هل من عداء للسامية في أوروبا؟

28-02-2015

هل من عداء للسامية في أوروبا؟

الجمل- *يوري أفنيري- ترجمة: رندة القاسم:
العداء للسامية يتصاعد، و في كل أوروبا يطل بوجهه القبيح. اليهود معرضون للخطر في كل مكان، عليهم العودة إلى وطنهم إسرائيل بسرعة قبل أن يفوت الأوان.
صحيح ؟؟ أم غير صحيح؟
انه هراء، فعمليا كل الحوادث المرعبة التي وقعت في أوروبا مؤخرا، و خاصة باريس و كوبنهاغن، و التي قتل فيها يهود أو تعرضوا للهجوم، لا علاقة لها بالعداء للسامية.فلسطينيون يحملون علم بلادهم خلال مواجهات مع قوات الاحتلال في الضفة الغربية المحتلة أمس (أ ف ب)
كل الهجمات شنها  شبان مسلمون، معظمهم من أصول عربية . و هي جزء من الحرب الدائرة بين الإسرائيليين و العرب و لا علاقة لها بالعداء للسامية. انها لا تنتمي الى مذبحة كيشيناو و لا علاقة لها ببروتوكولات حكماء صهيون.
نظريا ، لفظ عداء العرب للسامية يحمل تناقضا، فالعرب ساميون ، و ربما هم أكثر سامية من اليهود، فالأخيرون امتزجوا لعدة قرون مع غير اليهود. و لكن بالطبع الصحفي الألماني فيلهلم مار، الذي اخترع لفظ العداء للسامية عام 1880 (بعد سبع سنوات من ظهور لفظ السامية) لم يلتق بأي عربي في حياته، و بالنسبة له الساميون الوحيدون هم اليهود ، و حملته كانت ضدهم فقط.
أدولف هتلر اتخذت عنصريته  منحا خطيرا و طبقها على كل الساميين، فهو لم يكن يحتمل العرب أيضا. و خلافا للأسطورة لم يحب مفتي القدس الكبير الحاج أمين الحسيني، الذي هرب الى ألمانيا. و بعد لقائه مرة واحدة لالتقاط صورة، الأمر الذي رتبته آلية البروبوغندا النازية، لم يوافق على لقائه ثانية أبدا.
اذن لماذا أطلق شبان مسلمون في أوروبا النار على يهود بعد مقتل رسامي كاريكاتور وجهوا اهانة الى النبي؟
يقول الخبراء أن السبب الأساسي هو كرههم العميق لدولهم المضيفة، حيث يشعرون (و هو أمر صحيح) بأنهم محتقرون و مهانون و يعاملون بشكل عنصري. في دول مثل فرنسا و بلجيكا و الدانمرك و دول أخرى كثيرة، و كان غضبهم الشديد بحاجة الى منفذ.
و لكن لماذا اليهود؟
يوجد على الأقل سببان رئيسيان:
الأول محلي، فأغلب المسلمين الفرنسيين مهاجرين من شمال إفريقيا. و خلال الكفاح الشديد من أجل استقلال الجزائر، وقف معظم اليهود الجزائريين الى جانب نظام الاستعمار ضد مقاتلي الحرية المحليين. و عندما هاجر كل اليهود و معظم العرب من الجزائر الى فرنسا، حملوا قتالهم معهم. و بما أنهم يعيشون جنبا الى جنب في أحياء الأقليات المكتظة حول باريس و أمكنه أخرى، فان كرههم المتبادل لا يزال حيا و غالبا ما يؤدي إلى العنف.
السبب الثاني، هو الصراع الحالي العربي الصهيوني و الذي بدأ مع هجرة اليهود الكبرى الى فلسطين العربية، و أتبعها قائمة طويلة من الحروب هي الآن في أوجها. و عمليا، كل عربي في العالم، و معظم المسلمين متورطين عاطفيا في هذا الصراع.
 و لكن ما علاقة اليهود الفرنسيين بصراع بعيد عنهم؟
عندما لم يفوت بينيامين نيتينياهو الفرصة ليعلن أنه يمثل كل اليهود في العالم، جعل كل اليهود في العالم مسؤولين عن سياسات اسرائيل و أعمالها.
وعندما تقوم المؤسسات اليهودية في فرنسا و الولايات المتحدة و كل مكان بربط نفسها، بشكل كامل و دون محاكمة منطقية، مع السياسات و العمليات في إسرائيل، مثل حرب غزه الحالية، فانهم يحولون أنفسهم اختياريا الى ضحايا محتملين لأعمال انتقاميه.و هذا ما قامت به  القيادة اليهودية الفرنسيه (CRIF) .
و أي من هذه الأسباب لا يرتبط بالعداء للسامية، فالعداء للسامية جزء متمم للثقافة الأوروبية.و وضعت الكثير من النظريات لشرح هذه الظاهرة غير المنطقية، التي وصلت تخوم مرض فكري جمعي.
و أنا أفضل النظرية الدينية ، فعبر أوروبا و الآن في أميركا ، يسمع الأطفال المسيحيون في سنواتهم الأولى قصص العهد الجديد. و يتعلمون أن الرعاع اليهود كانوا يصرخون مطالبين بدم المسيح، المبشر  النبيل و اللطيف، بينما الحاكم الروماني ، يحاول جاهدا انقاذ حياته. فيظهر الروماني كشخص انساني محبب، بينما يصور اليهود كرعاع أشرار حقيرين.
كما أن المسيحية المبكرة كانت طائفة صغيرة مضطهدة في أورشليم اليهودية، و ما زال حقدهم حيا حتى أيامنا هذه .و صورة اليهود الأنذال المطالبين بموت المسيح انطبعت باللاوعي في أذهان عدد كبير من المسيحيين و  كانت تثير الكره لليهود في كل جيل جديد، و أسفرت عن الكثير من الذبح و القتل.
أما في التاريخ الإسلامي فلم يكن هناك شيء مشابه. فالنبي شن بضعة حروب صغيرة مع القبائل اليهودية المجاورة، غير أن القرآن يضم تعليمات صارمة حول التعامل مع اليهود و المسيحيين، أهل الكتاب. اذ يجب أن يعاملوا بعدل و يتم إعفاؤهم من الواجب العسكري مقابل ضريبة.و خلال العصور وقعت هجمات نادرة ضد اليهود (و ضد المسيحيين) هنا و هناك، و لكن اليهود في الأراضي المسلمة لقوا معاملة أفضل بكثير من تلك التي لقوها في الأراضي المسيحية.
و لم لو يكن الحال كذلك، لما وجد  "عصر ذهبي" من التعايش الحضاري المسلم- اليهودي في اسبانيا القرون الوسطى. و لكان من المستحيل أن تقبل الإمبراطورية العثمانية و تستوعب مئات الآلاف من  اليهود اللاجئين من اسبانيا، المطرودين من قبل ملكيهم الكاثوليك، فيرديناند و ايزابيلا. و لما أضحى المفكر الديني اليهودي الشهير موسى بن ميمون الطبيب الشخصي و مستشار السلطان المسلم الشهير صلاح الدين الأيوبي.
الصراع الحديث بدأ كصدام بين حركتين قوميتين ، الصهيونية اليهودية و القومية العربية العلمانية، و كان يحمل نغمة دينية طفيفة جدا. و كما حذرنا أنا و أصدقائي عدة مرات، انه يتحول الآن الى صراع ديني، ما يشكل محنة ذات عواقب خطيرة محتملة.
و لا شيء مما حدث مؤخرا له علاقة بالعداء للسامية، إذن لماذا تقوم كل آلية البروبوغندا اليهودية، بما فيها وسائل الاعلام الاسرائيلية، بالتأكيد على أن أوروبا تشهد تصاعدا كارثيا لعداء الساميه؟ من أجل مناشدة اليهود الأوربيين القدوم الى اسرائيل .
و بالنسبة للمؤمنين بالصهيونية الحقيقيين ، فان وصول أي يهودي إلى اسرائيل انتصار ايديولوجي. بغض النظر عن أن مهاجرين جدد في اسرائيل، و خاصة من دول مثل اثيوبيا و أوكرانيا، يتعرضون للاهمال.و كما قلت مرارا: "الاسرائيليون يحبون الهجرة و لكن يكرهون المهاجرين".
و في أعقاب أحداث باريس و كوبنهاغن الأخيرة ، ناشد نيتينياهو علنا اليهود الفرنسيين و الدانمركيين لحزم أمتعتهم و القدوم فورا الى اسرائيل من أجل سلامتهم. و بغضب احتج رئيسا الوزراء في الدولتين على  هذه المناشدة، و التي تشير الى أنهما غير قادرين و لا مستعدين لحماية مواطنيهم. و أعتقد أن ما من قائد يرضى بأن يقوم سياسي أجنبي بمناشدة مواطنيه للمغادرة.
هناك شيء خرافي متعلق بهذه المطالبة، فكما قال البروفيسور يشعياهو ليبوفيتش، اسرائيل المكان الوحيد في العالم حيث يعيش اليهود في خطر مستمر، مع اندلاع حرب كل عدة سنوات و وقوع حوادث عنف يوميه. و لكن بعد الأحداث الدرامية الأخيرة، قد يغادر الكثير من اليهود ذو الأصول الشمال افريقية فرنسا. ربما لا يأتون الى اسرائيل، فالولايات المتحدة و كندا و استراليا تشكل بديلا مغريا.
و هناك أسباب ملائمة كثيرة من أجل قدوم يهودي الى اسرائيل: المناخ المعتدل، اللغة العبرية، العيش مع اليهود، و لكن الهروب من العداء للسامية ليس واحدا منها.
هل هناك عداء حقيقي للسامية في أوروبا؟ افترض أن الحال كذلك.
في الكثير من الدول الأوروبية يوجد مجموعات مغالية في قوميتها قديمة و جديدة ، تحاول جذب الحشود عن طريق كره الآخرين، و اليهود هم الآخرون، مجموعة دينية عرقية مشتتة في دول كثيرة ، تنتمي و لا تنتمي لدولها المضيفة، ذات معتقدات و طقوس أجنبية. و كل الحركات القومية الأوربية التي انبثقت في القرنين التاسع عشر و العشرين كانت بشكل أو بآخر معادية للسامية.
و كان اليهود و لا يزالون كبش الفداء المثالي لفقراء أوروبا. و قال عالم الاجتماع الألماني العلماني أوغست بيبل(غير اليهودي)  : "العداء للسامية هي اشتراكية الأغبياء".
و مع الهبوط الاقتصادي المتتالي و اتساع الهوة بين الفقراء المحليين و الأغنياء ذي القوميات المتعددة، تتزايد الحاجة الى كبش الفداء، و لكن لا أعتقد بأن هذه المجموعات المهمشة ، و ان كان بعضها غير مهمشا على الاطلاق، تشكل موجة حقيقية معادية للسامية.
غير أن الهجمات في باريس و كوبنهاغن لا علاقة لها بالعداء للسامية على الاطلاق.


*كاتب إسرائيلي و ناشط من أجل السلام
عن موقع Counter Punch

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...