تونس: سيطرة على الشارع.. أم تأجيل للغضب؟

26-01-2016

تونس: سيطرة على الشارع.. أم تأجيل للغضب؟

استعادت الدولة التونسية سلطتها على الشارع، وأعلنت سلطات الأمن عن توقيف أكثر من 500 شخص بتهم النهب وتخريب الممتلكات العامة والخاصة.
لكن ثمة أسئلة كثيرة لا تزال معلّقة: هل ثمة أطراف سياسية أججت فعلاً الوضع كما جاء في خطاب رئيس الدولة؟ وهل استخلصت الحكومة الدرس من انتفاضة شباب المناطق الداخلية؟ وهل ثمة إجراءات حكومية عملية حتى لا يعود الشباب إلى الشارع بيأس أكبر؟
 أولى علامات السيطرة على الوضع الأمني وعودة الهدوء تمثلت في تأخير بدء حظر التجول إلى العاشرة ليلا بدل الثامنة. وبرغم استمرار بعض حركات الاحتجاج، الا أن مظاهر الإجرام غابت فعلاً، وتحدثت وزارة الداخلية عن تفكيك شبكات منظمة لأعمال إجرامية وسط سعادة عارمة بنجاح السلطات الأمنية في ضبط النفس عند التعامل مع الشباب الغاضب، والسيطرة على الوضع من دون إيقاع خسائر في صفوف المتظاهرين.
وسط كل ذلك، لم يتحدث أحد عن «أطراف سياسية معترف بها وأخرى غير معترف بها»، كانت وراء تأجيج الوضع وأحداث العنف، كما جاء في خطاب الرئيس الباجي قائد السبسي، لا بل ان العكس هو الذي حدث، إذ اعتبر كمال الجندوبي، الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، أن رئيس الدولة لم يقل ذلك، ولم يقصده، وأن ما نُشر ليس سوى تأويلات صحافيين، حتى ان ما أعلنت عنه السلطات الأمنية من ضبط منشورات منسوبة إلى «حزب التحرير» في إحدى الضواحي الغربية للعاصمة تونس لا يقدّم حتى الآن دليلا قاطعاً على تورط سياسيين في العنف، مع أن الجميع يعرف أن ناشطين في أحزاب معارضة يشاركون بكثافة وعلانية في الاحتجاجات.
في المقابل، أكد الوزير الجندوبي اتهام مهربين كانوا يوزعون الأموال للتحريض على السلب والنهب والاندساس وسط المتظاهرين.
وعموما غلبت مشاهد النهب والسرقة والعنف على الصورة الأصلية، وهي احتجاج شباب المناطق الداخلية التي تعاني من إهمال الدولة وغياب التنمية والشغل وانتشار الفساد، ونجحت جهة ما في تحويل الأنظار عن قضيتهم إلى الحديث عن قضية الإجرام والنهب والمهربين والإرهابيين، ما دفع الكثير من قادة هذه التحركات الاحتجاجية إلى الاعتصام في مقرات المحافظات والمحليات وعزل أنفسهم عن المنحرفين والمشبوهين.
قليلون يتحدثون عن الوعود التي تم إطلاقها في الأيام الأولى، وعما إذا كانت تخص شباب القصرين، أم بكل المحافظات الأقل حظا في التنمية والتشغيل.
المتحدث الرسمي باسم الحكومة التونسية أعلن، حين بدأت الحركة الاحتجاجية، عن توظيف خمسة آلاف شخص، لكن تصريحات وزراء آخرين نفت ذلك، وتحدثت عن صيغ هشة لاستيعاب الشباب العاطل عن العمل.
والحقيقة يعرفها الجميع، فالحكومة التونسية لم تعد قادرة على توظيف المزيد، فكتلة أجور موظفيها بلغت رقماً قياسياً في العام 2016، وهو 13 مليار دينار (....) ضمن ميزانية بحجم 29 مليار دينار (...)، حتى أن الدولة التونسية أصبحت مهددة بخيار الاستدانة الدولية لدفع أجور الموظفين.
وثمة سؤال آخر يُطرح في هذا السياق، وهو ماذا يمكن أن تفعل خمسة آلاف فرصة توظيف في منطقة تعد أكثر من 30 ألف عاطل عن العمل، بينهم أكثر من 16 ألف من حاملي الشهادات العليا؟ وماذا عن انتشار الفساد والرشوة والمحسوبية في ظل إدارة تعاني من البيروقراطية المفرطة والارتباط المرضي بالمركز (العاصمة) في كافة القرارات المتعلقة بالاستثمار والتنمية وإنشاء المشاريع؟
 لا تزال الأصوات التي تتحدث عن السيطرة على الوضع الأمني وإفشال مخططات المنحرفين والإرهابيين أعلى من أصوات المحتجين، والحكومة التونسية لا تقول شيئا سوى مطالبة الشباب بمزيد من الصبر، لأن الوضع صعب جداً.
لكن الشباب الغاضب أصبح يعرف الكثير عن الوضع، وهو لا يحب الحديث عن ثورة ثانية، بل عن «تحقيق أهداف الثورة»، ويعتقد أن المسألة هي مسألة أولويات، وأن انتشار البطالة ليس أقل خطرا من الإرهاب.
فهل استخلصت الحكومة التونسية الدرس؟
 يقول أحد الشباب الغاضب في القصرين إن «الحكومة لم تستخلص الدرس، لقد وجدت 1.3 مليار دينار (650 مليون دولار) لإنقاذ ثلاثة مصارف حكومية على باب الإفلاس بسبب سوء التصرف، وأقرّت مشاريع قوانين عدّة لإعفاء رجال الأعمال والمسؤولين الفاسدين من المحاسبة، ولكنها لا تجد المال للاستثمار في الجهات الفقيرة».
هذا الشباب كان أكثر إيمانا بالوعود الحكومية في العامين الأولين بعد الثورة، وأكثر صبرا على الظروف الصعبة. بعد ذلك، قال الكثير من خبراء الاقتصاد إن الحكومات المتعاقبة لا تفعل شيئا غير رشوة الشباب العاطل بمنح بطالة، يتقاتل لأجلها عشرات الآلاف، وتحوم حول أسماء المسجلين فيها شبهات فساد، فيما استمرت الأسباب الأصلية لغياب التنمية والاستثمار وفرص العمل كما كانت في السابق، كما استمر الفساد والمحسوبية والرشوة و «المضاربة» في المنح والمساعدات الموجهة من المركز أو من المنظمات الدولية إلى هذه المناطق المحرومة طويلا.
ويقول مصدر مسؤول في محافظة القصرين  إن «النتيجة الوحيدة لسياسة منح الوظائف، وأمثالها، هي تعزيز الاتكال على الدولة، وإخماد روح المبادرة والعمل لدى الشباب، والدليل انه حين أعلن المتحدث الرسمي الحكومة عن 5 آلاف فرصة توظيف، وقف عشرات الآلاف من الأشخاص، شباب وشيوخ وانتهازيون، لهم أعمال حرة أمام مقرات الولايات والمعتمديات طمعاً في التسجيل».
كثيرون من زعامات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة يقولون ذلك أيضاً. نواب المعارضة في البرلمان تمكنوا من إفشال فصول في قانون الموازنة تهدف إلى المصالحة مع المسؤولين المتهمين بالفساد ورجال الأعمال المتورطين في ذلك.
يضيف محدثنا من القصرين: «لقد قمنا بالثورة ضد الفساد، فإذا بالفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنى».
الأمين العام لاتحاد أصحاب الشهادات العاطلين عن العمل سالم العياري قال: «هي مسألة أولويات، فالانتشار المذهل للبطالة في أوساط الشباب وغياب الأفق والأمل ليس أقل خطراً من الإرهاب».
وفي ظل هذه الصورة، لا أحد يفهم الدرس الذي يفترض أن تكون الحكومة التونسية قد خرجت به من الأزمة الحالية، إلا إذا كانت تعتبر تسجيل خمسة آلاف شخص في قوائم منح البطالة حلاً، ولكنه في أحسن الحالات، ترحيل للمشكل إلى بضعة أشهر أخرى.

كمال الشارني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...