سوريه وداعش والبروبوغندا الغربية

16-05-2016

سوريه وداعش والبروبوغندا الغربية

الجمل ـ *إيريك دريتسير ـ ترجمة رنده القاسم:
مع بلوغ الحرب في سورية عامها الخامس ، و قيام الدولة الإسلامية بإحلال الخراب و الدمار عبر الشرق الأوسط و شمال إفريقيا، يبدو واضحا أن المنطقة برمتها تحولت إلى مسرح كبير للصراع. و لكن يجب عدم فهم المعركة كفضاء  مادي موجود على الخارطة فحسب ، بل يوجد أيضا فضاء اجتماعي و ثقافي مماثل حيث تقوم قوى الولايات المتحدة و المملكة المتحدة و الناتو بتوظيف تكتيكات متنوعة بهدف التأثير على مجرى الأحداث و خلق نتيجة تناسب أجندتهم. و ما من تأثير أكبر من ذاك الذي تملكه البروبوغندا.
و بالتأكيد ، إذا كانت الحرب الدائرة الآن في سورية، و الصراعات التي تلت فترة الربيع العربي بشكل عام، تعني شيئا ما  فهو أن قوى البروبوغندا و العلاقات العامة قد  صاغت الروايات و التي أثرت بدورها على الأحداث السياسية.
فإذا أخذنا بعين الاعتبار القوة الهائلة للمعلومات في المشهد السياسي لما بعد الحداثة، فلن يكون من المفاجئ أن كلا من الولايات المتحدة و المملكة المتحدة أصبحتا قادة العالم في ضوء بروبوغندا ترعاها الحكومة و تتنكر بزي الشرعية و التعبير عن الشعب سياسيا و اجتماعيا.
نشرت صحيفة The Guardian  مؤخرا كيف تقوم وحدة البحث و المعلومات و الاتصالات RICU) ) ،التابعة لحكومة المملكة المتحدة ، بالمراقبة و نشر المعلومات و دعم أشخاص و مجموعات كجزء مما تصفه محاولة تغيير السلوك بين الشبان المسلمين، و هذا النوع من الرسالة المضادة  ليس بالأمر الجديد ، و تمت مناقشته لسنوات. و لكن الغارديان تفضح العلاقات الأكثر عمقا بين RICU و المنظمات الشعبية المتنوعة  و حملات شبكة الانترنيت و اختراقات وسائل الإعلام الاجتماعية، إذ تشير مقالتها إلى العلاقة بين RICU التابعة للمملكة المتحدة و شركة اتصالات مقرها لندن اسمها Breakthrough Media Network  و التي أنتجت عشرات المواقع الالكترونية و الكراسات و أفلام الفيديو و الأفلام و صفحات الفيسبوك و مواد على تويتر و محتويات إذاعية على الشبكة ، و كلها تحت عنوان "حقيقة  داعش و مساعدة سوريه". و إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة وسائل الاتصال الاجتماعية و الطريقة التي تنتشر فيها المعلومات (أو المعلومات المضللة) ، فلن يكون من المفاجئ القول أن عددا من الفيديوهات الفيروسية و معلومات تويتر الشعبية و الوسائل الأخرى التي كانت تبدو منحازة إلى الخط المعادي للأسد الذي تقف عنده لندن و واشنطن، هي في الحقيقة نتاج مباشر لحملة البربوغندا ذات الرعاية الحكومية... و كما قال كاتب المقال: " إحدى مبادرات RICU ، و التي تقدم نفسها كحملة توفر النصيحة حول كيفية تمويل اللاجئين السوريين،  كانت عبارة عن محادثات وجها لوجه مع آلاف الطلاب في الجامعة دون أن يعلم الطلاب أنهم في برنامج حكومي. سميت هذه الحملة "مساعدة سوريه" ، و قد وزعت كراسات لسبعمائة و ستين ألف منزل دون أن يدرك المستلمون أنهم تابعون للحكومة".
و لا تصعب رؤية ما تحاول الحكومة البريطانية تحقيقه من جراء هذه الجهود، فهي في سعي للسيطرة على رسالة الحرب على سوريه، و إعادة توجيه النشاط الشعبي  المعادي للحرب للحصول على قبول للمؤسسة السياسية. تخيل للحظة التأثير على طالب جامعي عمره ثمانية عشر عاما دخل لتوه في الحقل السياسي، و فورا يواجه نشطاء محنكين يؤثرون على تفكيره حول طبيعة الحرب، و من هم الأشرار  و من هم الأخيار، و ما الذي يجب عمله. و الآن تخيل هذا مع آلاف و آلاف الطلاب، إن تأثير هذا الجهد عميق جدا.
و لكن الأمر أكثر من مجرد تفاعل مع نشطاء و خلق وسائل بروبوغندا، إنه يتعلق بمراقبة و اختراق شبكات التواصل الاجتماعي . و جاء في المقال: "أحد مهمات RICU الأساسية تكمن في مراقبة المحادثات على شبكة النت بين ما تصفهم بمجتمعات قابلة للعطب. و بعد إطلاق المعلومات،  يقوم العاملون في RICU بمراقبة "منابر رئيسية" للمحادثات على شبكة النت لتقفي أثر "انتقال  الروايات" ، و تظهر إحدى الوثائق التي بحوزة الغارديان أنه من الواضح أن تلك الجهود تتعلق باختراق على شبكة الانترنيت و خاصة عبر وسائل الاتصال الاجتماعية".
و عن طريق الرقابة و التلاعب بهذه الطريقة ، تتمكن الحكومة البريطانية من التأثير ، بطريقة دقيقة و متعمدة، على رواية الحرب في سورية و داعش و حشد من القضايا المتعلقة بكل من سياساتها المحلية و المصالح الجيوسياسية و الاستراتيجية للدولة البريطانية. و هنا يكمن الرابط بين الرقابة و البربوغندا و السياسات.
و لكن بالطبع  المملكة المتحدة ليست وحيدة في هذه الجهود ، فالولايات المتحدة تملك برنامجا مشابها مع مركز الاتصالات الإستراتيجية المضادة للإرهاب ( CSCC ) و الذي يصف مهمته بأنها:
" تنسيق و توجيه و إعلام عن نشاطات الاتصالات الأجنبية الحكومية التي تستهدف الإرهاب و التطرف العنيف. يتألف CSCC من عناصر متداخلة: عنصر التحليل الموحد و الذي يفعل مجتمع الاستخبارات و خبراء مستقلين آخرين من أجل ضمان استفادة المتعاملين مع CSCC من أفضل معلومات و تحليلات متوفرة. عنصر الخطط و عنصر العمليات و الذي يعمل على المعلومات من أجل الوصول إلى طريقة فعالة لمواجهة الرواية الإرهابية. و الفريق الرقمي يستخدم بشكل فعال و صريح اللغة العربية و الأوردو و البنجابية و الصومالية".
لاحظ أن CSCC هو  فعليا محور تبادل معلومات  يعمل على تنسيق البروبوغندا بين   CIA و DIA و DHS و NSA و آخرين. هذه المهمة يتم بالطبع حجبها بمصطلحات مثل : "تحليل موحد" و "خطط و عمليات"، مصطلحات تستخدم للإشارة إلى العناصر المتنوعة في مهمة CSCC.     و كحال RICU، فإن CSCC يركز على تشكيل روايات على شبكة النت تحت ذريعة مواجهة التطرف.و تجدر أيضا ملاحظة أن CSCC أضحى مقرا لبروبوغندا ليست فقط من أجل حكومة الولايات المتحدة، و لكن أيضا من أجل حلفائها الأجانب الأساسيين  (إسرائيل، السعودية، بريطانيا) ، و كذلك منظمات غير حكومية مفضلة مثل مراقبة حقوق الإنسان، العفو الدولية، أطباء بلا حدود و ذلك وفقا لما أوردته صحيفة New York Times  إذ قالت:
" يسخّر  CSCC كل المحاولات الموجودة من أجل مهمة مضادة عن طريق دوائر فيدرالية أكبر تضم البنتاغون و الأمن القومي و وكالات الاستخبار. كما و ينسق المركز و يوسع مهمة مشابهة عن طريق الحلفاء الأجانب و الوكالات غير الحكومية، و كذلك أكاديميين مسلمين بارزين ، و قادة مجتمع و علماء دين من أجل مواجهة الدولة الإسلامية"
و المضي بهذه المعلومة خطوة للأمام، يستدعي للذهن التساؤل حول حقيقة الرواية عن سوريه و ليبيا و داعش و المواضيع المتعلقة. مع كون وسائل الاتصال الاجتماعية و "الصحافة المدنية" قد أصبحتا فعالتين كثيرا في طريقة تفكير الأشخاص العاديين حول هذه القضايا، و يرى المرء نفسه مجبرا على التفكير بمدى التلاعب بهذه الأحداث.
و حتى الآن ثم توثيق عدد كبير من الطرق التي استخدمتها الحكومات الغربية كوسائل للتلاعب في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل صياغة الروايات. و في الحقيقة، قامت السي آي ايه الأميركية وحدها باستثمار الملايين في عشرات المجموعات المرتبطة بالتواصل الاجتماعي عبر سلاحها في الاستثمار المعروف ب In-Q-Tel. و تنفق السي آي ايه عشرات الملايين من الدولارات التي تشكل الأموال الأساسية لتلك الشركات من أجل امتلاك القدرة  على القيام بأي شيء بدء من استخراج المعلومات إلى الرقابة الفعلية.
و الحقيقة أننا نعرف رغبة الحكومات بالتلاعب بالتواصل الاجتماعي منذ سنوات، و في الرجوع إلى شباط 2011، قبل بدء الحربين في ليبيا و سوريه، نشر مقال هام في PC World تحت عنوان :"جيش من أصدقاء التواصل الاجتماعي الوهميين من أجل تعزيز البروبوغندا" و الذي يشرح الأمر بلغة بسيطة قائلا:
"شركة HBGary Federal  المتعاقدة مع حكومة الولايات المتحدة من أجل تطوير برامج يمكنها خلق حسابات شخصية كثيرة مزيفة على شبكات التواصل الاجتماعي من أجل التلاعب بالرأي العام  و السيطرة عليه في قضايا خلافية و ذلك عن طريق تعزيز البروبوغندا. و  يمكن أيضا أن تستخدم كمراقبة للعثور على أشخاص يحملون آراء لا تناسبهم، و من ثم يقود هؤلاء الأشخاص "المزيفون" حملات قذرة ضد أولئك الحقيقيين"..
المراقب عن كثب لحرب الناتو و الولايات المتحدة ضد ليبيا يمكن أن يتذكر الكم الكبير لحسابات تويتر التي ظهرت بشكل غريب، مع امتلاك كل منها لعشرات الآلاف من المتابعين، و مهمتها الحديث عن "الفظاعات" التي ترتكبها القوات المسلحة التابعة لمعمر قذافي، و المطالبة بمنطقة حظر جوي و تغيير للنظام. و بالتأكيد سيتساءل المرء الآن، كما فعل الكثيرون منا في ذاك الوقت، حول ما إذا كانت تلك الحسابات ببساطة مزيفة و خلقت في برنامج كمبيوتر لدى البنتاغون أو أشخاص مأجورين.
مثال حديث عن التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي تم توظيفه (و لا يزال) في الحرب على سوريه/داعش وقع في كانون الأول 2014 تتعلق بمروج بارز لداعش على تويتر  عرف  باسم شاهد شامي (Shami Witness)  إذ كشف أن اسمه مهدي و وصف بأنه "موظف إعلانات" مقره بنغالور في الهند. كان يتم الاستشهاد بشاهد شامي كمصدر معتمد، غني بالمعلومات، حول داعش و سوريه و ذلك من قبل وسائل الإعلام . هذا الخبير السابق في داعش يواجه الآن الاتهام  في الهند بجرائم تضم دعم منظمة إرهابية ،  شن حرب ضد الدولة،  نشاطات غير قانونية، تآمر و التحريض على العداء و تعزيزه.
مثال آخر على تلاعب وسائل الإعلام على شبكة النت حدث في 2011، حين كانت الحرب على سوريه في بدايتها ، حيث برزت صاحبة مدونة كانت تعرف باسم "الفتاة المرحة في دمشق" كمصدر هام للمعلومات و التحليلات حول الوضع في سوريه. و الغارديان، من بين الوسائل الإعلامية الأخرى، وصفتها  "ببطلة ثورة غير عادية استولت على مخيلة المعارضة السورية عن طريق مدونة برزت مع التحرك المعارض المناضل في وجه الإجراءات الصارمة للحكومة الوحشية". و لكن مع حلول حزيران من عام 2011 ، تبين أن "الفتاة المرحة الصادقة " هي خدعة، و تلفيق كامل من قبل الأميركي توم ماك ماستير . و بشكل طبيعي وسائل الإعلام ذاتها التي وصفت "الفتاة المرحة" بمصدر حقيقي للمعلومات حول سوريه تراجعت فورا  و تنصلت من المدونة. و مع ذلك بقيت الرواية أحادية الجانب  عن القمع الإجرامي و المتوحش للناشطين المحبين للسلام في سورية. ففي الوقت الذي فقد المصدر مصداقيته، بقيت الرواية راسخة.
و ربما هذه النقطة الأخيرة هي الأساس، فالتلاعب على شبكة النت مصمم من أجل السيطرة على الروايات ، و بينما تخاض الحرب في أرض المعركة، فإنها تخاض بشكل مواز من أجل عقول و قلوب الناشطين و مستهلكي الأخبار و المواطنين العاديين في الغرب. و تملك كل من المملكة المتحدة و الولايات المتحدة قدرات واسعة من أجل حرب المعلومات ، و لا تخشيا من استخدامها. و لهذا ، يجب ألا نخشى من فضحهما.


*محلل جيوسياسي مقيم في مدينة نيويورك
عن مجلة New Eastern Outlook الالكترونية

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...