الغزو العثماني للمشرق في مئويته الخامسة (5 من 5)

01-12-2016

الغزو العثماني للمشرق في مئويته الخامسة (5 من 5)

آخر الامبراطوريات المشرقية

الجمل * علي شكري :

شرق المتوسط مطلع القرن السادس عشر

كان النظام الإقليمي لشرق المتوسط، مطلع القرن السادس عشر، قائماً على أربعة لاعبين كبار:

- الدولة العثمانية في شمال وغرب الأناضول والبلقان، وهي تستقبل القرن الثالث من عمرها باضطرابات داخلية اجتماعية ودينية، وصراع مرير على السلطة بين أبناء بيازيد الثاني؛

- دولة المماليك في مصر والشام، وقد أنهت قرنين ونصف من حياتها ودخلت طور الشيخوخة والترهل والفساد وشُح الموارد؛

- الدولة الصفوية الناشئة لتوها في أذربيجان وإيران وشرق الأناضول، والتي قامت أساساً على أكتاف التركمان القزلباش المناهضين للدولة العثمانية؛

- وجمهورية البندقية (البحرية)، التي كانت مستعمراتها تنتشر من أقصى شمال البحر الأدرياتي وحتى قبرص مروراً بجزر بحر إيجة، وكانت يومئذٍ في أوج ازدهارها وثرائها وقوتها البحرية وحنكتها الدبلوماسية والتجارية، وهي تدشن القرن التاسع من عمرها.

وقد رأينا في الجزء الثاني كيف تفاعلت الاضطرابات الاجتماعية والمذهبية الداخلية، والصراع على السلطة في الدولة العثمانية، مع صعود الدولة الصفوية بدعوتها الشيعية المهدوية، ونفوذها الكبير بين تركمان وعلويي أرياف الأناضول، وكيف أفضى كل ذلك إلى صدام دامٍ بين الدولتين في معركة چالديران 1514. كما شهدنا في الجزء الثالث وقائع أول حرب بين العثمانيين والمماليك (1485-91) والتي نشبت، في الظاهر، على خلفية الصراع على النفوذ في الإمارات التركمانية التي كانت تعزل بينهما، ولكنها، في الجوهر، كانت فاتحة تحول في استراتيجية التوسع العثماني من البلقان إلى المشرق، سعياً للحصول على موارد جديدة، وتبؤ الزعامة الدينية للعالم الإسلامي (السنّي) وسدانة الأماكن المقدسة في الحجاز وفلسطين.

أما جمهورية البندقية فكانت ترتبط مع تلك الدول الثلاث بشبكة من المصالح التجارية الاستراتيجية الحيوية  لاقتصادها المركنتلي. بيد أن ذلك لم يمنعها من خوض أكثر من حربين مع الدولة العثمانية خلال القرن الخامس عشر في مواجهة توسع الأخيرة في اليونان وبحر إيجة. وقد امتدت آخر تلك الحروب لنحو ثلاث سنين، وانتهت بتوقيع معاهدة سلام كانت تميل بوضوح لمصلحة العثمانيين في العام 1503. وعندما تولى سليم مقاليد السلطة في العام 1512، وجاء السفير البندقي لتهنئته والتباحث بشأن تجديد تلك المعاهدة، أصرَّ الوزير العثماني على إضافة بند يتيح للأسطول العثماني الحصول على تسهيلات في الموانئ التابعة للبندقية، مثل قبرص، وهو ما كانت البندقية قد رفضته خلال الحرب العثمانية-المملوكية الأولى. وقد تمت إضافة ذلك البند بالفعل—الأمر الذي كان يشي بنوايا سليم لغزو بلاد المماليك منذ ذلك الوقت، وبغض النظر عن الذرائع التي اختلقها فيما بعد.

ولموازنة علاقاتها بالعثمانيين، وضمان الخطوط البرية لوارداتها التجارية من الصين، حرصت البندقية على إقامة علاقات وثيقة مع الشاه إسماعيل الصفوي (ومن قبله مع جده لأمه، أوزون حسن، شاه مملكة أق قوينلو)، بل وكادت أن تستجيب لطلبه تزويده بالمدافع والأسلحة النارية قبل معركة چالديران بسنين (وتحديداً في العام 1509)، لولا أنها خشيت من احتمال تحالفه مع عدوتها البرتغال، واستخدامها، بالتالي، ضد حلفائها المماليك، وهو ما كان سيتعارض جذرياً مع مصالحها التجارية، فضلاً عن إثارته حفيظة العثمانيين. وقد رأينا في الجزء الرابع كيف أن البندقية زودت المماليك بالخبرات الملاحية، وربما ببعض الأسلحة النارية، في حربها مع البرتغال في المحيط الهندي، وكيف توسطت لدى العثمانيين لتأمين دعمهم للمماليك في تلك الحرب.

والحال أن البرتغال، وعلى الرغم من بعدها الجغرافي عن المنطقة، نجحت في اقتحام في المشهد الإقليمي لشرق المتوسط بقوة في تلك الفترة، وذلك من بوابة الأزمة التي تسبب بها قطعها للطرق التجارية القادمة من الهند عبر البحر الأحمر والخليج الفارسي، وما مثله ذلك من تهديد لمصالح الدول الأربعة الفاعلة فيه. وهكذا فقد كان للعامل البرتغالي دور إيجابي في التقريب بين دول المنطقة ودفعها نحو التعاون. وفيما لم يُجدِ ذلك نفعاً في حالة العلاقات العثمانية-الصفوية، بالنظر لطبيعتها التناحرية والشخصانية، فإنها نجحت، كما رأينا، في تحقيق قدر من التعاون بين القوى الثلاث الأخرى في الإقليم.

يضاف إلى كل ذلك ما تردد من روايات مفادها أن هدف الحملة البرتغالية التي قادها الفونسو دي البوكيرك، الحاكم البرتغالي للهند، إلى البحر الأحمر، في العام 1513، إنما كان الإغارة على المدينة المنورة لنبش قبر النبي وسرقة رفاته، لمقايضتها بـ"الأراضي المقدسة" في فلسطين. ومع أن تلك الحملة فشلت بفعل هبوب رياح شمالية عاتية كما رأينا في الجزء الرابع، فإن الهلع الذي اثارته تلك الرواية، واحتمال تكرار التهديد، شكلت فرصة ثمينة وحافزاً إضافياً للعثمانيين للتنطع لمهمة حماية المقدسات الإسلامية في الحجاز وفلسطين.

ولعل هزيمة المماليك في معركة ديو (1509)، وانكشاف عجزهم البنيوي والاستراتيجي عن التصدي للتهديد البرتغالي في المحيط الهندي، قد زادت من شهية الدولة العثمانية في الانقضاض على دولة المماليك، ومنحتها المزيد من الذرائع لضمها، وتصدُّر الزعامة الإسلامية في الصراع مع البرتغال، والسعي لانتزاع حصة وازنة من تجارة الترانزيت الهند-أوروبية بما يعزز مكانتها الجيوستراتيجية في صراعها مع أوروبا.

فحتى مطلع القرن السادس عشر، كانت معظم الموارد الاقتصادية للدولة العثمانية تكمن في البلقان، وظل الأمركذلك حتى بعد ضم مصر، وهو ما يفسر تواتر حملاتها العسكرية المُكْلفة ضد النمسا والمجر وغيرها من القوى الفاعلة في تلك المنطقة. بيد أن انخراط الدولة العثمانية المحدود في الصراع مع البرتغال إلى جانب المماليك، ساهم إلى حد بعيد في توسيع مداركها الجغرافية عن العالم، بما في ذلك تقديرها للأهمية الجيوستراتيجية للإطلال على المحيط الهندي، وما يقتضيه ذلك من تحكم بالبحر الأحمر والخليج الفارسي. كذلك يبدو أن البندقية، التي خبِرت عن كثب ضعف المماليك وقلة حيلتهم خلال تلك الحرب، قد يئست من المراهنة عليهم في حماية مصالحها التجارية من القرصنة البرتغالية، وباتت ترحب ضمناً بتوسع العثمانيين جنوباً على أمل أن يفلحوا فيما عجز عنه المماليك.

بيد أنه، وفضلاً عن السياق المملوكي-البرتغالي للحملة العثمانية على سورية ومصر، كان ثمة سياق آخر لا يقل أهمية بل وأكثر صخباً، يتعلق بالصفويين. فكما رأينا في الجزء الثاني، لم يكن النصر العسكري العثماني على الصفويين في چالديران حاسماً من الناحية الاستراتيجية؛ إذ ظل الصفويون محتفظين بدولتهم، وكذلك بنفوذهم العقائدي في الأناضول وشمال سورية والعراق. وكان من الطبيعي أن يتخوف السلطان سليم من احتمال قيام تحالف صفوي-مملوكي يهدد حديقته الخلفية في صراعه مع أوروبا، أو من احتمال أن يبادر الشاه اسماعيل إلى ملء الفراغ الناجم عن ضعف المماليك باجتياح سورية والوصول إلى ساحل المتوسط، فيصبح على تماس مباشر مع القوى الأوروبية، مع ما يعنيه ذلك من احتمال قيام تحالفات ضده بين الجانبين. وعلى العموم، كان الصفويون يحتفظون بعلاقات طيبة إجمالاً مع كل من المماليك وإمارة ذوالقادر التركمانية والبندقية، الأمر الذي كان يثير توجس السلطان سليم الذي دأب على اتهام كل من لا يروق له بموالاة الصفويين.

الطريق إلى دابق

عشية معركة مرج دابق كان تشابك النفوذ والتحالفات والمصالح الجيوسياسية في مثلث حلب-مرعش-دياربكر، حيث كانت تتقاطع حدود ودوائر نفوذ القوى الثلاث الرئيسة في المشرق، صورة مصغرة عن التعقيدات القائمة حالياً في الشمال السوري عشية "معركة حلب". وكانت إمارة ذوالقادر التركمانية وحاكمها العجوز المخضرم علاء الدولة بوزقورت، الذي تسبب تأرجحه بين المماليك والعثمانيين في الحرب الأولى بين الطرفين، في القلب منها. فغداة معركة چالديران، طلب سليم من جده علاء الدولة مؤازرته في حربه مع الشاه اسماعيل. بيد أن علاء الدولة، الذي كان ينحدر من إمارته الكثير من القزلباش، اعتذر عن الاستجابة متعللاً بشيخوخته وارتهان سيادة إمارته للمماليك. ولاحقاً اتهم سليم علاء الدولة بمهاجمة مؤخرة قواته أثناء زحفها شرقاً لقتال الصفويين. وفي العام التالي 1515، قرر سليم تصفية حسابه مع علاء الدولة، فأرسل إليه بجيش على رأسه الصدر الأعظم علي بن شاهسوار (وهو إبن أخ علاء الدولة)، فهزمه وقتله في المعركة. وتضيف بعض الروايات، أن سليم أمر بقطع رأسه وإرساله إلى الغوري. ونظراً لتبعية إمارة ذوالقادر رسمياً للسيادة المملوكية، فقد كان ذلك بمثابة إعلان حرب على دولة المماليك؛ فبزوال المنطقة العازلة بينهما، باتت الدولتان وجهاً لوجه، والحرب بينهما مسألة وقت.

والحال أن سليم كان يتهم الغوري وقتها بالتحالف سراً مع الشاه اسماعيل، وهو ما تردده المصادر العثمانية بدون إيراد ما يكفي من الأدلة عليه. ولعل الأقرب إلى الحقيقة أن الغوري كان يكره ويخشى كلاً من اسماعيل وسليم بالدرجة عينها، مع ترجيحه لخطورة سليم من الناحية العملية. اما مذهبياً، فقد كان نفور المماليك من التشيع الصفوي لا يقل عنه عند العثمانيين. ويتحدث إبن اياس، أبرز المؤرخين المماليك المعاصرين لتلك الحقبة، عن إقامة احتفالات رسمية وشعبية كبيرة في القاهرة غداة وصول أخبار انتصار العثمانيين على الصفويين في چالديران.

وثمة أيضاً رويات عن تفاهم سري تم بين الغوري والشاه اسماعيل، يتعهد بموجبه كل من الطرفين بتحريك قواته نحو الأناضول، لدى تقدم الجيوش العثمانية لمهاجمة الطرف الآخر، كمناورة تهدف إلى تشتيت اهتمام الأخيرة على أكثر من جبهة. ولعل مثل هذا السيناريو هو ما حصل صيف العام 1516، حيث عسكر سليم بقواته بداية في ضاحية أوسكودار على الجانب الأسيوي من البوسفور في حزيران، فاستنتج سكان استنبول أن غزوة السلطان التالية ستكون في آسيا (وليس أوروبا) وفق ما اصطلح عليه. ثم توجه سليم بقواته نحو شرق الأناضول حيث الحدود مع الصفويين، فتوجس الغوري، الذي كان قد خرج بقواته من القاهرة أواسط أيار تاركاً فيها نائبه طومان باي الثاني، من إمكانية أن يكون هو الهدف، فقرر التوجه إلى حلب ليكون قريباً من الحدود تحسباً لاي احتمال. فاعتبر سليم ذلك بادرة عدائية، وانعطف جنوباً قاصداً حلب هو الآخر.

بداية، ضم جيش المماليك لدى خروجه من القاهرة نحو عشرين ألف فارس، على أن تنضم إليه فيما بعد قوات أمراء الشام وفرسان العشائر العربية والتركمانية. كما ضم الجيش فرقة موسيقية ضخمة مدججة بطبول عملاقة ومزامير، في مشهد هو أقرب للكرنفال. وخرج في صحبة السلطان حاشيته وأطبائه، ومشايخ ومؤذنين، فضلاً عن الخليفة العباسي المتوكل الثالث، والأمير العثماني المنشق أحمد إبن كركوت أخو سليم. وفي دمشق انضم إلى جبش الغوري نائبها الأمير سيباي، وجان بردي الغزالي نائب حماه، وعدد من أمراء لبنان أبرزهم فخر الدين المعني الأول أمير الشوف، مع القوات التابعة لكل منهم. وأخيراً، انضم إليه في حلب نائبها خاير بك. وتذهب بعض التقديرات إلى أن تعداد جيش المماليك قد وصل إلى 80 ألف مقاتل. أما جيش سليم فقد تراوحت تقديرات عديده ما بين 65 و 125 الف مقاتل، كان بحوزتهم ما بين 50 إلى 300 مدفعاً، فضلآً عن عدد كبير من القربينات (بنادق بدائية).

وكان السلطان سليم، عبر وسطائه وجواسيسه، قد أجرى اتصالات مع الكثير النخب الشامية بهدف استمالتها إلى جانبه أو استطلاع مواقفها من المماليك. وقد جاءت نتائج استطلاعاته إيجابية بشكل عام، حيث عبر الكثيرون عن رغبتهم بالتخلص من حكم المماليك والانضواء تحت الحكم العثماني، نظراً لتفاقم الأوضاع المعاشية والفساد وثقل وطأة الضرائب وسوء الإدارة وغيرها من الآفات التي طبعت تلك الحقبة من حكم المماليك. كذلك فقد نجح سليم في تجنيد خاير بك، نائب حلب المملوكي، واعداً إياه بحكم ولاية مصر في حال ساعده في حربه مع المماليك.

الحصان يخسر آخر معاركه مع البارود

يوم الأحد 24 آب، 1516، التقى الجيشان في مرج دابق (أقل من 40 كيلومتر شمال حلب). وطبقاً لرواية إبن أياس، فقد رتب المماليك صفوفهم بحيث تكون منصة قيادة السلطان الغوري في القلب، ونائب حلب، خاير بك، قائداً للميسرة، فيما أسندت قيادة الميمنة للأمير سيباي نائب دمشق. واستُهلت المعركة بهجوم كاسح للأمير سودون العجمي ورجاله على الميسرة العثمانية، تبعه سيباي على رأس قوات من النخبة، فحصدوا الآلاف من الجنود العثمانيين خلال السويعات الأولى للاشتباك. وبدأ العثمانيون بالتقهفر أمام الهجوم، وتمكن رجال سيباي من اجتياح مواقعهم الامامية والاستيلاء على بعض المدافع وأسر عدد من رماة البنادق. ويقال أن سليم فكر وقتها جدياً بالتراجع أو طلب هدنة. ولكن المشهد سرعان ما بدأ بالانقلاب عندما سرت إشاعة مفادها أن السلطان الغوري، أمر المجندين بالتوقت عن القتال مع البقاء في مواقعهم، وإفساح المجال لقوات النخبة التي كانت أصلاً في ذروة اشتباكها مع العدو. وفجأة سقط كل من سيباي وسودون العجمي صريعين، فدب الذعر في صفوف الميمنة المتقدمة اللتي كانا يقودانها، وأخذت المدفعية العثمانية ورماة البنادق تحصدهم بالآلاف. وهنا أمر خاير بك قواته في الميسرة بالانسحاب، فيما وقف الغوري على منصته يصيح في جنوده المتراجعين داعياً إياهم إلى الثبات والقتال وهم عنه ذاهلون. وعندما أيقن السلطان بأن جيشه قد هزم، أصيب بالشلل النصفي على الفور، وما أن استدار ليهرب حتى سقط عن جواده وأسلم روحه وكان قد تجاوز الخامسة والسبعين من عمره.

والحال أن تفاصيل مجريات المعركة تختلف باختلاف الروايات، بيد أنها تتفق على نقاط مشتركة مثل خيانة خاير بك، ووفاة الغوري المفاجئة بما يشبه الذبحة القلبية وسقوطه عن حصانه لدى تيقنه من هزيمة جيشه، ودور المدفعية العثمانية في حسم المعركة بعد أن كانت تميل لمصلحة المماليك.

وتابع سليم زحفه إلى حلب، ودخلها يوم 28 آب محفوفاً بترحاب أهلها ووجهائها الذين نظروا إليه يومئذ كمخلص من حكم المماليك. واستقبل سليم الخليفة العباسي الذي جاء بصحبة  جيش الغوري بحفاوة، ولكنه وبخ بشدة كبار علماء وقضاة المماليك على تقاعسهم عن مجابهة فساد المماليك. ثم قصد قلعتها ووضع يده على الكنوز الهائلة التي كانت تحتويها وأمر بشحنها إلى الأستانة، وهو ما سيفعله في القاهرة أيضاً.

ثم توجه نحو حماه فحمص ووصل دمشق في 26 تشرين الأول، ودخلها سلماً وسط ترحيب اهاليها، والتقى بوجهائها. كذلك استقبل السلطان وفداً من أمراء لبنان جاء يهنئه بالنصر، ضم فخر الدين المعني الأول أمير الشوف، وعسّاف التركماني أمير كسروان وجبيل، والأمير جمال الدين الأرسلاني. ويبدو أن السلطان سليم قد أعجب بشخص فخر الدين المعني وبلاغته، فأقره هو وسلالته من بعده، على حكم إمارة الشوف ومنحه لقب "سلطان البر" ، كذلك أقرّ باقي الأمراء على مناطقهم، فيما عاقب الأمراء التنوخيين على ولائهم للمماليك بعزلهم عن منطقة الغرب (الشريط الساحلي بين بيروت وصيدا) وتعيين الأمير جمال الدين الأرسلاني بدلاً عنهم.

الزحف إلى مصر

بعد الانتهاء من هذه الترتيبات الإدارية، غادر سليم دمشق على رأس جيشة قاصداً مصر عبر فلسطين. فأخذ صفد بلا قتال، ولكن أهالي غزة سرعان ما انتفضوا ضده بناء على مزاعم عن انتصارات للمماليك، وكان رد سليم على ذلك بالغ القسوة والدموية. وعلى أطراف غزة هزم طلائع جيش المماليك التي كان على رأسها جان بردي الغزالي. وفي هذه الأثناء أرسل وفداً إلى طومان باي الثاني، الذي كان قد عُيِّن سلطاناً للمماليك خلفاً لعمه قانصوه الغوري، وعرض عليه تسوية سلمية يعترف بموجبها الثاني بالسيادة العثمانية على مصر مقابل تعيينه والياً عليها. ويبدو أن طومان باي كان لا يرى بأساً في القبول بالعرض، بيد أن الأمراء من حوله رفضوه، وانتهى بهم الأمر إلى قتل رسل السلطان سليم.

زحف سليم بجيشه قاطعاً صحراء سيناء بعد أن زوده بآلاف الجمال لحمل ما يحتاجه من مياه ومؤن. وكانت خطة طومان باي تقضي بالانقضاض على الجيش العثماني في الصالحية، إلى الشرق من القاهرة، حيث يكون منهكاً بعد عبوره الصحراء، بيد أن أمراءه الكُسالى فضلوا البقاء قريباً من بيوتهم في العاصمة. وكان اللقاء الأول بين سليم وطومان باي في الريدانية قرب القاهرة يوم 22 كانون الثاني 1517. قاتل طومان باي بشجاعة نادرة مع ثلة من أتباعه المخلصين، ونجح في اختراق صفوف العثمانيين والوصول إلى خيمة السلطان سليم، وانقض على من ظن أنه السلطان وقتله، ليتبين بعدها أنه لم يكن سوى الصدر الأعظم سنان باشا، ولكنه خرج مهزوماً في نهاية ذلك اليوم تاركاً وراءه الآلاف من جنوده قتلى.

بعد عدة أيام من دخول السلطان سليم القاهرة فاتحاً، قاد طومان باي انتفاضة مسلحة مفاجئة في حي بولاق شارك فيها الأهالي فضلاً عن المماليك. وتقدم المنتفضون وأشعلوا النيران في معسكر سليم وقتلوا الكثير من جنوده الذين هربوا واختفوا لبعض الوقت حتى ظن الناس أن الأمور عادت إلى سابق عهدها، وعاد خطباء الجمعة في المساجد يخطبون لطومان باي بعد أن خطبوا في الجمعة السابقة لسليم. ولكنه سرعان ما انهال رصاص البنادق على المنتفضين من المآذن وغيرها من الأماكن المرتفعة، فسقطوا قتلى وجرحى بالآلاف، وهرب طومان باي إلى البهنا جنوب القاهرة ليقود من هناك حركة مقاومة ضمت في صفوفها الكثيرين من أبناء الصعيد فضلاً عن المماليك.

وأدت تلك المقاومة إلى إطلاق عملية دبلوماسية للتوصل إلى تسوية سلمية كادت تؤتي ثمارها لولا أن بعض المماليك هاجموا الوفد العثماني المفاوض وأبادوه عن بكرة أبيه. فاستشاط سليم غضباً وخرج لقتالهم بنفسه، وكانت معركة كبيرة في الجيزة دامت ليومين، وانتهت مرة أخرى بهزيمة طومان باي ولجوئه إلى بعض البدو في منطقة البحيرة، ولكن هؤلاء ما لبثوا أن وشوا به وسلموه للسلطان سليم الذي امر بإعدامه شنقاً في باب زويله في 13 نيسان 1517.  كذلك أمر سليم بإعدام المئات من الأسرى المماليك بعد أن كان قد أعطاهم الأمان.

وبذلك استتب الأمر في القاهرة للسلطان سليم، حيث قضى فيها بعض الوقت في الترتيب لاستلحاقها بدولته. وخلال تلك الفترة استقبل سليم شريف مكة، محمد أبو نمي الثاني بن بركات، الذي قدم له مفاتيح الحرمين الشريفين كعربون لخضوعه للدولة العثمانية. كذلك حصل على تنازل آخر الخلفاء العباسيين المتوكل على الله محمد الثالث، له عن الخلافة، وتسلّم منه الآثار النبوية، البيرق والسيف والعباءة. وبذلك أصبح سليم أول سلطان عثماني يحمل لقب "أمير المؤمنين" و"خليفة المسلمين"، فضلاً عن ألقابه الطنانة الأخرى من قبيل: ملك البرّين، وخاقان البحرين، وكاسر الجيشين، وخادم الحرمين الشريفين. كذلك فقد عيّن والي حلب الأسبق، خاير بك، والياً على مصر مكافأة له على خيانته لسيده.

الصراع مع القوى الإيبيرية

خلال إقامته في القاهرة أيضاً، بدأ السلطان بالتأسيس لصراعه المقبل مع البرتغال. فبناء على تقارير تلقاها من مالك أياز، حاكم ديو في الهند، ومن غيره من التجار المسلمين هناك، حول مجريات المواجهات مع البرتغاليين، وشكواهم من ممارسات القائد المملوكي حسين الكردي، حاكم جدة، أمر بإعدام الأخير على الفور، وذلك كعربون لفتح صفحة جديدة في العلاقة مع مسلمي الهند. بعدها بدأ بإجراء اتصالات مع مظفر شاه الثاني، ملك غوجرات الهندية، للترتيب لعمل مشترك ضد البرتغاليين.

كذلك فقد استقبل موفداً من أمير عدن، مرجان بن عبد الله الظافري، ليعتذر له عن اضطراره لتقديم بعض التسهيلات اللوجستية والخبرات الملاحية للأسطول البرتغالي في أعقاب حملتها على المدينة في العام 1513، ومتعهداً له بالولاء التام. وفي هذه الفترة أيضاً عُرضت على السلطان سليم للمرة الأولى خارطة العالم التي رسمها القبطان والكارتوغرافي العثماني بيري ريس، وهي تُعد من أكثر خرائط ذلك العصر دقة وكمالاً. ولعل رعاية السلطان لمثل هذا المشروع الذي استغرق العمل فيه أكثر من أربع سنوات، واستند إلى التراث العريق للجغرافيين والملاحين العرب والمسلمين، فضلاً عن أحدث الاكتشافات الجغرافية الأوروبية، مثل اكتشاف أمريكا، يقدم دليلاً إضافياً على تطور الوعي الجيوستراتيجي لدى النخبة العثمانية.

أما في البحر المتوسط، فقد كان السلطان سليم على اتصال مع القرصانين الأخوين، أوروچ (تسميه المصادر العربية عروج) وخضر (لُقِب فيما بعد بخير الدين بربروس)، وهما تركيان مسلمان من أصول ألبانية أو يونانية كانا منخرطين في أنشطة بحرية هي مزيج من القرصنة والجهاد ضد الهيمنة البحرية الأوروبية في البحر المتوسط. وفي الفترة ما بين 1504-1510، دأب الأخوان على الإغارة على السواحل الاسبانية بهدف إنقاذ الآلاف من مسلمي الأندلس (المورسكيين) من الاضطهاد، ونقلهم إلى أماكن آمنة على الساحل الجزائري. وفي العام 1516، تمكن الأخوان أوروچ وخير الدين، من السيطرة على معظم الساحل الجزائري وإلحاق هزيمة بأسطول شارل الخامس ملك إسبانيا والامبراطورية الرومانية المقدسة، الذي جاء لطرده واستعادة الساحل. وبعد توطيد سلطته في الجزائر، أعلن أوروچ نفساً سلطاناً عليها. بيد أن شعوره بضعف موقعه الجيوستراتيجي في المدى البعيد أمام القوة الأسبانية الصاعدة، جعله يسعى إلى الالتحاق بالدولة العثمانية، حتى لو كلفه ذلك التخلي عن لقبه السلطاني. وهكذا توجه وفد من وجهاء وأعيان الجزائر إلى القاهرة للقاء السلطان سليم للإعراب عن رغبتهم بضم الجزائر إلى الدولة العثمانية. وبطبيعة الحال فقد رحب سليم بذلك، وخلع على أوروچ لقب أمير الأمراء "بكلربكی‎" Beylerbeyi، وأرسل إليه بتعزيزات من المدفعية والإنكشارية، وأمر ببناء أسطول خاص بالجزائر التي أصبحت مذاك ولاية عثمانية.

تحولات عميقة في الهوية والوظيفة

في الفترة ما بين معركتي چالديران والريدانية (1514-1517)، ازدادت مساحة الدولة العثمانية بما يزيد عن الضِعف، وكذا تقريباً عدد سكانها. ولم يقتصر التغيير الديموغرافي على الجانب الكمي فحسب، بل وكذلك على تركيبتها الإثنية والدينية. فبعد أن كانت غالبية رعاياها من مسيحي البلقان والأناضول، باتت كفّة مسلمي المشرق والناطقين بالعربية هي الراجحة. وقد انعكس ذلك على هوية ووظيفة الدولة العثمانية، فتحولت من قوة ثغور طرفية تتوسع وتحكم باسم الإسلام خارج نطاق العالم الإسلامي، لتصبح هي ذاتها الدولة المركزية فيه. وتحول حكامها من فاتحين و "مجاهدي ثغور" يحملون بفخر لقب "غازي" Gazi، إلى خلفاء للمسلمين وحُماة وسَدَنَة لمقدساتهم. ومن ناحية أخرى، أدى استمرار صراعها الجيوسياسي مع الصفويين الشيعة، إلى تعميق طابعها السُنّي المحافظ، وابتعادها نسبياً عن جذورها الصوفية المتناغمة مع التشيُّع والعلوية البكتاشية. وترافق ذلك مع ازدياد اضطهاد الشيعة والعلويين في الشام، فيما تحسنت معاملة الطوائف المسيحية واليهودية إلى حد كبير.

أما بالنسبة لأهالي المشرق العربي، فلم يكن ثمة تغيير ملحوظ؛ فالدولة العثمانية لم تكن لتختلف جوهرياً عن الدول والامبراطوريات التي سبقتها، وخاصة دولة المماليك. بل إن حكم المماليك استمر في مصر، بصورة أو بأخرى، تحت العباءة العثمانية حتى مطلع القرن التاسع عشر (مذبحة القلعة 1811). كذلك فقد حافظت معظم النخب التي كانت متنفذة في الشام أيام المماليك على مكانتها في العهد العثماني.

وبشكل عام، تمتعت الأقاليم العربية بقدر متفاوت من الحكم الذاتي، تناسب طرداً مع بعدها عن المركز. وفي ظل النظام المِلّي الذي تبناه العثمانيون، تمتعت الطوائف المسيحية واليهودية أيضاً بما يشبه الحكم الذاتي، وفقاً للشرائع والتقاليد الخاصة بكل منها. ولم تكن الدولة العثمانية لتمييز على نحو منهجي ما بين مكوناتها العرقية، أو تتخذ لنفسها هوية قومية تركية (راجع الجزء الأول). وعلى مدى أربعة قرون من تاريخ المشرق العثماني، لم يظهر تفاوت ملحوظ في مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والمعاشي بينه وبين المركز العثماني، كذاك التفاوت الصارخ الذي كان قائماً بين المتروبولات الأوروبية ومستعمراتها وراء البحار. وظلت القاهرة وحلب تتصدران المرتبتان الثانية والثالثة، على التوالي، في النشاط الاقتصادي بعد الأستانة. وبالتالي، فإن نعت الدولة العثمانية بأنها "استعمارية" لا يستند إلى أي أساس علمي. فهي لم تكن دولة رأسمالية تبحث عن موارد أولية ويد عاملة رخيصة لصناعتها وأسواق لتصريف انتاجها، شأن الدول الاستعمارية التقليدية. ولم يكن مستوى التطور الرأسمالي في مدن مصر والشام ليقل عنه في مدن المركز العثماني. كل ما كانت السلطنة العثمانية تتطلبه من ولاياتها، هو تسديد ما عليها من ضرائب (وكانت فاحشة حقاً)، ورفد جيوشها بأعداد محددة من المجندين.

خاتمة

من الإجحاف بمكان تقييم الأدوار التاريخية التي لعبتها الدولة العثمانية على مدى ستة قرون من حياتها، من زوايا ضيقة، أو انطلاقاً من منصة صراعنا الراهن مع العثمانية (الأردوغانية) الجديدة. فالثانية، رغم تظاهرها بالتماهي مع الأولى، هي في واقع الحال نقيضتها وظيفةً وسياقاً، إذ بالكاد يرقى طموحها إلى أداء وظيفة سلفها وهي في طور انحطاطها (الرجل المريض) عندما تحولت فعلياً إلى مجرد ناطور محلي لإدارة توازن مصالح ونفوذ الإمبرياليات الأوروبية المتصارعة في المشرق وجنوب البلقان.

ويبقى أن نجيب على السؤال: ما هي البدائل التي كانت مطروحة أمام شعوب المنطقة خارج العباءة العثمانية؟

حسناً، لقد رأينا كيف قاومت مصر المملوكية الغزو العثماني بضراوة تحت قيادة طومان باي، ولكن النخب الشامية كانت أكثر من مُرحِّبة بالانضمام إلى الدولة العثمانية، وكذلك كان موقف أشراف الحجاز. أما الساحل الجزائري الذي كان يكتظ باللاجئين المورسكيين من الأندلس، والمهدد بالعدوانية الإسبانية قبل أن تنصرف عنه بعيداً نحو هنود القارة الأمريكية، فقد قدم نفسه على طبق من فضة إلى السلطان سليم في القاهرة، وهو لايزال على مسافة آلاف الكيلومترات منه. وفي عهد خلفه سليمان القانوني، الذي انخرط في صراع جدي ومديد مع البحرية البرتغالية، عمَّ النفوذ العثماني سائر مسلمي حوض المحيط الهندي حتى وصل إلى أندونيسيا ومَلَقَة.

لم يكن كل ذلك بالتأكيد حباً وهياماً بالعثمانيين، ولكن شعوب المنطقة ونخبها كانت تدرك على نحو ما، خطورة الإندفاعة العدوانية الأوروبية التي سميت فيما بعد بـ"الاستعمار"، وتدرك بالقدر عينه عجزها عن مجابتها فرادى بالاعتماد على قواها الذاتية. ولعل ذلك هو ما جعلها ترضى بالانضواء تحت راية القوة الإسلامية الوحيدة التي أثبتت عملياً قدرتها على مقارعة القوى الأوروبية بكفاءة. ولولا ذلك، فلربما كان التاريخ الكولونيالي للشعوب العربية قد بدأ في ذلك الوقت المبكر، ولكانت قد عانت من موجاته الأولى الأكثر وحشية، ما عاناه سكان أمريكا وأستراليا الأصليين، وشعوب أفريقيا جنوب الصحراء من تنكيل واسترقاق وإبادة جسدية وثقافية، ولربما كانت إسرائيل الكبرى تحتفل الآن بيوبيلها المئوي الرابع!

مع وصول حملة نابليون أواخر القرن الثامن عشر، استقلت مصر عملياً عن الدولة العثمانية، لتخوض بعدها مغامرة استقلالية نهضوية بطولية بقيادة محمد علي باشا، ما لبثت أن امتدت خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى سورية أيضاً، بل وتوجهت إلى الأستانة ذاتها للإطاحة بالسلطان محمود الثاني وتأسيس امبراطورية مشرقية عربية حديثة. بيد أن تكالب القوى الأوروبية ضد ذلك المشروع، وتوحيد مواقفها منه رغم ما كان بينها من تناقضات عميقة في إطار "المسألة الشرقية"، أدى إلى إجهاضه وإرغام محمد علي على الانكفاء.

وإمعاناً في إحباط تلك الروح الجديدة التي دبت في جسد المشرق، عمدت القوى الأوروبية إلى تجنيد كل ما في ترسانتها من وسائل القوة الناعمة لتمزيق النسيج الاجتماعي للمنطقة. فكانت الفتن الطائفية في جبل لبنان ودمشق وحلب، أواسط القرن التاسع عشر. والسعي إلى زعزعة استقرار الدولة العثمانية وانتهاك سيادتها عبر الرقابة المالية بحجة إدارة ديونها، والضغط عليها لتنفيذ "اصلاحات" تلائم أجنداتها هي، وتغذية النزعات القومية الشوفينية لدى مختلف مكوناتها، من أتراك وعرب وأرمن ويونان ..

وما لبثت تلك الجهود أن أثمرت مشاريع انفصالية، وجمعيات سرية، وعلاقات مشبوهة مع القنصليات الأوروبية، ومؤتمرات في باريس، ومراسلات مع لندن، ومذابح وتطهير عرقي ضد مسيحيي الأناضول، وسياسات تتريك، ومشانق في دمشق وبيروت، فـ"ثورة عربية كبرى" في الحجاز .. ليتبين بعدها أن كل ذلك لم يكن إلا تمهيداً ضرورياً لإعادة رسم خرائط المنطقة بما يلائم مصالح بريطانيا وفرنسا. واليوم، يستثمرون تلك الأحقاد التي زرعوها وغذوها بين شعوب المنطقة، وأوهام مسخ العثمانية الأردوغانية الجديدة، والإرهاب الوهابي لتحديث تلك الخرائط بما يتلائم مع المصالح المستجدة لمنظومة النهب الدولية.

فهل ستهتدي شعوب المشرق إلى صيغة جماعية لحماية استقلالها ومصالحها بالاستفادة من تجارب الماضي ولكن بعيداً عن ضغائنه وأوهام إعادة إحيائه؟!

(*) كاتب وباحث سوري

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...