عن عبد اللطيف عبد الحميد وباسل الخطيب والمؤسسة العامة للسينما

02-02-2015

عن عبد اللطيف عبد الحميد وباسل الخطيب والمؤسسة العامة للسينما

منذ انطلاقتها كانت المؤسسة العامة للسينما السورية موئلاً للمعارضة السلمية فعلياً، إذ أمنت وظيفة دائمة للمخرجين السوريين الذين ابتعثوا للدراسة خارج القطر على حساب الدولة ثم عادوا لينتجوا أفلاماً مميزة ضد النظام، وقد أعطوا منذ ربع قرن دروساً إنسانية عن علاقة الريف بالمدينة وعلاقة المؤسسات الحكومية بهما، حيث أنتجت مؤسسة السينما أفلاماً معارضة لنظام الدولة التي تنتمي إلى إحدى وزاراتها.. أفلاماً سخرت من المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، فأظهرت الدولة مدى قدرتها على استيعاب مخرجيها وكتابها المتمردين على نظامها وحكوماتها المتعاقبة، وكانت علاقتها بصقور المؤسسة علاقة مكاسرة أنتجت أفلاماً جيدة حاز صناعها جوائز فنية من كل المهرجانات الدولية، رغم أنها كانت أفلاماً خاسرة في شباك التذاكر، والإستثناء الوحيد كان بعض أفلام المخرج عبد اللطيف عبد الحميد التي أثبتت جماهيريتها .. وقد أفاد كلا الطرفان المتصارعان: الحكومة والمخرجين الخارجين عليها، من بعضهما، كما لو أنهما حماية وكنّة تعيشان في بيت النظام مع الإبن ـ الزوج .. حتى بعد التمرد الدامي الذي تعيشه سورية بقي مخرجو مؤسسة السينما معارضون سلميون، إلا واحداً منهم خرج ليدعم المعارضة الخارجية وعصاباتها المسلحة وأقصد المخرج أسامة محمد الذي أعماه حقده عن رؤية الحقيقة آنفة الذكر، والتي هي مجرد مقدمة للحديث عن الفيلمين الأخيرين للمؤسسة العامة للسينما (الأم) للمخرج باسل الخطيب و (العاشق) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، اللذان عملت المعارضة السورية في الخارج على منع عرضهما في مهرجانات الدول (الصديقة) لهم في كراهيتنا، على الرغم من أن "العاشق" ينتقد استبداد حكم البعث وأخطاء النظام بفنية عالية حافظت على مستوى السينما التي قدمها عبد الحميد خلال مسافة ربع القرن من عمر المؤسسة التي شكلت منتدى لآراء اليسار السوري المعارض قبل أن تدهم الوطن فلول المعارضة السلفية التي أعادت سورية إلى عصور الانحطاط العربي.. ففيلم العاشق في قصته التي هي قصة مخرج في المؤسسة العامة للسينما تؤكد ما قلناه، في معاناة البطل من سطوة متشددي البعث على الرغم من أنه ابن فلاح بعثي مزمن ظل يلهج بالوحدة العربية حتى آذاه مرض السكر وخيانات العرب لحلمه فمات صوته في جوفه حتى لم يعد قادراً على ترداد الشعار الذي يفتتح به صباح تلاميذ الأمة ومواطنيها: (أمة عربية واحدة).. أنها صورة جدلية للنظام الأبوي القاسي للبعث الذي دَرَّس كل أبناء الوطن مجاناً ـ منذ نصف قرن ـ إلى مابعد المرحلة الجامعية، حيث أوفد أبناءه المتفوقين على حساب الدولة ليطوروا اختصاصاتهم ويبدعوا فيها، كما هو حال مخرجي المؤسسة العامة للسينما الذين عادوا إلى حضن الأب القاسي مجدداً في نقلة جديدة للصراع بين الأبناء والآباء حول فلسفة الحياة المتغيرة أبداً، حيث الزمن يتجمد عند الآباء ويبقى سائلاً بين أيدي الأبناء..
ولقد جاءت قصة فيلم العاشق مطابقة لحكاية المؤسسة العامة للسينما، فيلم داخل الفيلم وحكاية داخلية تشرح الرواية الخارجية العامة، وقد رأيت نفسي فيه، كابن لبعثي مزمن أيضاً، أكل (النظام الداخلي) للحزب حياته كما أكل الحزبيون خبزه ودجاجه ثم ظلموا سلالته.. وطبعاً لن أعيد هنا سرد الفيلم الذي وجدت حكايتي فيه لأن شرح اللوحة التعبيرية يفسدها وأترك لكم الحكم بعد مشاهدته، لو تم عرضه جماهيرياً..
وأنتقل إلى فيلم (الأم) لباسل الخطيب، الفلسطيني الذي ولد سورياً، وخصص إبداعه السينمائي لسرد حكاية سورية في أجزاء أفلامه التي تبدو امتداداً زمنياً لبعضها بعضاً بحيث يمكن القول أن فيلم (الأم) يشكل الجزء الثاني لفيلم (مريم) إذ يصور باسل الخطيب كفاح السوريين عبر حياة بطلاته، منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب العالمية الثالثة التي تجري على أرض سورية، مع اختلاف الخطيب عن باقي مخرجي المؤسسة في أنه ليس مشغولاً بمسألة المعارضة والاختلاف بقدر ما هو مشغول بالتأريخ لنضال المواطن السوري ضد كل أشكال العدوان التي تعرض لها منذ قرن من الزمان وصولاً إلى الحرب السورية في فيلم (الأم) الذي يدين قسوة الجميع ضد بعضهم وأنفسهم في الوقت ذاته، الجميع الذين يصدرون قسوتهم  باسم المحبة، محبة سورية التي باتت ديناً يشبه الإسلام، حيث لكل امرئٍ سوريته وإسلامه وآيدولوجيته المختلفة عن الآخر الذي يحبه ويكرهه في الوقت ذاته.. تماما كعائلة من القنافذ تعاني برد الشتاء، فلاهي مرتاحة إذا اقتربت لتدفئ بعضها بسبب الشوك الذي يغلفها، كما تشعر ببرودة أكبر إذا هي ابتعدت عن بعضها، ولاعجب، فقد كان قابيل وهابيل سوريان أيضا، قبلما توجد سورية، ومازال السوريون يزورون ضريح القتيل في شعاب قاسيون دون أن يتعظوا، حتى ليمكن القول أن قبائل الغربان أبرع منّا في التواصل وتنظيم مجتمعاتها ؟!
فسينما باسل الخطيب تخرج عن تيمة أفلام المؤسسة عموماً بأنها مشغولة بوصف الزمن السوري أكثر من تقديم شهادة إدانة للنظام، وهو يقدم قصة الآخرين لا قصته الخاصة التي اعتمدها مخرجو المؤسسة خلال ربع قرن من الجوائز الدولية بعيداً عن متابعة المشاهد السوري لها، ومع ذلك فقد حوربت أفلامه مؤخراً في المهرجانات التي تسرب إليها نفوذ المعارضة (المسلحة) لمجرد أنه لا يقدم سورية التي زيفوا صورتها أمام العالم خلال أربع سنوات من الكذب ولا زالوا يفعلون..

إن أعمال مؤسسة السينما تلخص حكايتها ، وحكايتها تختزل حكايات مخرجيها في صراعهم الفني مع النظام، صراع جيل الأبناء مع جيل الآباء في الأسلوب والطرح وصولا للوطن الأبهى، إلا الذين كفرونا وذهبوا مع أعدائنا التاريخيين وأقصد فرنسا والعثمانيين والسعوديين .. فهؤلاء خونة لا معارضين، إذ لم نسمع في تاريخ معارضات العالم أحداً طالب بقصف بلاده سواهم، ولن ننساهم ..لن ننسى..

نبيل صالح


تنويه: يعرض فيلم الأم في سينما دمشق حالياً وننتظر عرض فيلم العاشق بإذن الله والرقابة.. العربية الواحدة..


التعليقات

يحق للبعث أن يفخر بهذه المؤسسة ويحق لنا أن نفخر بهؤلاء المناضلين فعلاً الذين أشادوا هذا الصرح الفكري الشامخ. ألف تحية لكل من ذكرتهم "ما عدا ذاك الواحد الساقط" وكل الإحترام والمحبة لكم ولقلمكم الحر النبيل.

شكرا أستاذ نبيل ... وصف دقيق وتشخيص رائع ... للأسف لا ينقص بعض المقفين غير حب الوطن الذي أعتقد أنهم يختلفون كثيرا على تعريفه ... المطلوب هو الحب أولا ثم النقد ... دام قلمك كلما قرأت لك كلما زاد احترامي لك ... دامت سوريا بأهلها ومحبيها

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...