مسلمو المهجر بين فقه التوطين وفقه الأقليات

28-08-2016

مسلمو المهجر بين فقه التوطين وفقه الأقليات

يمثل الإسلام الآن ديانة تطرح لدى غير المسلمين تساؤلات عديدة حول طبيعة هذا الدين ومن يعتنقونه، هذه التساؤلات بدأت بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما تبعها من عمليات إرهابية إلى الآن، لكن زاد من صعوبتها قيام عدد من معتنقي الإسلام الأوروبيين بالمشاركة في تلك العمليات. إن هذا يقتضي البحث عن مشكلات مسلمي المهجر وكيفية اندماجهم في مجتمعاتهم، لذا فإن التساؤلات حولهم تنتهي بدءاً مما طرحه عالم الاجتماع الأميركي ماركوس لي هانسن حيث أثبتت دراساته الميدانية أن الجيل المهاجر الأول غالباً ما يبدي تشبثاً شديداً بخصوصياته الثقافية من دين ولغة وذاكرة تاريخية. بينما يرى الجيل الثاني في هذه الخصوصيات الثقافية نفسها عوامل إعاقة لاندماجه المنشود في مجتمعات الهجرة، فيختزل الدين واللغة والذاكرة التاريخية في مجرد موروثات ثقافية يعتقد أنه يمكنه حصرها في المجال الخاص كمسائل شخصية لا شأن لها بمسألة الهوية الجماعية.

يرى هانسن أن أزمة الهوية الجماعية تبدأ في الظهور مع الجيل الثالث الذي يحاول استرجاع خصوصيات ثقافية من الدين واللغة والذاكرة التاريخية التي تلاشى معظمها نتيجة اندثار الجيل الأول وعدم اكتراث الجيل الثاني، فأبناء هذا الجيل غالباً ما ينطلقون في عملية حفر في الذاكرة الجماعية وفي تمثل جديد للذات الحضارية المتميزة على إعادة قراءة خصوصياتها.

ويرى كمال الغزي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة وسط ميزوري، أن الجيل الثالث من مسلمي الولايات المتحدة في حاجة إلى فقه جديد سمّاه فقه التوطين، ما يتطلب حواراً بين نصوص الإسلام الثابتة وبين واقع المسلمين المتجدد في المجتمع الأميركي ذي الطبيعة الخاصة. فقه التوطين، لا شك سيجد معارضة شرسة من جماعات الإسلام السياسي التي ترى عالمية الإسلام أو كونيته، ما يعني أن جماعة مثل الإخوان المسلمين تمتد من مصر، بلد المنشأ، إلى أنحاء العالم كافة.

ومن ثم سيظل مسلمو المهجر تحت وطأة مسلمي الدول التي هاجروا منها، من حيث التبعية الدينية، فضلاً عن ارتباطهم بمشكلات بلدانهم الأصلية، ما يجعلهم متشرذمين ومنعزلين في مجتمعاتهم الجديدة، يعيش بعضهم في غيتو، بل وقد يخضعون للقضاء العرفي لتيارات الإسلام السياسي على غرار مجالس الشريعة في بريطانيا.

إن هذا الانعزال هو شيء من الخوف الكامن في النفوس، وينم عن عدم إدراك لمنظومة حقوق الإنسان في الغرب كوسيلة للتعايش والاندماج. هذه المنظومة التي كفلت لهؤلاء المسلمين حق التجنس والإقامة والاستفادة من شبكات الضمان الاجتماعي. لذا أدى فقه الأقليات بالشباب المسلم من الجيل الثالث الباحث عن الهوية واللغة والدين ليكون فريسة سهلة لمقولات التيارات المتطرفة، والتي كان لبعضها فرصٌ في نشر وجودها، كـ «الإخوان المسلمين» في ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا، ولكي يجري تجنيد الأشد تطرفاً في «داعش»، بل وتهديد موطنهم بخطر العنف.

هنا يبرز فقه التوطين بقدرته على بناء خطاب ديني متوائم مع البيئة معززاً فعل القيم الدينية الإسلامية التي تعزز الاندماج من الرحمة والمحبة والتعارف واحترام حقوق الغير في نفسه ودينه وممتلكاته. هنا يكون الإسلام منجماً يجرى تفجيره بالسلوك الحسن الذي يدعو إليه، «وخالِق الناسَ بخُلقٍ حسن» (حديث نبوي ورد في الترمذي) و «قولوا للناس حسناً» سورة البقرة آية 82. هنا فقه التوطين يساهم في السلم المجتمعي ويبني مجتمعات إسلامية مستقرة غير مهددة من قبل العنصريين والمتطرفيين في مجتمعاتهم، إذ يجعلهم مكوناً أساسياً في مجتمعات المهجر، في حين أن فقه الأقليات عزلهم وجعلهم مستهدفين من العنصريين ومن سياسات العنصرية في دول المهجر، فأصبح شبابهم صيداً سهلاً لـ «داعش» وغيره.

هنا نستدعي من القواعد الفقهية العديد من القواعد التي يمكن أن يبني عليها فقه التوطين، ومنها:

قاعدة تغيير الفتوى بتغير الزمان. هنا نستدعي ما ذكره صبحي المحمصاني في كتابه «تراث الخلفاء»، «وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد، فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد، وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال».

مجلة «الأحكام العدلية» ترسخ هذه القاعدة تحت عنوان «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان». ومن القواعد التي تساعد على بناء فقه التوطين العرف، «خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين»، وقاعدة العادة محكمة، وفقه المقاصد وقاعدة سد الذرائع. هكذا كان فقهاء الإسلام والمدارس الفقهية الإسلامية أكثر انفتاحاً من فقهاء تيارات الإسلام السياسي الذين قولبوا الإسلام كدين وجد للصراع السياسي المستمد من مقولات تاريخية تجاوزها الزمن وتجاوزتها منظومات الحقوق والواجبات في القوانين المعاصرة.

خالد عزب

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...