنَّه لا شيء يتلاشى من غربال الثقافة الحارسة لمركزيتها. والثقافة الإسلامية معقودة بأغلظ الأطر على التجربة الدينية وتأويلها. فإنْ لم تكن ثمة أحاديثٌ وقصصٌ ميتافيزيقية لخلقها العقل الإسلامي مع إنتاج حكاياته عن نفسه وعن الله والعالم([3]).
  • حين نعرف أنَّ حديثاً أو غيره ضعيفٌ فلا يعني إهماله. ربما الإهمال على صعيد التحقق لكنه ينضاف ضمناً إلى جسد اللغة. ويغدو خيطاً في خطاب اللاوعي بحكم تشابكه مع محدِّدات الثقافة ونظامها الرمزيّ.
  • تُكرِر طرائق التفكير المضامين التي ضعُفت صياغتُّها. لأنَّ التجارب الدينية لا تزول، فهناك كيانات ثقافية ومؤسسات تستعيد موروثات الخيال الديني يومياً.
  • تحولّت الأحاديث إلى تأويلات ومفاهيم إنْ غابت روايتُّها بقيت أصداؤها في مواقف لا تّمُت لها بصلةٍ لكنها تؤدي نفس الوظيفة دينياً وفكرياً([4]).
  • قبلّما نحدد ماذا نريد تذهب اللغة إلى فعله افتراضياً. ولهذا يظهر حديث الفرقة الناجية داخل الاتجاهات الاقصائية كما هو شائع لدى الجماعات المتطرفة.
  • الصياغة الكلية للحديث تجعل معناه مبرِراً مجانياً وراء أي سلوك انحرافي يبرز دلالته.
  • تشارك هذه الصيغ في بلاغة الصراع السياسي من عصرٍ إلى عصرٍ ضامنةً إبقاء تقاليد الفقه والقوى الغالبة سياسياً وتأويلياً كما هي.

أكثر من هذا ففي تاريخ النص الديني تندرج الأفعال ( وهي الأصل) تحت النص ليأخذ أسبقية متعالية فوقها وكأنَّه بنية معياريةstandardized structureسابقة ولا حقة على الواقع. بالتالي يُختزل الواقع في طيات النص بمعناه المؤول ليس إلاّ. وأي استشهاد به يفترض يقيناً معلَّقاً يستحيل النيل منه برغم كشف الفعل لجوانبه وطرحه لآفاق مختلفة. إنَّ النص- بهذا التوجه- يمثل مصدراً للوقائع الأحوال. فإذا كانت الأديانُ تواترت في نزولها وأفكارها عبر التاريخ، فالأمرُ هنا سيُعطي أولويةً لوجود النص الديني أزلاً وأبداً. والفاعلون ما هم إلاَّ كائنات طارئة دون مسؤوليةٍ ولا اختلاف إلاَّ قياساً عليه. هذا التصور يجعل من النص الديني واقعاً فعلياً وغيره محض أوهامٍ في أوهامٍ!! كل نص ديني يلتهم واقعة في شكل أمر وسلطة نافذة الدلالة.

فإذا كان الحديثُ ضعيفاً اليوم سيصيرُ صحيحاً غداً، وإنْ نُسي لفترة ٍسيتحول إلى ذاكرة عابرة للزمن في القريب العاجل. هذه خصائص المجال العام العربي والإسلامي بحسب الوضع والمآل. لا شيء محسوم لمجرد التنقيب عن أصوله ومناقشة طرحه. المسألةُ هي تقلُّب الأحوال كما يتقلَّب سائل داخل قّدْرٍ حيث الحرارة والظروف المحيطة. وذلك يوازي المزاج الثقافي المسيطر لا التفكير المتأمل. إذ تُطْرَح العواطف كأنَّها وجود بديل له صلاحية منطقية للتعامل مع الخطابات والآراء([5]).

وتلك الفكرة تؤسس لافتراق الأمة لا النظر إلى حالِّها فحسب. إنَّ النص يعطي أشياء وممارسات قداسةً داخل الجماعات حتى ولو كانت خاطئة. ونظراً لاعتباره مؤسساً للواقع فإنه يُشرِّع عكس ما يدعُو إليه. فالمواقف المتطرفة إذ تأخذها التنظيمات الدينية إنما تمتد بجذورها إلى هذا التصور الأسطوري لعمل اللغة والنصوص. فالإله فقط في جميع الديانات هو من يحدث فعلاً أصيلاً داخل الكلمات؛ أي ارتباط الدال بالمدلول مباشرة(كُّن فيكون). أمَّا أنْ يزعم عقلٌ بشري -تنظيمياً أو أيديولوجياً- خلق النص للفعل فهذا تمرير للمآرب بادعاء امتلاك الاثنين معاً(النص والفعل). وتلك فاجعة الجماعات الإسلامية لأنَّهم يعيشون وسط جسدٍ مغلق اسمه التنظيم الذي يجعل نصوص منظريهم واقعاً بديلاً.

بدليل أنَّ الحديث موضوع النقاش ليست به كلمةٌ واحدةٌ عن “النجاة”. لكن تداولته التعبيرات اليومية بوصفه حديثاً للفرقة الناجية. تلك التي طُرحت بتأويل الكلام سلفاً على قاعدة امتلاك الحقيقة بالنجاة لا البحث عنها كما يقول الحديث فعلاً؛ أي كأنَّه إجابة عن سؤال من نجا وانتهى أمره؟ وليس من سينجو وسيظل الأمر مفتوحاً تبعاً لمنطق الإسلام؟  كأنَّ الناجي  الذي هو فرقة قد نجا بإنجاز ماضٍ ولا مناص منه.وكأنَّ كل شيءٍ تمَّ وعُرف بشكل حاسمٍ قاطع ولا رادّ له.

على هذا الأساس تمَّ تأويلُّه من قِبل كل جماعةٍ دينية معتبرةً نفسها صاحبة النجاة الوحيدة بينما كل الفرق الأخرى على ضلالٍ مبين. وبذلك بدلاً من كونه حديثاً للأمل والعمل وانفتاح المستقبل أصبح كلاماً في إقصاء كلِّ فرقة لغيرها.لأنَّ منطقه يؤكد أنَّ القائل له؛ أي الذي يحمل الكلام يمكنه إخراج الآخر من الملّة بمجرد ترديد عباراته. فمعنى الحديث أن الآخرلا يُقْبّل للتجاور العملي ولا الاعتقادي، لأنَّه لو صدُق المعنى على فرقةٍ لن يصْدُق  بالضرورة على باقي الفرق([6]).

أمَّا النجاة حقيقةً( أي بالكلام والتصور والعمل)فشيء يقع في منطقة الغيب. هكذا يضمر الإيمان بُعداً غامضاً ومجهولاً غير مقرر. حيث لا أحد من البشر أيا كان سيعلم، وليس بإمكانه العلم ولا الحسم في هكذا قضيةٍ. وتداول الحديث بتلك الصيغة جاء من نقطة النهاية التي قُطِع بها. إذن لقطة النهاية تأتي ومعها اليقين والاستعمال أيضاً في الوعي المباشر بطرح المعنى.”هات من الأخر” على طريقة التعبير المصري الشائع لحسم القضايا، فبدلاً من تعليق الأمور لن ينتظر المسلم فوق ما انتظر. المهم ما سيقوله الغسق الأخير، لقطة الختام!!

انزلاق التأويل

لقد أثبت الخطاب الديني قدرتّه على تكرار المعنى مع طروحات لا تتوقف. وأُلقِيَّ كشبكة صيادٍ في غير موقف من الآخر اختلافاً وتماثلاً. واُتخِذ كموضوعٍ للتأويل الحدي، بحيث يكون قابلاً للاشتغال العنيف في حياة المسلمين ومع صور العيش المتباينة. لهذا يعتبر بلغة أوستين – ضمن أفعال الكلامspeech acts-انجازاً وظلالاً في الواقع. لا لشيءٍّ سوى هذا البعد التقديسي المُشار إليه كخاصيةٍ زلقةٍ للوعي الديني.ينزلق عليها حامل الوعي قبل غيره في أمور ليست من الدين أحياناً.وفوق هذا يُستعمل كمادة(كموضوع) للإيمان لا حافز عليه.فما أسهل ادعاء النجاة ورمي الآخرين بنقيضها!!

إذن لم يعد الكلامُ ما إذا كان كلاماً نبوياً أم لا. لقد أُضيف إليه طابع الوعي بالمواقف والافتراق بين الناس وتأويلاته الاجتماعية والثقافية. كل ذلك أضيف وسيضاف مع تداول الكلام. لقد عُجن وطُهي بماء الثقافة وحطب التاريخ السياسي وأشكال الخلاف بين أنماط الاعتقاد داخل التاريخ الإسلامي.وفي هذا السياق ليس ناجعاً التركيز فقط على  روايات الحديث وأسانيده كما يفعل الفقهاء.فمن تلك الجهة تشكك فيه ابن حزم واعتبره من الأحاديث الضعيفة إنْ لم تكن الموضوعة كما انتقده الشاطبي وقدم تأويلاً لمفرداته…وهذا مجال مهم. لكن إذا اكتفينا بذلك لننفهم ماذا يتخفى في حركة الكلام وكيف يخرج كطائر الفينق من الرماد مع الصراع الإيديولوجي والسياسي حول الإسلام.

فصيغ الأحاديث لديها قدرة إخراج المضمون المقدس من اللا معنى. ألم تكن الأحاديث الموضوعة موضوعاً لإيمان في يوم ما؟ ما الذي تغير…أهو المضمون أم الإسناد أم شيء آخر؟ ما الذي يقلب المقدس إلى مدنس متروكٍ؟إنَّ قلة بذل اليقين في بعض الأحاديث أهمل تداولها، مع هذا تبدو الصيغ صامدة إلى حين. وما زالت تتواتر في بعض الكتب ولا ترد في غيرها.

تبدو المشكلةُ إذن في استعمال الأحاديث بطريقة الخطابة الجامعة. فجوامع الكلم التي أقرتها البلاغة العربية السلفية تجاه النصوص والأحاديث لا تعني بالضرورة جوامع الفكر. بل قد تتعارض جوامع الكلم مع الفكر في إطار الدين من منظور كلي. فدقة الخبر يمكنها الاستناد إلى كذب الفكرة من جوانب أخرى.وحيث تسود ثقافة الشفاهية لا غير يسقط الكلام من دقة الصياغة. فالثقافة الدينية الشفاهية أكبر أثراً في الخيال، ولا سيما أنَّ الذاكرة العربية ذاكرةٌ ماضويةٌ قائمةٌ على الرواية لا المشاهدة([7]). وهي تستبقي أي معنى خارج باب الفهم، تبقيه مطروداً. حتى تأذن له إمَّا بالانصراف أو الدخول بحسب تكوينها وأساليب الإقناع التي توفرها.

هل الافتراق بين عناصر الأمة تاريخي نبوئي؟ وإنْ كان هكذا، كيف سيكون الافتراق ضلالاً؟ بأية معايير نميز بين الضال والناجي؟ ومن بإمكانه وضع المعايير طالما جاء سؤال للنبي عن ماهية الفرقة الناحية؟ كيف فهمها المسلمون؟!([8])

حديث الفرقة الناجية يتوقع إذا وجد هناك المختلف في الرأي سيكون موضُوعاً لإيمان أخروي بكونه ضالاً. إذن مادة الحديث بمثابة المعنى كوجود نظراً لقدرة اللغة- أيديولوجياً- على التعبيرالماهوي. وتلك لو طُرحت أثناء المواقف ستغدو كائنات لا معاني. ليس أدنى إلى ذلك بفضل الجماعات المتشددة من تكفير الآخر وتصفيته جسدياً والتمثيل الفعلي بصورته(بجثته)على ذات المستوى. ويومياً نري هذه الأشياء في أدبيات العالم الإسلامي وممارساته لا العالم العربي فحسب.

من سينجُو؟!

نحتاج إلى التأمل في صيغة الكلام حتى ندرك كيف لا يقول ما فهمناه تحديداً من هذا الحديث. ليس أمامنا إلاَّ نسخ الفهم بالفهم لكي نخلخل الاعتقاد الراسخ. فلئن كان الحديث يقنن النجاة والخلاص في دفع المغاير فإنَّه – للمفارقة – لا يُعنى إطلاقاً بهذا الشأن. إذ قال “ستفترق أمتي” وهذا مرهون بالسياق الآتي لزمن النبي. وباعتبار الافتراق قدراً محتوماً كأنَّ الحديث يجيز اختلافاً بدرجة الخلاف على الدين الإسلامي نفسه، لأنّ الكلام يجيء بصيغة أمتي.

والتأكيد على أنَّهم في النار، بالتحديد “كلهم في النار”، نفيٌّ للتدرج، نفيٌّ للنسبية، وترجيح التنوع بمغزى التناقض والتضاد المطلق. وحيث هم إلى النار ذاهبون يسقط أيُّ إطار إنساني لهم تحت حكم الإعدام الدنيوي والأخروي. هذا بينما الدين ليس سوى صيغة ذاتية المبررات والوجود. كيف سنعرف هؤلاء الذاهبون إلى جهنم؟ وبأي منطق ديني يذهبون دون مراجعة ودون غفران إلى الجحيم؟ ومن أين المنطق الحاسم في كل مرةٍ باستثناء فرقة واحدة ستلقى الخلاص؟ ناهينا عما ينتهي المعنى إلى دمج المختلفين في جسد جحيمي واحد.

أما عندما يأتي التساؤل بترجيح الناجي كمقابل لمن يناقضه فليست النجاةُ كخلاصٍ هي المقصودة في الحديث. ولن يُحسم الموضوع عملياً ولا دنيوياً. أهمية الإجابة الواردة به أنَّها أرجعت الموقف إلى نقطة الصفر. وهي نقطة الدين من حيث كونه قراراً وجودياً لأداء الإيمان على المستوى الشخصي. ولذلك رأى ريتشارد رورتي فيلسوف البرجماتية الجديدة في التدين انعدام المسؤولية الفكرية. بفضل أنَّه خارج الوجود المشترك co-existenceفي لحظة إقرار صحته من عدمها. لأنه لم يفتأ داخل من يؤمن بالدين لا لمن يُحاسّب عليه ولا لمن يتفاعل معه في الفضاء الاجتماعي العام.

وبحكم وجود ثنائية الكفر والإيمان فليس الافتراق عملاً ولا تنشيطاً للثنائية لكنه يفصمها لصالح أحد أطرافها(الإيمان). ومن واقع تعطيل المسؤولية ما كان للغة تعطيل عملها بتحديد الدلالة سلفاً.الأخطر أنَّ إهدار سياق الثنائيةdualism والاشتغال لحساب أحد الأطراف يهدر تأسيس الدين، فحالما يصل أيُّ دينٍ إلى مبتغاه لابد له من إيمان؛ أي يجب أن يسبقه ” من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. والأسبقية أسبقية ماهية لا شكل ولا عرض.

والإجابة باعتبار أساس النجاة هو قول النبي”ما أنا عليه وأصحابي” لا تؤكد سؤال الخلاص بقدر ما تحدد شيئاً غير قابل للتحديد. فاليقين وراء الفرقة الناجية مثال لم يثبت لدى أية فرقة. بسبب أنه لا يستطيع أحد امتلاك ذلك ولا إمكانية التحقق منه بدقة. فليس ما عليه الرسول ولا الصحابة قابلاً للوصف سوى في صورة تعاليم وسلوكيات. ومن توها تحتاج هذه الأشياء إلى إنزال تأويلي حيث السياق الجديد([9]). إذن هناك تأسيس للدين خارج أي وصف ولا يعنيه ثنائية الهلاك والنجاة. كان السؤال ترجيحاً بين المختلفين فجاءت الإجابة بتأرْجُح دونما إقرار بخلاف الشائع.إذن ريثما نسلم بما يقوله الحديث ينبغي خلع الدين عن طابعه الإنساني، إنه يحتاج إلى دين بلا إنسانٍ([10]) طالما أنَّ كل من يفترق يخضع إلى الفرز القيامي(نسبة إلى القيامة).

والإجابة هنا تسلب تعيين الفرقة الناجية أو حتى الزعم بوجودها. فما معنى” ما عليه النبي وأصحاب”؟ لئن كانوا أنفسهم- أي الصحابة- لا يعرفون مكانتهم من النجاة، فإنَّ ادعاءها لغيرهم يحتاج إلى مراجعةٍ. لن يكون ثمة حدس ميتافيزيقي يعطي عمل الله إلى إنسانٍ ليقرر من سيدخل النار ومن سيدخل الجنة([11]). إنَّ عطالة الوجود الإلهي لا تساوي إلاَّ انشغال الاعتقاد بنقيضه. ولهذا لم يمنح الله شيئاً من هذا الوجود لفرد ولا لجماعة ولا لأي كائن. لأن التفكير في الشأن الأخروي مسألة تتجاوز حدود المعقول على طريقة كانط وابن خلدون.

من زاوية أخرى تعد الفرقة الناجية معادلاً موضوعياً لشعب الله المختار، معادلاً مقلوباً بقلب الزمان رأساً على عقب. الفارق واضح فالأولى في نهاية الزمان بينما الأخير في بدايته. لكن الأثنان يعملان بنفس أسلوب الأداء. فالتصور المبذول تجاه الله والآخرين والعالم تصور اصطفاء يرتد إلى حالة نرجسية بواقع متعال فوق جميع البشر. وتبدو الصهيونية جهازاً بيولوجياً سياسياً لعنصرية مقيتة، بينما انغلاق الجماعات الإرهابية تقنية عنف تجاه الفرق المغايرة. ونسي الإرهابيون أنهم يتقمصون دور الصهيونية في سياق مختلف  لكن بذات الممارسات والأساليب. لأن البنية المكونة للوجهين بنية قائمة عضوياً وفكرياً على نفس الأسس والحركة. ويلتقي الاثنان في وسط غير ذهبي بالمرة، وسط نفي التنوع و حذف المغايرة بإطباق بداية الزمان على نهايته، فيغدو الله مملوكاً لدى شعبه المختار(قبائل بني اسرائيل) وبذات القدر يتم التحدث باسمه في وصايا لاهوتية لأمراء الجماعات الدينية. وفي الحالتين يتم تحجيم الوجود الإلهي جراء خلع الصفات البشرية عليه.

و كلمة “أمتي” لا تبتعد عن الإيقاع ذاته، فالحديث تبعاً للعنف والإقصاء يتخلص من دلالات الأمة كمصطلح حديث. بل يجعله مصطلحاً على حافة الهاوية. والمشكلة وراء هذا العنف الديني الرائج هو اعتناق أصحابه أن الأمة تضمر بذرة الافتراق بغذاء رمزي كافر مصيره إلى جهنم. ليشكل الحديث برنامجاً تنظيمياً يأخذ المسلم على عاتقه تنفيذه. هذا برغم أن تاريخ العرب لم يعرف دلالة الأمة كتكوين جيو سياسي حديث ذات سمات موحدة، إنما التهمتها القوميات والطوائف والنِّحل. إذن على غرار افتراق الأمة سلفاً لأجل الفرقة الناجية كان الحال ناضحاً باعتقاد تفتيتها تباعاً.

وليس صعباً معرفة أن كل فكرة تنظيمية تحمل هذا الفيروس الخطابي. حاول الإخوان كما رأينا في التجربة المصرية إقصاء سواهم حتى بمنطق الدولة. فهم يساعدون على افتراق الأمة بمصير الجماعة؛ أي أنَّ الجماعة بمثابة حفار خشبي في بنية المجتمع لتمييز المؤيدين من المعارضين. أخونة الدولة كانت تحقيقاً لنجاة الفرقة التي جاءت بالحديث. وقبل وصول الإخوان للسلطة طفا على السطح تنظيم إرهابي مصري بهذا الاسم” الناجون من النار”. ليعلن بصريح العبارة الفرقة الناجية مباشرة.

هذا المعنى يثير سؤالاً أخيراً: من سينجو؟ العبارة تحصيل حاصل: فالفرقة الناجية هي الفرقة الناجية طالما كانت معروفةً ويمكن لأيةِ فرقةٍ أنْ تزعم ذلك بكلِّ ثقةٍ. هي ستعرف نفسها متى ظل الصراع السياسي والأيديولوجي قائماً. إذن الخطاب المعبر عن هكذا نجاة خطاب صراعي، مؤوّل بعبارات الفتن والقلاقل.فالفرقة التي ستنجو تتخذ من صولجان السلطة بساطاً طائراً لبلوغ الجنة. وضمان بقاء السلطة يتوقف على دعم الناجين لمآربها.

********

[1]– برغم الخلاف حول صيغ الحديث(الصحيح كما قيل) لكن  ثبت  فيه أن النبي قال: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة” قيل: من هي يا رسول الله؟قال: “من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي” وفي بعض الروايات: “هي الجماعة” رواه أبو داود، الترمذي، وابن ماجه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.وقال عنه ابن تيمية: (هو حديث صحيح مشهور) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.وفي رواية معاوية بن أبي سفيان (هي الجماعة).

وتحديد الفرقة الناجية في هذا الحديث اختلفت فيه أقوال العلماء، فقد ذكر فيها الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام خمسة أقوال، عزاها إلى قائليها، إلاَّ قولاً واحداً لم يعزُه، وهي:

1- السواد الأعظم: قال: فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة، وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم.

2- أئمة العلماء المجتهدين: والمقصود بهم العلماء الأعلام من أئمة الهدى المتبعين للكتاب والسنة، قال الشاطبي: (فمن خرج على علماء الأمة مات ميتة جاهلية).

3- الصحابة على الخصوص: قال الشاطبي: (فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى، في قوله عليه الصلاة والسلام: “ما أنا عليه وأصحابي” فكأنَّه راجع إلى ما قالوه، وما سنوه، واجتهدوا فيه حجة على الإطلاق.
4- جماعة أهل الإسلام: إذا أجمعوا على أمر وجب على بقية أهل الملل اتباعهم، قال الشاطبي: (وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضاً ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر).

وهذا القول مشكل جداً لأنَّ أهل الإسلام أنفسهم ينقسمون إلى فرق، والمقصود تحديد الفرقة الناجية.
ولذلك لم يذكره ابن حجر عن الطبري، وذكر الأقوال الأربعة الأخرى، فإسقاط هذا القول أولى، لاسيما وأن الشاطبي لم يذكر قائله.

5- أنَّها جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير وجب على بقية الأمة لزومه.

قال الشاطبي في بيانه: (وحاصله أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة، كالخوارج ومن جرى مجراهم.) هذا، ولما كان القول الرابع منتقداً لأنه ينافي المقصود من الحديث لم ينقله ابن حجر في فتح الباري عن ابن جرير الطبري، واكتفى بنقل الأقوال الأربعة الباقية.

راجع موقع إسلام ويب( باب مركز الفتوى) على هذا الرابط: ((http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.

 

[2]– الثقافة  الإسلامية عبارة عن ألة  موروثات ضخمة بحجم انتاج اليقين والتقديس استناداً إلى الأقوال والقصص الدينية.وذلك لكون أيَّ نشاط اجتماعي أو حتى رمزي لا يقف أمام ماكينتها على انتاج الحقائق التي تخدم نصوصها. حتى  نتاجات الحداثة الغربية (الذات- الحرية – العقلانية- الديمقراطية- العدالة- الإرادة العامة)لم تفلح في تغير طبيعة عملها إلاَّ بالقوانين الخاصة بها، تلك القوانين المؤسسة على النص الأصلي (القرآن والسنة وكتابات الفقهاء). وحين ينظر إلى وجود تلك الثقافة(سريانها) الخفي يظن المفكرين أنها في حالة ضمور بينما هي تستعد للإطلالة بصورة أكثر قوة. وجميع المراحل والتراكمات التي احرزتها لم تفتأ تظهر في غير مكان. فليس الصراع المذهبي والأيديولوجي بين جماعات إسلامية داخل هيكل الدول الوطنية سوى حالة إثبات لهذا المعنى. لم يكن أحد ليعرف أن ظاهرة الثورات العربية الأخيرة بإمكانها إرجاع أشباح قديمة متعلقة بتفسيرات جهادية للنصوص والرموز والمجتمع نفسه. حتى بلغ الأمرُ ذروته في تحريك الخيال والجموع لتحقيق حلم الخلافة وإنْ كان فوق الجثث!!

[3]– ما أكثر الحكايات التي يتسلى بها العقل الإسلامي. وهو مازال متأرجحاً في حالة أو هام المسرح بلغة فرنسيس بيكون. حين يطمئن إلى ما ستقوله حكاياته عن العالم الذي يعيش فيه . بحيث تكون الأحداث بقدر ما يتمناها لا كما هي حقيقةً. وهذا نوع من الخلاص بالتمني ويسهم في تغييب الواقع ويتيح الهروب الآمن من مشكلاته.

[4]– ذلك أنَّ كلية الدينtotality of religion ونظامه الشامل في المجال الإسلامي يبعدان بنفسيهما  في مواضع جزئية بينما يلتقيان مع النظام الرمزي في ممارسة تقنين الأفكار والأعمال طبقاً لمركزيتهما. وهذا ما يجعل هناك تخليط في نمط التفكير ولا سيما أن الآفاق الفكرية ليست معبرة إلاَّ من خلال وسيط فقهي أو تأويلي. وهذا الوسيط يحمل كل فيروسات وعوامل القصور الثقافي الموروث. كما أنه يرث جينات البيئة التي نشأ فيها. و قد حقق على ذات المستوى تاريخاً من الهيمنة داخل جميع الخطابات بلا استثناء.

[5]– كل المتناولين لمضمون هذا الحديث يذكرون الجو النفسي والأيكولوجيواللاهوتي  لتبرير الحديث وتواتره. وهذا التناول يسهم بدرجةٍ كبيرة في تحويله إلى خطاب ديني. يدخل ذلك في باب مسرحة اللغة وخلق الجو الغسقي الذي يدفع المتلقي للتشبث بالفرقة الناجية. يقول ابن بطة واصفاً لحظة ميلاد متجددة للحديث وأهميته”…. كان أمر الأمة مجتمعاً، والقلوب متآلفة والأئمة عادلة، والسلطان قاهراً والحق ظاهراً، فانقلبت الأعيان وانعكس الزمان وانفرد كل قوم ببدعتهم وحزُب الأحزاب، وخُولف الكتاب، واتخذ أهل الإلحاد رؤوساً أربابا وتحولت البدعة إلى أهل الاتفاقً وتهول(تحير) في العسرة العامة وأهل الأسواق ونعق إبليس بأوليائه نعقة فاستجابوا له من كل ناحية، وأقبلوا نحوه مسرعين منكل قاصية، فألبسوا شيعاً وميزوا قطعاً وشمتت بهم أهل الأديان السالفة والمذاهب المخالفة، فإن لله وإن إليه راجعون….”

ابوعبد الله بن بطة العكبري الحنبلي، الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة(الجزء الأول)، تحقيق ودراسة رضا بن نعسان معطي، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض السعودية، الطبعة الأولى 1988. ص165.

إذا اتخذنا هذه المسرحة الخطابية مقدمة منطقية فالنتيجة اقصاء الآخر والهروب منه إلى الفرقة الناجية. وهذا الوصف يحسم أي تردد إزاء ضرورة اعتبار تلك الفرقة  لها الغلبة في الدنيا والآخرة وأن تكون لها كل القوة على أعدائها. لينهي كلامه بوعيد الرجوع إلى الله وإليه المنتهى. وتلك العبارة  تأتي كختم رسمي لتوثيق المعنى في السماء حصولاً على اليقين.

 

[6]– فعلا زعمت كلُّ فرقة أنها الجماعة الناجية فأهل السنة جعلوا الفرقة الناجية من أهل السنة والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة بينما نظر أهل الشيعة بوصفهم أهل النجاة الوحيدين.

عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين(الجزء الأول)، دار العلم للملايين، بيروت لبنان 1997. ص ص33- 34.

وهناك من ربطها بالتجاه السلفي السياسي نسبة إلى الوهابية  وراح يوصف هذه الفرقة الناجية لتدعيم الحكم العائلي في الدولة السعودية. وهذا دليل على تسيس قضايا الفرقة الناجية واستعمالها في إثارة النزعات الإقصائية. فالقرقة الناجية هم السلف السائر على هدي رسول الله  واستمروا على ذلك الآن”  بتأثير من دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب الذي حمل السيف إلى جانب المصحف وأقام للإسلام دولة تحكم بشريعة الله، وتنصر الحق، وتؤسس له الجامعات والمدارس والمراكز، وتبذل الملايين للدعوة إلى الله وفي نصرة هذه الدعوة السلفية الصادقة التي نفع الله بها في مشارق الأرض ومغاربها”.

ربيع بن هادي عمير المدخلي، الفرقة الناجية، أصولها وعقائدها، الميراث النبوي للنشر والتوزيع، الجزائر، الطبعة الأولى 2009. ص12.

أوردنا هذه الفقرة لتوضح أن هذه المدارس التي ذكرها صاحب الرأي أخرجت أغلب قادة داعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة وبوكو حرام وأهل الفتاوى الدموية المتطرفة. فكيف كانت حصيلة أصحاب الفرقة الناجية؟

[7]– هذا البعد مهم في تشكيل كل مفردات الخطاب الديني. إن مفهوم الإله على سبيل المثال يخضع لأساليب الخيال. والإنسان العربي يغذي خياله بالروايات الشفاهية، وتلك لا تنقل الحقائق كما هي بل تسير بوقود التخيل دون شروط. مما يدعونا في فهم هذا الخطاب للتساؤل ماذا تفعل اللغة في المرويات؟ كيف تُقبل بتلك الذائقة جمالياً ودينياً؟ وحين أشير إلى فكرة سريان الدين في ممارسات أخرى يعني ارتباطاً عضوياً بين بلاغة الفكر وبلاغة اللغة في صورة مفاهيم ومعتقدات. إنهما يوحدان وجهة النظر في شكل إيمان. ولذلك تخضع فكرة الإقناع في جميع التنظيمات الدينية إلى بلاغة الخطابة. إنها أفرزت كما من الخطباء أكثر مما وجدت في الواقع. فالخطب الدينية لها تراثها الشعري وعلاماتها الجسدية واللحنية المميزة. ولهذه الفكرة تأثير في الاستجابة إلى كل دعوة دينية ولو كانت مضادة للدين نفسه، بل قد ينجرف أصحابها إلى العنف والمنافحة الخشنة عنها تحت تأثير الخطب. المشافهة الدينية لون من مسرحة الخطاب ومناشدة العاطفة والغرائز في اتجاه لانهائي لا يملأه إلا الدين(كحديث الفرقة الناجية).

[8]– هناك سمة للفكر التنظيمي داخل الجماعات الدينية مثل الإخوان و الاتجاهات السلفية مؤداها التعامل مع النصوص كأنَّها نبوءات مقدسة. وهذا في الواقع جزء من الإيمان لكن المقصود: أن النبوءة تجعل الفعل غليظا حتى وإن كان صحيحاً مع الدين. فالأفراد التنظيميينيلتزمون بالتشدُّد في الفكر والسلوك لا لشيء إلا باعتقاد أن الحياة ستدور دورتها لصالحهم آجلاً أو عاجلاً. ثم يكون قياس مستوى نجاح الفكرة مع دورة الحياة لينحل كل سلوك تجاه هذا الأمل. من هنا كان التوتر الدائم لإحراز المستقبل في إطار جغرافيا ومخطط النبوءة. معنى هذا أن التشدد يأتي من صدق النبوءات لأن اليقين يتحول إلى اصطفاء ويقين متحققين بمجرد الاعتقاد.  وتدريجياً يفقد المسلم حس النسبية تجاه الأشياء والمخالفين في الرأي. فالنسبية relativismتؤكد على التعبيرات المتباينة كما أنها توفر طرقاً لا حصر لها للمناقشة نظراً لأنه لا يوجد إقصاء ولا نجاة مطلقة بل هناك الصواب والخطأ وقبول الآخر ولا يوجد معيار عام.

Hugo stand berg, The Possibility of Discussion, Relativism, Truth and Criticism of Religious Beliefs, ASHGATE books, London, 2006. P 121.

[9]– هناك فكرة مهمة أن الدين يستحيل التعامل معه على المستوى الميتافيزيقي فقط. لعله يتشكل إنسانياً بتفاعله (معتقدات وطقوساً وأنظمة معرفية) مع أطر الحياة بأصنافها. ولا يستطيع التأثير في حياة الناس دونما هذا التشكيل الحي، ودونما اختلاطه بتربة الثقافة على الرغم من كونه مفارقاً في صورة المقدس. ولهذا لابد من فهمه في سياق تاريخي، بل يعاد انتاجه على ذات المستوى. لأنه يستعمل موارد وقوى البيئة في التعبير عن نفسه وطقوسه. فإذا كان ثمة نصوص فإن ايكولوجيا اللغة شرط لفهمها والتواصل معها. ما لم يكن هناك تراث لغوي ما كان ليمكن  معرفة النص الديني. وفي هذا الجانب يعتبر النص نصاً تاريخياً ويقف في وضعية المفارقة. فعلى الرغم من كونه متعالياً إلا أنه وثيقة ثقافية متنامياً مع تطور الإنسان. وبالتالي يعد النص الديني مؤسسة اجتماعية تاريخية  historical social institution لها تأويلاتها الجارية لصالح التحولات والوقائع. فالدين ممارسة وفهماً لا يخلو من أصداء اجتماعية  من واقع الوظائف التي يقوم بها سلباً أو إيجاباً. ويفيد السياق في كيفية تلقي التصورات الدينية ومعرفة أهم التغيرات التي تطرأ عليها.

Bryan S. Turner,  Religion and Social Theory, SAGE Publications, London, 1999. P38.

[10]–  خطورة الدين بلا إنسان يرتد إلى مفهوم مغلق. والمضمون هنا مزدوج: استبعاد الدين لذاته  إذ يمارس قمعاً وكبحاً على ما يطرحه من أفكار من جهة. ومن جهة أخرى استئصال البعد الإنساني. وبالتالي سيسعى الناس إلى ايجاد دينهم الخاص كتجربة بلا مقدس وبلا قيامة وبلا جنة وبلا نار. وذلك ما يسميه جونكابيتو ديناً بلا دين  religion without religion تنمية لجوانب الإيمان الإنساني بالآخر والتنوع والاختلاف والحب. صحيح الفكرة مأخوذة عن التجربة الدينية إلا أنها تجربة دون مركزية ولا نواة ثابتة كما أنها تفترض تبايناً لا نهائياً في التفكير والأديان والمعتقدات. أي تصفية الموضوع الثابت للرغبة لتصبح تطلعاً وشغفاً بلا امتلاء ولا إشباع، أي بلا امتلاك الحقيقة المطلقة.

John D. Caputo, On Religion, Routledge, London, New York, 2001. P110.

[11]– الغريب من الجماعات الإسلامية انشغالها بتوزيع الناس بين الجنة والنار متناسين جحيم الواقع والمجتمع اللذين يساهمون في تكريسه.يفترض أنَّ ذلك جزء من كل إيمان، لأن الثقة في عمل الإنسان هي ما سيحدد النهاية إن كانت. وإلاَّ لوقع هذا الايمان في فخ المصير قبل وجوده. والإيمان الديني يزيد وينقص كما تؤكد الموروثات الدينية. وبالمنسبة ليس هذا أسلوباً مقتصراً على التجربة الدينية، بل في جميع تجارب الحب والتفاعل والثقة الإنسانية. إن الاداء فيها لا يحتمل مصيراً وإن كان في صالح أصحابها. لأنَّ الرغبة وقود يؤجج ذاتها، وهي الإيقاع الزمني الذي يستغرق الإنسان. فالرغبة ليست بديلاً بقدر ما هي  نسيان ذاتها مقابل ذاتها: أي تتمتع بالاشتعال الذاتي. ولذلك لا تتوقف عن الاشباع ويضيق إزاءها العالم حتى تشكله كما تريد وإنْ اخفقت.

سامي عبد العال 

المصدر: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...