الإسلام.. وانقلاب الكتاب على النّبي

16-06-2016

الإسلام.. وانقلاب الكتاب على النّبي

عوّدتنا النّظريّات الفلسفيّة، وما تحويه من قيم مثاليّة، أن تتحّول إلى ما يشبه الأيديولوجيا لحظة اصطدامها بالواقع. فغالبًا ما ينقلب الواقع الفعلي على التنظير، ويكشف نقاط ضعفه، ويهزمه في أحايين كثيرة. ولهذا أسباب عديدة، يمكن اختزالها في أنّ الفلاسفة القدماء وأصحاب النظريات الفكرية والفلسفية في المراحل الماضية القريبة، قد اعتمدوا رسم قوانين أرفع من حركة الواقع والحياة الاجتماعية. وربّما كان هذا من ردود الفعل على قبح الواقع، ومحاولة التخلّص من الانغماس في أوحاله ورماله المتحرّكة.
فمنذ أفلاطون، مرورًا بالفلاسفة المسلمين الذين تأثّروا بالفلسفة اليونانية، وصولاً إلى الفلسفات الوجودية والماركسية والقومية، نرى قوانين مرسومة، شكّلت أحلامًا وطموحاتٍ للجمهور، فراح بعضهم يبحث عن مدن ودول وجمهوريات فاضلة تليق بتلك القيم المتخيّلة، لكن سرعان ما تفتر فورتها وتخمد عند امتحانات التطبيق. وهذا يؤكّد أن الايديولوجيات المثالية، تصبح عنصرَ تدميرٍ حين تغدو مشاعة للتصرّف والانكشاف، وتصبح السلطة مطلبًا فتتكاتف السلطتان المعرفية والسياسية على أنهما الحقيقة المطلقة، ويصبح كلّ خارج عنهما مدانًا تشرّع ضدّه وسائل الاقصاء، وقد تصل إلى تسويغ العنف. ذلك أنّ اليوتوبيا، مثلها مثل القنبلة الذريّة، ما وجدت ولا يجوز لها أن توجد إلا لكي لا تُستعمل كما يقول جورج طرابيشي. فكما أنّ أذى القنبلة الذرية الكلّي أشدّ بما لا يُقاس من أيّ أذى جزئيّ قد يراد تلافيه عن طريق استعمالها، كذلك فإن الشرّ الّذي يتمخّض عن تطبيق اليوتوبيا هو أكبر بما لا يقاس من أيّ شرّ يراد حذفه من الوجود عن طريق إخراجها هي نفسها إلى حيّز الوجود. وهذا لا يعني أنّ الفلسفات والنظريات الفكرية عنصر سلبيّ قائمٌ بذاته، إنما سلبيته ترتدّ عليه من خلال غيره، أي عبر الواقع الذي يتمرّد على كلّ جسم غريب أو دخيل يُراد إقحامه اقحامًا دون مراعاة لحركته، ودون اكتراث لواقعيات موجودة بشكل رسميّ.
ما سبق جعل الأديان بوجود أنبيائها على الأقلّ، تتفوق على النظريات الفلسفية المثالية السابقة. تلك النظريات التي أكّدت أن حاكم المدن والجمهوريات المرسومة بقوانين تعتمد الخيال، لا بدّ أن يكون حكيمًا أو فيلسوفًا أو ذا مركز طبقي عال. فقد حصل العكس مع ظهور الأديان، وعلى رأسها الدين الاسلامي الأكثر اشكالية اليوم، إذ رفع لواء التغيير رجلٌ راعٍ في صباه، وتاجرٌ في شبابه وذو مركز متدن في صغره، مقارنة مع أسياد قريش من أقربائه وغيرهم. رجل استطاع أن يقلب التاريخ البشري، خصوصًا العربيّ، رأسًا على عقب، لأنه لم يكتف بتقديم قوانين لخدمة المجتمعات كما فعل الفلاسفة قبله وبعده، إنما بالاضافة إلى الخدمة عمل على صلاح المجتمع، فكل صلاح خدمة، وليس كل خدمة صلاحًا. وهذا يعود إلى انطلاقه كغيره من الأنبياء، من الواقع وجزئيّاته التفصيليّة، معتمدًا قوانينه، طارحًا ما يتناسب مع نواميس الواقع والحياة والطبيعة، عاملًا على تطويرها بطريقة حضارية، لم يجعلها غريبة عن الفكر وحركة الناس وتصرّفاتهم، مؤكّدًا أنّه بشر كسائر البشر لكن يُوحى إليه، ويسعى إلى الكمال الانساني عبر التطوّر وطلب المعرفة (ربّي زدني علمًا). لقد استطاع النبي أن ينشر الدين كفعل، عبر تقديمه كتابًا ونصًّا يراعيان عقول الناس آنذاك، ما جعل الدين قريبًا من أن يكون منتَجًا ثقافيًّا (بفتح التاء)، وقدّم معجزة تقوم على الكتابة والقراءة في مجتمع لم يُعر هذا الموضوع أهميّة. فلم يدعُ النبيّ محمد (ص) إلى التفكّر في الأمور المستعصية بقدر ما دعا إلى التفكّر في الموجود والمحسوس للتعرف إلى المجرّد، فالله طريقُه الناس، ومعرفة السماء ليست أكثر أهمية من معرفة الأرض. لم يدعُ إلى التفكّر في العقل بقدر ما دعا إلى التفكّر بالعقل، وكانت أوامر القرآن التي تحثّ على البحث والكشف والعلم طاغية، وإن صارت شبه مهملة حين استحال الاسلام ردّ فعل أكثر مما كان عليه من فعل زمن النبيّ.
لكنّ ما وقعت في منزلقاته الفلسفات التنظيرية، عبر انقلاب الواقع عليها، حصل بطريقة معكوسة. إذ ما نراه اليوم، كنتيجة لصراعات تعود إلى ما بعد غياب النبيّ مباشرة، يؤكّد أنّ النظرية الاسلامية هي التي انقلبت على الواقع، وأنّ الكتاب هو الذي انقلب على نبيّه بسبب قارئيه. إذ عمل المنظّرون وما زالوا، على إسقاط ما حصل منذ أربعة عشر قرنًا على مجتمعات غير مؤهّلة لاستيعاب مثل هذه النظريات في ثباتها ودون أي تعديل أو تغيير فيها. وأصبح الشعار: «الاسلام هو الحل»، قطعيًّا ويطال المكان عمومًا ومراحل الزمن والتاريخ جمعاء، متناسين أنّ أحكام الاسلام لا تصلح إذا لم يكن هناك مجتمع اسلامي يتقبّلها، وهذا ما وقع فيه الماركسيون والقوميون أيضًا. كل هذا بسبب قراءة النص والمرحلة النبوية قراءة حرفيّة، فأصبح تفسير التاريخ والحياة ماضيًا وحاضرًا ومستقبلا محصورًا في أفق هذه القراءة، وعليها تبنى القيم والثقافات... ما يجعل المنتَج الثقافي منتِجا ثقافيًّا (بكسر التاء هذه المرّة). وهذا ما أفرز قراءاتٍ أيديولوجية جعلت السلطة هدفًا لتعميم الحقائق الأحادية، وهو ما جعل النصّ الديني نفسه مسرحًا لحروب قرائية، أنتجت حروبًا عسكرية ووجودية.

علي نسر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...