سوريه...ستالينغراد الشرق الأوسط

12-01-2016

سوريه...ستالينغراد الشرق الأوسط

الجمل ـ * أندريه فيلتشيك ـ ترجمة رنده القاسم:

نهارا و ليلا.. و لسنوات...و قوى ساحقة تهاجم هذه الدولة الآمنة... مهد الحضارة الإنسانية....
مات مئات الآلاف.. و الملايين أجبروا على الهروب للخارج أو التشرد في الداخل... و في مدن و قرى كثيرة، لم يترك بيت واحد سليما..
غير أن سورية، و رغم كل ما حدث..لا تزال واقفة...
خلال السنوات الثلاث الأخيرة عملت تقريبا في كل المناطق المحيطة بسوريه، فكشفت ولادة داعش في المخيمات التي يديرها الناتو في تركيا و الأردن.. و عملت في مرتفعات الجولان المحتلة ، و في العراق، و في لبنان، الدولة التي أجبرت على استضافة أكثر من مليوني لاجئ (معظمهم سوريين).
السبب الوحيد وراء بدء الغرب حملته الرهيبة من أجل زعزعة استقرار سوريه هو أنه "لم يعد يحتمل" تمردها و الطبيعة العلمانية لدولتها. بكلمة أخرى، لم يعد يحتمل طريقة المؤسسة السورية في وضع مصالح شعبها فوق مصالح الشركات متعددة القوميات.
قبل أكثر من عامين ، طالبتني امرأة اندونيسية ،كانت سابقا مدققة أفلامي، بجواب على سؤالها الغاضب: "يموت الكثيرون في سوريه، هل يستحق الأمر هذا؟ ألم يكن من الأسهل و الأفضل للسوريين لو استسلموا و حققوا للولايات المتحدة مطالبها؟"..
تسمرت في مكاني لفترة طويلة... هذه المرأة الشابة كانت دائما تبحث عن حلول سهلة تجعلها آمنة، و آمنة مع فوائد شخصية ذات شأن..و  كحال الكثيرين في هذا الزمن و العصر، من أجل أن تبقى و تتقدم، طورت نظاما معقدا قائما على الخيانة و الدفاع عن النفس و الخداع..
و لكن كيف أجيب على سؤالها؟ ففي نهاية المطاف هو سؤال مشروع..
قال لي إدواردو غاليانو (باحث وروائي وصحفي أوروغواياني): "تعلم الشعوب متى يحين وقت القتال، و لا نملك الحق بإخبارها... و لكن عندما تقرر، فإننا ملزمون بدعمها، بل و حتى قيادتها إذا تقربت منا"...
و في هذه الحالة، الشعب السوري قد قرر...ما من حكومة و لا من قوة سياسية قادرة على تحريك أمة برمتها لأجل   بطولة و تضحية جبارة  بهذا الشكل... فعلت روسيا هذا في الحرب العالمية الثانية، و السوريون يفعلونه الآن....
قبل عامين أجبت بهذا الشكل: "إني أشهد انهيارا كاملا للشرق الأوسط..لم يبق هناك أي شيء راسخ... و الدول التي اختارت طريقها الخاص سوت بالأرض بكل معنى الكلمة،و الأخرى التي خضعت لأوامر الغرب فقدت روحها و ثقافتها و ماهيتها و تحولت إلى ما هو أكثر الأماكن بؤسا على سطح الأرض.. يعلم السوريون أنهم إذا استسلموا سيتحولون إلى عراق آخر أو ليبيا أو حتى أفغانستان"جنود من الجيش العربي السوري في ريف اللاذقية ("سانا")
و لهذا السبب نهضت سوريه ، قررت أن تقاتل لأجل نفسها و لأجل مكانها في العالم...و مرارا و تكرارا أبقت على نفسها عبر انتخابات حكومتها، و اعتمدت على جيشها. و مهما قال الغرب، و مهما كتبت المنظمات غير الحكومية الخائنة, فإن المنطق البسيط أثبت نفسه.
هذا البلد البسيط لا يملك وسائل إعلام قوية لكي يري العالم مدى شجاعته و ألمه..و دائما كان الآخرون من يتحدثون عن كفاحه ، و غالبا بطريقة خبيثة تماما. و لكن لا يمكن أن ننكر أنه كما أوقفت القوات السوفييتية تقدم النازية الألمانية في ستالينغراد ، تمكن السوريون من إيقاف القوى الفاشية للحلفاء الغربيين في مكانها  من العالم..
بالطبع روسيا شاركت بشكل مباشر، و الصين في وضع الاستعداد و إن كانت دائما في الظل. و إيران قدمت الدعم ، و حزب الله في لبنان خاض  ما أصفه دائما بالقتال الأسطوري نيابة عن دمشق ضد الوحوش المتطرفين المخلوقين و المسلحين من قبل الغرب و تركيا و السعودية..غير أن الفضل الأساسي يعود للشعب السوري..
نعم لم يبق شيء من الشرق الأوسط..فالدموع الآن أكثر من قطرات المطر المتساقطة على هذه الأرض التاريخية... لكن سوريه منتصبة..محروقة و مجروحة و لكن منتصبة..
و كما ذكر على نطاق واسع، بعد مجيء القوات المسلحة الروسية لإنقاذ الشعب السوري، أصبح بمقدور أكثر من مليون سوري العودة إلى وطنهم.. بالطبع سيلقون الرماد و الدمار..و  لكنه الوطن....كحال الشعب الذي عاد إلى ستالينغراد قبل سبعين عاما..
إذن لو أني  الآن أجبت على ذاك السؤال ، حول ما إذا كان من الأسهل الاستسلام للإمبراطورية، لقلت: "الحياة لها معنى، و تستحق أن نعيشها، و لكن فقط عند تأمين الشروط الأساسية. المرء لا يخون الحب الكبير، سواء كان حبا لشخص آخر أو حب الوطن أو الإنسانية أو القيم..و إذا هو فعل، سيكون من الأفضل لو أنه لم يولد من الأساس..لذا أقول، إن بقاء الجنس البشري أقدس الأهداف، و لا يعني هذا مكسبا أو سلامة شخصية قصيرة المدى، و لكن بقاءنا كلنا، كشعوب و ككائنات بشرية"
عندما تتعرض الحياة ذاتها للخطر ، ينهض الناس و يقاتلون بشكل غريزي، و في لحظات كهذه تكتب أكثر الفصول أهمية في تاريخ البشرية...و لكن للأسف في لحظات كهذه يموت الملايين..و لكن الدمار ليس بسبب أولئك الذين دافعوا عن جنسنا البشري، إنه بسبب الوحوش الإمبريالية و خدمها...
معظمنا يحلم بعالم بلا حروب، بلا عنف..نريد الرحمة الحقيقية أن تسود الأرض، و كثيرون منا يعملون بلا هوادة للوصول إلى هكذا مجتمع...و لكن إلى أن يتم بناؤه، و إلى أن تهزم كل الأنانية و الجشع و القسوة ، علينا أن نقاتل لأجل شيء أبسط بكثير...لأجل بقاء الشعوب و الإنسانية...
الثمن غالبا رهيب، و لكن البديل فراغ مروع محدق...إنه ببساطة لا شيء.. النهاية.. نقطة انتهى...
في ستالينغراد مات الملايين لذا أمكننا العيش.. لم يبق شيء من المدينة، باستثناء بعض الفولاذ المصهور و الحجارة المبعثرة و بحور من الجثث..أوقفت النازية، و بدأ تراجع التوسع الغربي باتجاه برلين هذه المرة..
الآن سوريه تقف بهدوء، و لكن بقوة و بطولة، ضد الخطط الغربية و القطرية و السعودية و الإسرائيلية و التركية الرامية لإنهاء الشرق الأوسط... و الشعب السوري انتصر ... إلى متى سيستمر هذا لا أدري... و لكن ثبت أنه لا يزال بإمكان بلد عربي هزيمة أكثر الحشود وحشية...

*فيلسوف روسي و  روائي و صانع أفلام و محقق صحفي يحمل الجنسية الأميركية...
عن مجلة New Eastern Outlook الإلكترونية

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...