مملكة الغباء

05-04-2015

مملكة الغباء

الجمل ـ بشار بشير: في الفترة التي تسيدت فيها بريطانيا العالم، كان أساس سياستها الدولية تقسيم الدول والشعوب والوحدات الجغرافية وخلق نزاعات (حدودية  وغير حدودية) بين الأقسام التي خلقتها . هكذا فعلت بالصين والهند والبلدان العربية وأفريقيا وحتى في أوروبا عندما استطاعت إلى ذلك سبيلاً . المنطقة الوحيدة التي استثنتها بريطانيا من التقسيم هي وسط شبه الجزيرة العربية أي نجد والحجاز(وتهامة) و أطرافهم .جون فيليبي

وضعت  بريطانيا استراتيجيتها للمنطقة العربية (القسم الأسيوي) وأوكلت أمر تنفيذها لأربعة من ضباط مخابراتها: "بيرسي كوكس" لمنطقة شرق الجزيرة العربية وسواحل الخليج الفارسي . "جون فيليبي" لوسط الجزيرة العربية أي نجد وإلى حد ما الحجاز . "جيرترود بيل" للعراق . "توماس لورانس" لبلاد الشام مع تداخل في الحجاز .  عمل هؤلاء الأربعة بإخلاص على تنفيذ سياسة بلدهم بالمنطقة بإستثناء "لورنس" الذي كان يظن أن بإستطاعته تطوير الخطة الموضوعة بما يزيد من فائدة بلاده دون أن يدري بأنه من أجل مكاسب آنية كان يخرب مكاسب إستراتيجية، والحل كان بإزاحته ثم قتله كرمى لعيون الخطة الكبرى .
" لورنس " كان يرى أن آل الشريف حسين يملكون الصفات اللازمة لكي يكونوا يد بريطانيا في المنطقة العربية ، فهم من أصول " يحترمها " الجميع وهم حكام معترف بهم ويحكمون أقدس البقاع العربية والإسلامية وهم طيّعين ومخلصين لبريطانيا دون نقاش  ماذا تريد بريطانيا أكثر من ذلك ؟ الغريب أنه كان لبريطانيا خطط أخرى أعقد تحديداً فيما يتعلق بمنطقة نجد والحجاز، عملت (بجهد)على خلق حكام جدد بدل استعمال ماهو موجود بين يديها، وهكذا أتت بآل سعود وعملت على منحهم المال والسلاح والشرعية اللازمين للحكم ثم عكست خطتها الدائمة فبدل أن تقسم المنطقة الجغرافية الشاسعة المعروفة بنجد والحجاز وتهامة (وأطرافهم) عملت على توحيدها تحت راية وحكم آل سعود وإيديولوجيتهم الدينية المتطرفة .
هنا تتضح الصورة: إن خلق دولة على أساس ديني إسلامي (وهو أمر لن يعارضه أحد في المنطقة العربية كلها) كان مقدمة وحجة لابد منها لتمرير خلق دولة أخرى على أساس ديني (وإن كان غير إسلامي) . يبدو أن بريطانيا كانت تعرف ماذا تفعل والتضحية بلورنس وآل الشريف حسين كان على صعوبته أمر لابد منه كرمى للهدف الأكبر "إسرائيل"  .
لماذا لم تستعمل بريطانيا آل الشريف حسين أو آل الرشيد بدل آل سعود وهم كانو مؤهلين أكثر من آل سعود للحكم ولم يبدر منهم خروج عن طاعة بريطانيا . السبب الأول أنهم يملكون بعض الشرعية الذاتية التي يمكن أن يستعملوها للإنزياح (ولو قليلاً)عن الأوامر البريطانية وهذا أمر لا يمكن لآل سعود، الذين لايملكون لا شرعية ولا قوة بعيداً عن بريطانيا، فعله . والسبب الثاني هو الإيديولوجيا الوهابية المتطرفة والغبية التي يعتنقونها، فبريطانيا لا يناسبها أن تُمكِّن لإسلام معتدل ومتفاعل مع محيطه في أي بقعة من البلاد العربية يؤكد هذا خلقها في مصر لنسخة حضرية من الوهابية البدوية هي الأخوان المسامين .
بسبب دماء شهدائنا في حرب تشرين 1973 بدأت ثروات مذهلة تتراكم بأيدي آل سعود (لا يظنن أحد أن حظر البترول كان لأسباب قومية أو تحررية) وأصبح بإمكانهم تسويق مشروعهم الإيديولوجي (الوهابية) الذي لا يمانع أربابهم (أميركا وارثة بريطانيا، وإسرائيل ربيبتهم) بأن يعم في المنطقة لأن تعميمه يعني تعميم الجهل والإنغلاق ورفض الآخر، بالمختصر إنتشار الإيديولوجيا الوهابية المنغلقة العنصرية المتعصبة في منطقة فسيفسائية مثل جنوب غرب آسيا هو دمار مؤكد لشعوب هذه المنطقة . لذلك لم تكن أميركا معادية أو محايدة إزاء فكرة نشر الوهابية على العكس كانت مشجعة ومشاركة ويمكن القول أنها كانت مخطِطة ومتبنية لهذا المشروع .
لنشر أي إيديولوجيا يجب أن تنشر أفكارها وتسوِّقها بحيث يقبلها الناس ويقتنعوا بها ويعتنقوها . بالنسبة للوهابية الأمر مختلف قليلاً يجب أن تبدأ بنشر الجهل وبتسطيح عقول الناس وهكذا يصبحوا تربة صالحة لغرس الوهابية فيهم .
استعمل آل سعود ثروتهم المفاجئة لتنفيذ المخطط الخبيث بدؤوأ بشراء وسائل الإعلام (ونجحوا) ثم اشتروا أكثر المثقفين والأدباء والكتاب والصحفيين وأقلامهم، ثم سايروا التقدم التقني فاشتروا التلفزيونات الفضائية، وطبعاً قبل كل شيء كانوا يشترون الشيوخ وعلماء الدين والمؤسسات الدينية (حتى العريقة كالأزهر) والجمعيات "الخيرية" حتى أنهم حاولوا شراء المهرجانات والإحتفالات و البطولات الرياضية، من لم يستطيعوا شراءه تماماً قبلوا بأن ينحرف ولو قليلاً بإتجاههم أو على الأقل أن لايعاديهم علناً، ومن يعاندهم ويشكل خطراً فعلياً عليهم فلا مانع من تصفيته ولو قتلاً (والقائمة هنا تطول).
ولأن المطلوب بالبداية لم يكن التبشير بالوهابية وإنما كما أسلفت: تجهيل المجتمع وتسطيح العقول، فإن المشروع السعودي – الوهابي لم يقتصر على الناحية الدينية بل كان منغمساً في كل مناحي الحياة لإفسادها ولإفساد الفكر والذوق والمنطق . فالسعودية مثلاً هي التي تُقدم لنا قنوات أقرأ والوصال والدعوة وأمثالها... كما تقدم لنا روتانا وغنوة ومزيكا وأمثالها . اي أنها تقدم لنا الطيف " الثقافي " كله من اليمين إلى اليسار, من التطرف الديني إلى الإباحية، لكنها تحرص أن لاتقدم ضمنهم وفيهم ما يفيد الناس أو يرتقي بالفكر، هي تقدم ما يخدم مشروعها، مشروع التجهيل وتسطيح العقل . يعمل آل سعود مافي وسعهم جهراً وخفاءً لكي يسيطروا على حركة التأليف والنشر يعملون بالترغيب والترهيب لكي لا يبقى بالسوق إلا ما يناسبهم، لذلك أصبحنا لا نجد لنقرأ (على قلة ما تقرأ هذه الأمة) إلا كتب الخرافات والتطرف الديني، أو الغث السخيف من كتب التنجيم ووصفات الطبخ وكيف تحافظ المرأة على جمالها (رغم أنه في العرف الوهابي فإن أحداً لن يشاهد هذا الجمال) .
الملك عبد العزيز
وعلى الصعيد الديني عمل آل سعود على نشر شكل ديني يناسبهم دون الإهتمام (مبدئياً) بالمضمون .
كانوا ولا زالوا يريدون أن تلبس النسوة الحجاب كشكل، مهما كان نوع الحجاب ومهما كانت ممارسات لابسة الحجاب . كانوا ولا زالوا يريدون أن يلتحي الرجال وأن يتواجدوا كل جمعة بالمسجد ولو نياماً، وعملوا أن لايسمعوا من الخطباء في المساجد ومن الوعاظ في الدروس وعلى وسائل الإعلام إلا على دروس الغيبيات والخرافات وتكذيب وتكفير العلم والمنطق.  كانوا ولا زالوا يريدون من المسلمين الإهتمام بشكل تشبيك اليدين اثناء الصلاة دون الإهتمام بالصلاة نفسها و بما يجب أن ينتج عنها . يريدون أن أن يكبر الناس الله لفظاً ويقزمونه فعلاً، ففي المفهوم الوهابي: الله خالق الأكوان القادر الواسع العليم الحكيم، سيركز إهتمامه على بضع شعيرات ينبتن بين حاجبي إمرأة، سيتابع كل نامصة ومنمصة لهذه الشعيرات اللاتي يزدن بالأهمية عن تشكل المجرات وتوسع الكون . أصبحت الآلة السعودية - الوهابية واسعة جداً، مصادر تقافتنا ومعلوماتنا وجزء من مصادر حياتنا أصبح منضوياً في هذه الآلة التي عملت ببطء و خبث ومنهجية وكان أساس عملها ليس التعليم والتطوير بالطبع وليس حتى غرس مفاهيم معينة فهذا هدف ثانوي حالياً، أساس عملها كان التجهيل وتسطيح العقل . فعندما ينجح هذا الهدف في أكبر جزء من المجتمعات المستهدفة يصبح من السهل انتقاء نسبة لا بأس بها من أفراد هذا الجزء ليكونوا " وهابيين " .
المثال على النجاح الجزئي لخطة آل سعود بتسطيح الأدمغة تمهيداً لإستعمال أصحابها كما يريدون شهدناه عندما وضع أساتذة جامعات القدور على رؤوسهم (بعد صلاة العشاء) وطفقوا يدقون عليها بالملاعق، كوصفة مؤكدة تؤدي لإنشقاق الأرض وإبتلاعها للرئيس السوري وأتباعه (حصراً) . وتابعناه في أعداد الوهابيين الذين قدموا من مختلف أصقاع العالم ليقاتلوا ويَقتلوا ويُقتلوا في سورية، إمتثالاً لفتوى لا يناقشونها ولا يملكون لا القدرة ولا الأداة على التفكير بها، عقلهم المسطح أصبح قادراً على الإمتثال للأوامر وعلى الترديد الببغاوي للخرفات فقط .
 القطبة المخفية في مشروع آل سعود   كانت موجوده في أساسه: أي أخلاق وأي ثقافة وأي إسلام يريد آل سعود والوهابيون نشرههم . هم بأسم الإسلام يريدون تعميم الغباء ونشر الكراهية، كراهية الآخر اياً كان و يخص الوهابيون النساء بجرعة اكبر من الكراهية حتى لو كن وهابيات (في هذه الجزئية بالذات نحن بحاجة لدراسات نفسية عميقة فدرجة كراهية الوهابيين للمرأة و التناقض العجيب بالتعامل معها هو حالة غير مسبوقة بالمجتمعات البشرية) .
نجح آل سعود في الجزء الأول من خطتهم أيما نجاح والدليل مجتمعات كاملة تعلن ولائها لفكرهم (سواء وعت ذلك أم لم تعيه) عبر تحجيب النساء و إرخاء ذقون الرجال بغض النظر عن مدى إقتناعهم بمنظومة الأخلاق الإسلامية أو حتى معرفتهم بها . وهذا الشكل الخارجي للنساء والرجال كان مطلوباً جداً و يصر عليه الوهابيون لأنه يُظهر (ولو دعائياً فقط) مدى انتشارهم بالمجتمع ويصبح كمبدأ الدومينو مما يزيد من حجم الدعاية . ثم ظهر مدى مسح الأدمغة وحالة التبعية التي أصابت المجتمع عندما أخذ الناس يصدقون كل ما تقدمه لهم الآلة الوهابية، من العلاج ببول البعير إلى نكاح الوداع إلى رضاع الكبير وغيرها كثير من الخزعبلات، هنا أتضح أن المشروع قد أكتمل وأصبح أصحابة  قادرين على إكمالة أو استعماله بشكل فج ومباشر أي بالقوة .
لم يحسب أحد (إلا بعض المؤمنين) حساب بذرة الحضارة الأبدية الموجودة في السوريين التي ظن كثيرون أنها اندثرت لكن أتضح أنها قررت المقاومة ونجحت خاصة في معركة السنين الأربع الأخيرة  بالتصدي للمشروع الوهابي، رغم أن قلة تعهدتها بالرعاية والسقاية، مالم تصبح هذه القلة أكثرية واعية فنحن أمام المشهد الأخير للحضارة السورية التي سادت لأكثر من ستة آلاف عام (منذ ماقبل إختراع الكتابة حتى حوالي 700 ميلادي) و تدهورت لألف وأربعمئة عام، وتقف اليوم على المفترق الأخطر .





التعليقات

لن تندثر بذرة الابدية في سوريا وليس فقط بذرة الحضارة السورية بل هي اكثر من بذرة للحضارة هي بذرة الابدية وليس اي ابدية هي الابدية السورية ولقد تعهدها على مدى اربعين سنة مضت سياسة الدولة السورية ربما ليس بالصيغة والاخراج المطلوبين لما يتطلبه هذا الزمان وهذه التحديات ولكن كانت كافية في حينها بدءا من التلفزيون السوري الذي لم يعد يعجب احد وهو من اهم تلك الادوات الى الاذاعة السورية الرسمية. لقد حافظا على مسلمات تعكس الخط الفكري الذي كان يرعاهما ومنها ثبات مسلمة ان العدو الاول والاخير لنا هو اسرائيل - مسلمة ان فلسطين مغتصبة - مسلمة انه لا يجوز باي شكل ولم يحدث لمرة ان نصرت سوريا دولة عربية على دولة عربية واقصد بالنصر استعمال دولة عربية القوة العسكرية تجاه دولة عربية اخرى . حقيقة لا يهم اسم الدول اذا كانت سعودية ام غيرها المهم مضمون ادائها المهم قائمة اولوياتها فاكثر ما ضلل الشريحة الاكبر من الشعوب هي العناوين والشعارات الطنانة وحجب ترجمة تلك العناوين والشعارات عن تلك الشعوب . الدولة الوحيدة وهذا ثابت التي كانت ولا زالت منسجمة مع ما ترفعه من شعارات وعناوين تعتمدها ومع سياساتها وهي امينة تجاه تعهداتها لشعبها هي سوريا ولن تكون الا منتصرة بارادتها منتصرة وبأدوات تلك الارادة من قائد وجيش وشعب

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...