«داعش» يحوز قلب الجغرافيا

22-05-2015

«داعش» يحوز قلب الجغرافيا

لم يكسب تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» - «داعش» معركة «التمدد» وحسب، بل أصبح يسيطر على قلب الجغرافيا في كل من العراق وسوريا، مع الإمعان في ما أسماه «كسر الحدود» بين البلدين، وتعميق الربط بين مناطق سيطرته على ضفتيها.
ويثير هذا التقدم، الذي خالف سائر التوقعات التي سادت العام الماضي في أعقاب بعض الهزائم التي لحقت به وتحدثت عن قرب انهياره وعدم قدرته على تنفيذ هجمات واسعة، العديد من التساؤلات بخصوص التداعيات التي يمكن أن تترتب عليه، محلياً وإقليمياً، وعما إذا كان ممكناً احتواؤها والتحكم بتبعاتها، وكذلك بخصوص الأسباب الحقيقية التي منحت «داعش» هذه القدرة على التقدم، رغم أنه يواجه عملياً أربعة جيوش عربية، هي السوري والعراقي والليبي والمصري، بالإضافة إلى التحالف الدولي المكون من حوالي 60 دولة، من دون أن ننسى «جيش الصحوات» الذي تقوده كل من «جبهة النصرة» و «أحرار الشام» و «جيش الإسلام» بمشاركة العشرات من الفصائل المسلحة الأخرى.مسلح يركض خلال الاشتباك مع القوات السورية في حندرات في ريف حلب امس (رويترز)
ظاهرياً، يبدو أن «الدولة الإسلامية» يسير وفق خطط مدروسة بعناية، وأن الانتقال إلى خطة جديدة لا يكون قبل استكمال تنفيذ الخطة التي سبقتها.
وما يثير الاستغراب أن عملية تنفيذ أي خطة، والانتقال منها إلى الخطة التي تليها وصلت إلى درجة نادرة من الدقة، بحيث تعجز عنها أكثر الجيوش حداثة وتنظيماً، فهل نحن أمام تنظيم تفوق بالفعل على هذه الجيوش من حيث التخطيط والتنفيذ؟ أم أن هذه الدقة اللا المتناهية ذاتها هي بقعة الضوء التي من شأنها أن تكشف حقيقة «الدولة الإسلامية» ونوعية ارتباطاته، وطبيعة الدور الوظيفي الموكل إليه للقيام به على صعيد المنطقة؟.
ففي شهر رمضان من العام 2012 أعلن زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي خطة «هدم الأسوار»، وكانت أول مرة يُسمع فيها صوته رغم أنه قاد التنظيم منذ العام 2010، وحدد مهلة عام لتنفيذ هذه الخطة. وبالفعل في الأيام الأولى من شهر رمضان العام 2013 نفذ التنظيم عملية اقتحام سجني أبو غريب والتاجي، وأخرج مئات المعتقلين ومن بينهم قيادات سابقة في التنظيم نفسه وفي تنظيمات «جهادية» أخرى، حيث خرج بعدها بساعات المتحدث الرسمي باسم التنظيم أبو محمد العدناني ليعلن انتهاء خطة «هدم الأسوار» والانتقال إلى خطة جديدة هي «حصاد الأجناد» كما أسماها. ولم يأتِ رمضان العام 2014 إلا وكان التنظيم يسيطر على مساحات شاسعة في كل من العراق وسوريا، في مقدمها مدينتا الرقة والموصل، ليعلن العدناني في أعقاب ذلك عن «كسر الحدود» بين البلدين (سوريا والعراق) ويبشِّر بإعلان «الخلافة الإسلامية»، ثم ظهر البغدادي للمرة الأولى بالصوت والصورة في خطبة الجمعة الأولى من شهر رمضان لذلك العام، وقدم نفسه «خليفة» لكل المسلمين في كل أصقاع الأرض.
واليوم وتحديداً قبل شهر واحد من قدوم شهر رمضان، يحقق «الدولة الإسلامية» تقدماً كبيراً على الأرض، ويسيطر على الرمادي وسط العراق وعلى تدمر وسط سوريا ليربط بين البادية السورية وبين صحراء الأنبار، بعد أن ربط العام الماضي بين مدينة البوكمال في دير الزور ومدينة القائم التي تقابلها من الجانب العراقي.
وفي خطوة لا تخلو من الدلالة، فقد جاء كلا الانجازين بعد ساعات من خطاب للبغدادي دعا فيه المسلمين إلى النفير والانضمام إلى «دولته»، بحيث بات بإمكان أنصار التنظيم أن يقولوا إن خطاب البغدادي فعل فعله.
وما أثار الانتباه في خطاب البغدادي أنه صدر قبل فترة قصيرة من شهر رمضان، فهل هذا دليل على أن البغدادي لن يتحدث إلى أنصاره خلال شهر رمضان المقبل، أم أن التطورات الميدانية اضطرته إلى الخروج بنفسه خصوصاً بعد شيوع خبر اصابته، ليلقي بثقله في الميدان ويحثّ مقاتليه شخصياً على بذل كل إمكاناتهم، لأنه ربما شعر أنه بغير ذلك لن يكون بمقدوره الإعلان عن خطة جديدة، طالما أنه لم ينجح في تحقيق إنجاز ملموس على الأرض. فكان له ما أراد، وبسط عباءة «خلافته» فوق الرمادي وتدمر، مضاعفاً مساحة الأرض التي كان يسيطر عليها، وبالتالي أصبح من غير المستغرب أن يظهر البغدادي أو العدناني في يوم ما من أيام رمضان المقبل كي يعلن عن خطة التنظيم الرابعة، أو على الأقل ليحدد مسار الأحداث، والمنعطف الذي ستسلكه «الخلافة» في خضم التطورات الحاصلة.
ولم يخالف تقدم «داعش» التوقعات التي كانت تتحدث عن قرب انهياره فحسب، بل خالف أيضاً جميع التقارير الإعلامية التي انتشرت مؤخراً حول أولويات التنظيم، وأنه أصبح يضع سوريا في الدرجة الثانية من اهتماماته بعد العراق، حتى أن بعض التقارير تحدثت عن إرسال «داعش» ما يقارب سبعة آلاف مقاتل من سوريا إلى العراق، معتبرة أن هذه الخطوة تشير إلى أن العراق بات هو أولوية التنظيم لا سوريا.
غير أن سيطرة «داعش» على الرمادي وتدمر في وقت متزامن أشارت بما لا يدع مجالاً للشك أن إستراتيجية التنظيم لم تتغير، وأنها تقوم على فكرة «كسر الحدود» والتمدد قدر ما يستطيع، كما تشير إلى أنه ليس من ضمن إستراتيجيته بأي شكل من الأشكال فكرة الانكفاء داخل بلد واحد، وهو ما يقطع الطريق أمام كل المراهنين على أنه يمكن إجبار «داعش» على الانسحاب من العراق والتمركز في سوريا تمهيداً للقضاء عليه هناك بعد الانتهاء من النظام السوري وترسيخ سلطة جديدة في البلاد.
وإذا كانت السيطرة على الرمادي قد أعادت للتنظيم القدرة على المبادرة، وجعلته أقرب من أي وقت مضى، بهذا الشكل المكثف، إلى العاصمة بغداد، فإن سيطرته على تدمر وضعت بين يديه سلسلة طويلة من الخيارات التي يمكنه اللجوء إليها، حيث أتاحت له هذه السيطرة إمكانية العبور باتجاه غالبية أرياف المحافظات السورية ومنها دير الزور وحلب وإدلب وحماه وحمص ودمشق والسويداء وصولاً إلى درعا. وأهمية هذا التطور أنه خلط الأوراق وأدّى إلى إرباك خطط الأطراف كافة في الساحة السورية، لأنه أصبح لزاماً على كل طرف أن يأخذ موقف «داعش» في الحسبان قبل أن يتحرك على الأرض، حيث أن الأخير، وإن كان لا يستطيع أن يتمدد بسهولة في أي اتجاه يريد، غير أنه بات يملك من خطوط الإمداد والمواصلات ما يتيح له التشويش على مخططات غيره، إن لم يكن إجهاضها، وهذا في الواقع أكثر ما يثير قلق الفصائل المسلحة، سواء في القلمون الشرقي أو في ريف حلب، لأنها تدرك أنها باتت تحت رحمة التنظيم أكثر من أي وقت مضى.

عبد الله سليمان علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...