«بيت القلوب المحطمة» لجورج برنارد شو: الحرب دمار أخلاقيّ متواصل

29-09-2015

«بيت القلوب المحطمة» لجورج برنارد شو: الحرب دمار أخلاقيّ متواصل

بالنسبة الى الكاتب جورج برنارد شو، كانت الحرب العالمية الأولى، الحدث التاريخي الذي أضرّ بالمجتمعات الأوروبية، وخصوصاً بالمجتمع الإنكليزي أكثر من أي حدث آخر. وذلك لأن تلك الحرب حطّمت سلم القيم الاجتماعية بطريقة لا سابق لها في التاريخ. ما من حرب، ومهما كانت قاسية، تمكنت في رأي شو من إحداث ذلك التبدل الجذري في العلاقات بين البشر، وفي العلاقات العائلية خصوصاً. ونحن نعرف ان جورج برنارد شو عبّر عن هذا الأمر في خطابات ونصوص عدة له، لم يتوقف عن بثها، مباشرة أو في أعماله الروائية طوال العقود الأخيرة من حياته. ومع هذا ثمة عمل لشو يبدو لنا الأكثر تعبيراً، عن نظرته هذه، حتى وإن كان علينا ان نلاحظ منذ البداية انه عمل كوميدي، بالكاد تبرز الحرب وتأثيراتها من ثنايا شفافيته. ومع هذا كتب شو هذا العمل، وهو مسرحية «بيت القلوب المحطمة» في العام 1917، وكانت الحرب لا تزال مندلعة، وكثر من الباحثين والمفكرين يَبدون غير قادرين بعد على استخلاص أية نتائج فلسفية أو أخلاقية أو حتى اجتماعية من تلك الحرب. في هذه المسرحية، فعل شو هذا، فبدا ليس فقط متقدماً في الاستخلاص والتحليل على زملائه الكتّاب والمفكرين، بل كذلك أجرأهم في الدنو من موضوعه من دون أن يبدو عليه انه يدنو منه. فالمسرحية تبدو للوهلة الأولى عملاً فكاهياً ينتقد المجتمع كما جرت العادة، خلال الزمن الفيكتوري. وكان شو نفسه من بين المنتقدين، بل في مقدمهم الى جانب أوسكار وايلد. ولكن فيما كان يغلب على أعمال شو السابقة طابع كوني شامل، ها هو الآن يغوص في صلب المجتمع الإنكليزي. وكان هذا جديداً لديه.

> في هذه المسرحية، التي لم ينشرها شو إلا بعد عامين من إنجازه كتابتها، أي في سنة 1919، ندرك منذ البداية ان المكان الذي يعطي المسرحية عنوانها، انما هو منزل يعيش فيه كابتن بحرية سابق، هو القبطان شوتأوفر، البالغ الآن الثمانين من عمره، ويتحمل وزر وحدته غائصاً في ذكريات سنوات البحر المجيدة. وشوتأوفر محب للبحر ولماضيه البحري، الى درجة انه بنى بيته هذا على شكل سفينة. وإذا كان صاحبنا هذا قد آلى على نفسه ان يعيش أقصى حالات التأمل والتركيز، فإنه في الوقت نفسه لا يكف عن شرب الروم، بحيث صار جسده مليئاً به، تماماً كما ان قبو منزله مليء بأكداس من الديناميت راح يجمعها غير دار ان الروم والديناميت يتناقضان تماماً مع مفهوم التأمل والتركيز. بيد ان هذا ليس كل التناقض الذي صوّره جورج برنارد شو في مسرحيته هذه. ذلك ان التناقض بين الأقوال والأفعال، وبين الشخصيات يكاد يكون موضوعها الرئيس. وهو ما نلاحظه منذ البداية في عمل أعلن مؤلفه انه إنما اراد اصلاً ان يستغل ما يرصده في تناقضات العالم والمجتمع، ومن اهتزاز القيم، وضروب التفاوت بين البشر، وداخل كل انسان، حتى يتمكن من تصوير العالم الجديد، عالم الارتكاز الى المواثيق الامتثالية وعالم المحاكاة دون أي قدرة على الابتكار.

> وإذا كان شوتأوفر يعيش منغلقاً على وحدته وهواجسه، فإنه ليس مع هذا، وحيداً في البيت، إذ تعيش معه فيه واحدة من أبنتيه، هزيون المتزوجة من هكتور، زير النساء غريب الأطوار إنما غير المؤذي. ولشوتأوفر ابنة أخرى هي آريان التي كانت تزوجت من دون الحصول على موافقة والدها من نائب الحاكم الإنكليزي لإحدى المستعمرات. وبالتالي حظر الأب على آريان ان تضع قدمها في بيته. غير انها الآن، مع بدء أحداث المسرحية تعود بعد غياب عشرين سنة. في البداية لا يبدو على الأب انه تعرف الى ابنته. لكنه، حين يتعرف إليها، يغضّ بصره عن وجودها في البيت، وكذلك عن وجود أخ زوجها المدعو راندال. اضافة الى هذا، وعلى رغم نفوره المعتاد من الناس، لا يبدو شوتأوفر، راغباً هذه المرة في إبداء أية عدائية تجاه عدد من اشخاص آخرين جاؤوا الى البيت كي يزوروا هزيون، ومنهم الصبيّة الحسناء ايلّلي، وحما هزيون ماتزيني ودان، ومانغان الصناعي الذي يخوض أقسى انواع المضاربات من دون خوف كما من دون وازع من ضمير. وبسرعة نفهم ان مانغان هذا أعار بعض المال لماتزيني كي ينشئ مطبعة، كان مانغان يعرف جيداً انها ستقود الرجل الى الإفلاس. وإذ أفلس ماتزيني حقاً وفشل مشروعه، ها هو مانغان يقبض على الصفقة بنفسها عاهداً بإدارتها هذه المرة الى دان، الذي يحفظ لمانغان جميله بكل براءة معلناً في كل لحظة ولاءه له. وإيلّلي بدورها تحفظ لمانغان جميله إذ تعتبره فاعل الخير الدائم في حياتها. وبالتالي نراها لا تمانع في الإقتران به إن أراد، مضحية من اجله بماريو الغارق في حبها، والذي سبق ان أسرّ إليها في لحظة وجد بتفاصيل حياته الغريبة. وهنا تكون المفاجأة: حين تقدم هزيون الى ايلّلي زوجها هكتور تكتشف ايلّلي ان هكتور هذا ليس آخر غير حبيبها ماريو. وتتوالى المفاجآت على المسكينة ايلّلي حين يأتي مانغان بعد لحظة لإخبارها بكل لؤم وتهكم التفاصيل المتعلقة بالعلاقة بينه وبين ماتزيني، الذي ندرك انه في حقيقة الأمر والد ايلّلي. هنا، أمام كل هذه المفاجآت والإعترافات، لا يعود أمام ايللي إلا ان تلجأ الى سلاح سري تتقن استخدامه، هو سلاح التنويم المغناطيسي. وهكذا تنوّم مانغان مغناطيسياً، وتدفعه الى سلسلة جديدة من الاعترافات، فيعترف وهو منوّم أنه ليس ثرياً على الإطلاق وليس رجل صناعة، بل هو نصّاب يعيش على حساب الآخرين وبفضل الاستيلاء على رساميلهم. في هذه الأثناء يكون هكتور وراندال معاً، قد شرعا في مغازلة آريان ومراودتها عن نفسها. وهما اذ يدركان تنافسهما على آريان يبدآن بعيش غيرة متبادلة ويبدي كل منهما بإبداء أقصى درجات الحذر تجاه الآخر، معبراً عن رغبته في التخلص منه. أما ايللي فإنها، في هذا العالم المليء بالكذب، لا تجد مهرباً من ان تلتفت الى شوتأوفر بأمل ان تعثر لديه على بعض الصدق والعفوية... وتتوسل إليه ان يقبل بها بوصفها «زوجة روحية» له. في هذه الأثناء، يكون لص انتهز فرصة حدوث كل هذه التقلبات والتشابكات، كي يتسلل الى داخل «بيت القلوب المحطمة». لكنه سرعان ما يقبض عليه بالجرم المشهود، فيبكي متوسلاً ويبدي ندمه معترفاً بأنه خاطئ معلناً أنه يريد التكفير عن جرائمه. ولكن بما ان أي واحد من الموجودين لا يشعر انه مرتاح الضمير، لا يبدو ان اياً منهم يريد ان يجازف بأخذ اللص الى البوليس، لعلمه ان هذا في حد ذاته يفتح الباب واسعاً امام أسئلة وأجوبة لا تنتهي. وهنا فيما يكون الكل غارقاً في مناقشة الأمر، تمر طائرات العدو في فضاء المكان... وعلى الفور يلتجئ اللص ومانغان الى الحفرة في الحديقة التي كان شوتأوفر ملأها بالديناميت. وإذ تسقط قذيفة فوق الحفرة يحدث انفجار ضخم يهلك فيه الملتجئان بينما يتمكن الباقون من الفرار ناجين بجلودهم.

> منذ نشر جورج برنارد شو (1856 - 1950) هذه المسرحية، أعلن انه يعتبرها الأفضل بين مسرحياته، لأنها «الأكثر واقعية» و»عصرية»، ولأنه تمكن فيها من التعبير بهدوء، وعلى رغم امتلائها بأحداث متشابكة وبشخصيات قد يضيع المتفرج أو القارئ بينها، عن نظرته الى المجتمع الإنكليزي وخرافاته وأكاذيبه. «لقد أردت ان أعطي هنا صورة واقعية وتمكنت من ذلك». هذا في اختصار ما قاله جورج برنارد شو عن «بيت القلوب المحطمة». مهما يكن فإن هذا القول لا يقلل من شأن بقية أعمال هذا الكاتب الذي من دون أن يتنطح كثيراً في عملية تجديد الأشكال الفنية، جدّد في مضامين النص المسرحي، ولا سيما من خلال اللجوء الى أعلى درجات السخرية حتى في المواضيع الأكثر جدية. وهكذا، بين يديه، تحولت الى نصوص فكاهية، أعمال تتحدث مرة عن نابوليون بونابرت ومرة عن جان دارك. وغاص في عالم المواثيق الاجتماعية المزيفة في أعمال مثل «مهنة مسز وارين»، وسخر من الحروب والعنف في «الأسلحة والإنسان»... موصلاً الحسن الساخر الى مستويات لم يسبق لأي كاتب مسرحي أن أوصلها إليها.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...