الحرب السورية تعزز الزواج المدني.. ولا تحرره قانونياً!

26-09-2016

الحرب السورية تعزز الزواج المدني.. ولا تحرره قانونياً!

لم يكن الحديث متاحاً عن إمكانية تشريع الزواج المدني في سوريا قبل الحرب، وظلّ هذا الموضوع من «التابوهات» الاجتماعية. ومع ذلك، شهدت دمشق بعض التحركات الجماعية المحدودة التي طالبت أمام مقر البرلمان السوري بإقرار الزواج المدني. لكن أحداً في الدولة لم يلتفت إلى هذه الدعوات، وطوي الملف.لاجئان سوريان وطفلتهما في الفاتيكان الأسبوع الماضي (أ ف ب)
ولكن ما إن بدأت شرارة الحرب السورية بالاشتعال، حتّى سقطت معها الكثير من «التابوهات» المرتبطة شكليا بالدين والعادات والتقاليد. فالحرب غيّرت الكثير من المسلّمات والبديهيات التي كانت ــ ولا تزال ــ تحكم المجتمع السوري، وجعلت بعض السوريين يعيدون حساباتهم في الحياة، ويعدّلون من وجهات نظرهم، ومنها ما يتعلق بالزواج المدني، والزواج المختلط (بين ديانتين مختلفتين)، الذي أصبح مقبولاً لدى كثيرين.
«لو كانت هذه العلاقة قبل العام 2011 لما تكللت بالزواج»، تقول ناهدة، الشابة السورية المسيحية، بعدما مضى على زواجها من سامي، الشاب المسلم، عامان، لافتةً إلى أن «الحرب فتحت الطريق لنا، ونجحنا بسهولة في إقناع الأهل بهذا الزواج، كوننا ابتعدنا عن مجتمعنا الديني الضيق بعد نزوحنا من حمص إلى اللاذقية».
ويواصل سامي من حيث توقفت زوجته، قائلا إنه «لو حصل هذا الزواج قبل الحرب لاضطررنا إلى مغادرة سوريا بشكل نهائي. كنا سنواجه رفضاً حاداً، وربما كانت ستلاحقنا التهديدات». ويستطرد «شئنا أم أبينا، نحن مجتمعٌ يعيش وفقاً لعاداتٍ وتقاليد معينة، ليس سهلاً الخروج عنها». وحول إمكانية إقرار الزواج المدني في سوريا في الوقت الحالي، يستبعد الزوجان الشابان الأمر «كوننا نعيش في دولة يحكمها رجال الدين»، رغم تأكيدهما على «ضرورته في مجتمع متنوع دينياً».
ناهدة وسامي تمكّنا من تثبيت زواجهما في المحاكم السورية استناداً إلى القانون السوري الذي يسمح بزواج المسلم من غير المسلمة، فيما وقف القانون ذاته عائقاً أمام رولا (مسلمة) وكريم (مسيحي)، ما جعلهما يبحثان عن حلّ يمكّنها من الزواج داخل سوريا.
تروي رولا  كيف أنه «بعد مشاهد العنف المتزايدة على الشاشات بسبب الدين وصراع الطوائف، أصيبَ والداي بنفور حاد من الأديان، لهذا لم يعد الأمر مهماً بالنسبة لهما». وتشرح أنه «عندما تقدم كريم لطلب يدي من والديّ، لم يعترضا أبداً بل بالعكس رحبا، وكان ان اتفقنا على الزواج». لكن كيف؟ تجيب: «تم تعميدي في الكنيسة التي أنجزت الأوراق اللازمة في الدولة، وأصبحتُ مسيحية لدى النفوس المدنية».
وإن استطاعت فوضى الحرب أن تخفف من وطأة العقبات الاجتماعية أمام الراغبين في الزواج من ديانات مختلفة، إلا أن ذلك لا يعني أن العوائق القانونية قد أزيلت من أمامهم، فأساس المشكلة يكمن في القانون ذاته. والزواج المختلط يتعقَّد عند حالة زواج غير المسلم من مسلمة، إذ «لا يحق لغير المسلم أن يكون قوّاماً على مسلم»، وفقاً للشريعة الاسلامية التي يَعمل بها القانون السوري منذ العام 1953.
ولقد نصّت «المادّة 48» من «قانون الأحوال الشخصية السوري» على أن «زواج المسلمة بغير المسلم باطل، ويُعتبر الأطفال المولودون من علاقة مماثلة غير شرعيين». أما زواج المسيحية من مسلم فهو مسموح، ويخضع كلا الزوجين لأحكام قانون الأحوال الشخصية السوري الخاص بالمسلمين حصراً، والذي بدوره يُجرّد المسيحية من الحق في ميراث زوجها وأولادها، ويُحدد دين أطفالها بالإسلام حصراً، وينزع عنها حين تصبح أماً الحق في حضانة أطفالها بسبب معتقدها.
واستناداً إلى المادّة تلك، يضطر البعض ممن يعيش علاقات حبّ مختلطة دينياً للجوء إلى حلول عدّة، أبرزها أن يشهر غير المسلم إسلامه أمام المحكمة الشرعية. وهذا الحل هو الأسهل قانونياً، لكنه شاقٌّ اجتماعياً، وهو ما انطبق على الشاب الثلاثيني نور (مسيحي)، الذي اضطر لأن يشهر إسلامه أمام المحكمة الشرعية في دمشق ليتزوّج من الفتاة التي أَحَبَّها.
وواجه نور مشاكل اجتماعية بعد اعتناقه الديانة الإسلامية، خاصّة من أقاربه الذين رفضوا التواصل معه. ولكنه يؤكد أن «لا أحد يهمه طالما أن أبي وأمي وقفا إلى جانبي في هذه الخطوة، وهما يثقان بقراراتي وباختياري لشريكة حياتي». ويتعجب نور من أنه «لطالما قرأنا أن جميع المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات، لكن ما أن نصمم على اختيار شريك يختلف عنا في الدين، حتى نكتشف أن بعضنا يتفوق على الآخر»، معتبراً أنه «قد حان لهذا القانون أن يتغيّر ليتماشى مع تطور المجتمع وتبدل أفكاره».
وتشرح الباحثة الاجتماعية نهى عيسى ان أكثر «الحلول شيوعاً لدى الشبان السوريين في هذا الوضع هو السفر إلى دولة تعترف بالزواج المدني، وغالباً ما تكون قبرص هي الوجهة الرئيسية، ثم يعود الزوجان إلى لبنان الذي يسمح بتثبيت الزواج فقط».
وهذا فعلاً ما لجأ إليه طوني وليلى، عندما قررا السفر بعيداً عن بلدهما الذي وجد أن زواجهما باطل وأولادهما «أولاد حرام!».
ويقول طوني: «لا يوجد زواج مدني في سوريا، لهذا ذهبنا إلى قبرص، ثم إلى لبنان الذي يعترف بزواجنا».
ولا يمكن تثبيت زواج غير المسلم من مسلمة في سوريا إلّا في حالة واحدة، وهي عندما تكون «العروس» لا تعلم أن «عريسها» غيرُ مسلم عند عقد قرانهما، مع شرط وجود أطفال عند تثبيت الزواج.
وفي هذا السياق، يقول القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي إن «المحكمة تعترف بزواج المسلمة بغير المسلم استناداً إلى حالة واحدة فقط، وهي إذا كانت الزوجة تجهلُ أن زوجها غير مسلم، هنا فقط يتم تثبيت الزواج في المحكمة حفاظاً على نسب الأطفال».
لكن ألا يمكن لتلك الحالة أن تكون ثغرة يتمّ استغلالها لتثبيت الزواج؟ يجيب المعراوي: «القضاء الشرعي يكتفي بالظاهر ولا يهتم بالباطن. فاذا اعترف الزوج بالأولاد ينقل النسب إليه فوراً دون التحقق من الامر طالما أنه لمصلحة الطفل».
ويعتبر المعراوي في حديثه  أن «كلّ من يطالب بتشريع الزواج المدني، هو إما جاهل لحقيقته أو يمرّ بنزوة عاطفية تحجب الرؤية عنه». ولدى سؤاله عن إمكانية تشريع الزواج المدني في سوريا، يجيب بان «الزواج المدني - بشكل ما - يهدد أمن سوريا القومي، إذ إن فكرته قادمة من الغرب، وهدفها تفكيك الأسرة الذي يؤدي إلى تفكيك المجتمع، وبالتالي السيطرة عليه».
وعزز رأيه مستشهداً بحالات طلاق من ديانات مختلفة كانت قد شهدتها المحاكم السورية قائلاً: «تنكشف خطورة الزواج من ديانتين مختلفتين عند أوّل خلاف بين الطرفين، إذ يتمّسك كلّ منهما بالأحكام الدينية. فالزواج المختلط يقوم على علاقة حب بين طرفين دون أخذ الاحكام الدينية والاجتماعية بعين الاعتبار ما ينجم عن ذلك خلافات حادّة بعد الزواج قد تُحدِث ضرراً على الأطفال»، موضحاً أن « عقد الزواج في سوريا هو مدني في الأساس، إذ يتم بقبول الطرفين وبحضور شاهدين، حيث لا حاجة أبداً لأي طقوس دينية».
وعن رأيه في ما إذا كان القانون السوري جائراً، إذ يحقّ للمسلم ما لا يحق لغيره، يجيب: «لو عرفنا السبب لبطل العجب»، رافضاً الغوص في الموضوع كونه «يثير حساسية نحن في غنى عنها في الوضع الراهن».
من جهته، يعتبر الأب سبيريدون فيّاض، الكاهن في مطرانيّة الروم الأرثوذكس في اللاذقية، أن الزواج بين شخصين من ديانتين مختلفتين «حريّة شخصية بحتة يتمتع بها المقبلون على الخطوة»، متمنياً أن «يتم سنّ قوانين مدنيّة تعترف بالزواج وتثبّته في المحاكم المدنية». ويختم قائلاً: «لا نريد أن نخسر أولادنا فيضطرون، إما للهجرة أو تغيير دينهم».
ورغم هذا الرأي «المنفتح»، إلا أن الأب سبيريدون يؤكد أن الزواج المدني غير صحي في سوريا، إذ ليس من السهل تجاوز العقبات الاجتماعية والدينية»، وهو «يشكّل خطراً على الاولاد الذين سينتجون من هذا الزواج، إذ قد يضيعون بين الديانتين».
لكن مها، المرتبطة بشريك من ديانة أخرى، لا تتفق مع الكاهن في آرائه، بل تعارضه تماماً. وتقول: «لقد ولدت في أسرة متزمتة دينياً، وزوجي كذلك، لكننا لم نكن متعصبين دينياً أبداً»، مضيفة أنه «إذا انجبت أولاداً، فلن أعلمهم الدين بل سأترك لهم حرية الاختيار».
ويرى الصحافي وسام الجردي أن «حالات الزواج بين ديانات مختلفة ليست جديدة على سوريا، بل كانت موجودة، ولو على نطاق ضيق. وهي اليوم بدأت تتعزز ـ نوعاً ما ـ ربما للانفتاح الذي حصل بين الدول نتيجة تطورات التكنولوجيا، أو ربما كردة فعل على ما يحصل في سوريا من محاولة لصبغ الصراع بصبغة دينية، لكن حتى اليوم لم ينفتح المجتمع بكامله على هذا الزواج».
ويشدد الجردي  على «أننا اليوم بأَمَسِّ الحاجة إلى وضع تشريعات إنسانية قانونية لتفعيل الزواج المدني، وبما أننا نتحدث عن أن دولتنا علمانية، فيجب سن قوانين إنسانية وليس قوانين وتشريعات دينية تقضي أو تهمِّش الانسانَ داخلنا، بل تعطي أحقية للعيش الرغيد دون ان يكون من يتزوج زواجاً مدنياً منبوذا من قبل المجتمع».
ومن جهته، يؤكد عضو مجلس الشعب عن محافظة اللاذقية نبيل صالح، أنه «لا جديد في موضوع الزواج المدني»، معتبراً أن الوقت الراهن «ليس أفضل الأوقات لطرحه.. وعلى أي حال منذ تمرد الإخوان المسلمون في ثمانينيات القرن الماضي، ونحن نقول إن التزاوج بين مختلف الطوائف والأديان أفضل وسيلة لتحجيم تيار هؤلاء».
ويعتبر صالح أنه «طالما التشريع الديني يسيطر على القوانين المدنية والدستور وعقول العوام، لن يكون هناك لقاء بين الطوائف ولا مساواة للمرأة بالرجل في الحقوق ولا زواج مدني»، متسائلاً: «هل علمتم من أين نبت داعش؟».
ويختلف وضع الزواج المدني في الشمال السوري، وتحديداً في مدينة القامشلي القريبة من الحدود التركية، عن باقي المحافظات السورية التابعة لسيطرة الدولة، فهناك تم الاعتراف بشرعية الزواج المدني العام الماضي، وذلك بعد اعلان الإدارة الذاتية المدنية في الشمال السوري من قبل «حزب الاتحاد الديموقراطي». وشهدت المنطقة منذ ذلك الحين ما يقارب الـ 1300 حالة زواج مدني بحسب ما أكده الصحافي آختين أسعد.
وأخيراً، ورغم ارتفاع عدد الزيجات بين ديانتين مختلفتين في سوريا خلال الحرب، بحسب ما تؤكده الباحثة نهى عيسى، إلا أنه وكما يبدو، فإن اعتبارات الدولة السورية لا تأبه كثيراً للكم من المطالب بسن قانون الزواج المدني، إنّما تظل تلتفت إلى اسباب أخرى كثيرة، شائكة وإشكالية، وقد تحمل حساسيات خاصة، وهي تبدو أنها ليست اليوم في وارد بحثها أو حتى مناقشة الفكرة على الملأ. ولعلها ربما تعمل وفقاً لمبدأ أن «الزواج الذي سيأتيك منه الريح، سدّه واستريح».. ولكن يا لها من رياح!!

ريما نعيسة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...