عن سوريا وحلفائها: انتصار «لعبة الانتظار السورية»

20-12-2014

عن سوريا وحلفائها: انتصار «لعبة الانتظار السورية»

شكلت زيارة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، لموسكو، واستقباله من قبل الرئيس الروسي، لأول مرة، مناسبة للتمعن في علاقة دمشق بحلفائها، ولا سيما بعد أربع سنوات هي عمر الأزمة السورية. وخلال السنوات الماضية، أشار العديد من المحللين، وتحديدا الغربيين منهم، إلى أن سوريا قد أصبحت معتمدة، بشكل حيوي، على حلفائها، وأن هذا الاعتماد قد يكون السبب في تقلص دورها لتتحول إلى «تابع مطيع»، ولتفقد دورها السابق كحليف صاحب قرار مستقل. دراسة مكانة سوريا بين حلفائها اليوم ليست بالمسألة الثانوية. فالأزمة السورية، في شق كبير منها، كانت تجسيداً لمساعي خصوم دمشق لإضعافها وتحجيم دورها الإقليمي، أكثر من مسعاهم لإسقاط النظام السوري بحد ذاته. فالمطلوب كان إما نظاماً بديلاً منقاداً أو تحجيم النظام الحالي وإلزامه حدود بلده. الحكم على نجاح هذه المساعي يعتمد، بشكل كبير، على معرفة موقع سوريا بين حلفائها: فاستمرارها بالاحتفاظ بنفس الموقع القوي بين الحلفاء يعني استمرار ممارستها دورها الإقليمي ويعني، بالتالي، أن المسعى المعادي قد فشل. وفي المقابل، فإن ضعف سوريا، وتقلصها لتصبح مجرد «تابع» لأحد حلفائها، يعني أنها ستتحول إلى «ورقة» بيد ذلك الحليف وبالتالي ستكون، عملياً، قد ضعفت في وجه الخصوم، وتحقق المطلوب.
تأخذ مسألة الموقع بين الحلفاء، الدوليين والإقليميين، أهمية خاصة في حالة سوريا، وهي الدولة الصغيرة الحجم والمتواضعة الموارد والتي نجحت منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، في انتزاع دور إقليمي كبير مستفيدة من شبكة علاقات دولية، تبدو متناقضة إلى حد ما. ولعل العامل الرئيسي الذي سمح لها بممارسة هذا الدور هو، من ناحية أولى، حرصها على إبقاء شعرة معاوية مع مختلف الأطراف، ومن ناحية ثانية، عدم السماح لحلفائها بالتدخل في سياساتها الداخلية والخارجية. فاستطاعت الجمع بين المتناقضات: أولاً عبر الحصول على الدعم شبه المطلق من الاتحاد السوفياتي وثانياً عبر الإبقاء على قنوات مفتوحة مع الولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، وثالثاً عبر الاحتفاظ بالقرار السيادي، في الشؤون المحلية والإقليمية. فعلى سبيل المثال، رفض الرئيس الراحل حافظ الأسد الضغوط السوفياتية، في مطلع السبعينيات، لتوقيع اتفاقية صداقة بين سوريا والاتحاد السوفياتي، ودخل الجيش السوري لبنان مخالفاً رغبة لاتحاد السوفياتي، الذي عبر عن غضبه بوقف واردات السلاح الجديد، والذخيرة، وقطع الغيار للجيش السوري. لكن السياسة السورية أثمرت عن قبول الاتحاد السوفياتي بدور سوريا في لبنان وتوقيع اتفاقية صداقة، مطلع الثمانينيات، ليس فيها ما يقلق دمشق. ولكن هل تغير الأمر اليوم؟ هل فقدت سوريا استقلالها وأصبحت تابعة أو، على الأقل، معتمدة إلى حد كبير على حليفتيها روسيا وإيران؟
 إن ظروف الأزمة السورية، والحصار الديبلوماسي والاقتصادي، دفعا سوريا بالفعل إلى الاعتماد بشكل متزايد على حليفيها الروسي والإيراني، فلا يمكن إنكار دور المعونات الاقتصادية والعسكرية الروسية والإيرانية في مساعدتها على الصمود. ولكن لا ينبغي التسرع والاستنتاج أن مكانة دمشق قد تراجعت أمام حلفائها، على الأقل ليس إلى حد لا يمكن إصلاحه. فالاستراتيجية السورية التي تعتمد طول النفس وعدم التسرع في تقديم تنازلات لا يمكن التراجع عنها، والتي يشار لها أحياناً في الأدبيات الغربية باسم «لعبة الانتظار السورية»، تنظر إلى الأزمة الحالية على أنها حالة موقتة، عابرة، ويمكن تصحيح أي تقهقر قد يقع، وأن الانتظار، والصبر، سيسمحان بتلافي تبعات هذا التقهقر من خلال الاستفادة من الأحداث المستجدة على الصعيد الدولي والإقليمي. هكذا، فإن دمشق التي بدت، في العامين 2011 و2012، بحاجة ماسة لمساندة موسكو، بدت لاحقاً، من خلال صمودها في العامين التاليين 2013 و2014، وكأنها قد منحت موسكو فرصة للعودة بقوة إلى ساحة الشرق الأوسط. وقد برزت صحة مقولة طول نفس دمشق، على وجه الخصوص، عندما سقط حليف موسكو في أوكرانيا، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، برغم كل المساعدات الروسية التي كان أحدها شراء موسكو سندات مالية أوكرانية بقيمة 15 مليار دولار، وهي مساعدات لم تحصل دمشق حتى على عُشرها. مستجدات العالم 2014 أثبتت لموسكو أنها أيضاً بحاجة إلى دمشق.
وقد نجحت سياسة طول النفس السورية أيضاً في حفظ استقلال القرار السوري أمام الحليف الإيراني. فقد رفضت دمشق الدعوات الإيرانية لتقديم تنازلات لـ «الإخوان المسلمين» أو تشكيل حكومة ائتلافية يُعطى فيها دور ما لمعاذ الخطيب، أو لغيره من المعارضين الإسلاميين. وقد ظهرت ثمار «سياسة الانتظار» السورية عندما تأزم الصراع في العراق وأُطيح بنوري المالكي، حليف طهران، وظهر أن الولايات المتحدة وتركيا والسعودية تملك بالفعل أوراقاً قوية في العراق وأن دورها ينافس الدور الإيراني وأن إيران، بالتالي، بحاجة إلى دمشق وأن الظروف لا تسمح بفرض إملاءات معينة عليها.
وقد كان لافتاً في مقابلة وزير الخارجية السوري، وليد المعلم، مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية مؤخراً، أنه شرح تفاصيل العلاقة السورية الإيرانية وأشار إلى أنه قد قال، بشكل مباشر، لوزير الخارجية الإيراني، جواد طريف، «إن صمود سوريا هو الذي يمكّنك من التفاوض من موقع قوي مع الغرب حول الملف النووي». وهنا لا يمكن للمرء أن لا يستشعر نبرة التحذير والتذكير في كلام المعلم. هذه النبرة تذكرنا بما حصل بين سوريا وإيران في العامين 1986 و1987. فبعد حوالي سبعة أعوام من التحالف بين دمشق وطهران ومساندة الأولى للثانية خلال الحرب مع بغداد، تضاربت المصالح السورية الإيرانية حول عدد من الملفات كلبنان، خصوصاً في الصراع بين «حركة أمل»، المحسوبة على دمشق، و»حزب الله»، المدعوم من طهران. وخلال تحالفهما، قدمت دمشق لطهران المساندة الديبلوماسية والدعم العسكري، من خبراء ومعدات، في الحرب مع بغداد، وفي المقابل قدمت طهران لدمشق مساعدات مالية ونفطاً بأسعار مخفضة. لكن عندما وقع الخلاف، حاولت طهران أن تضغط على دمشق من خلال التهديد بوقف الصادرات النفطية لها إن لم تسدد دمشق المستحقات المالية المتوجبة عليها. فردت دمشق، التي كانت تواجه أزمة اقتصادية ومالية كبيرة، بأن لوحت بأنها ستعيد النظر في العلاقة المقطوعة مع بغداد وبأنها ستسمح للملك الأردني حسين بالقيام بالوساطة التي طالما عرض القيام بها. تراجعت طهران وعاودت تصدير النفط وتجمد التقارب السوري ـ العراقي.
لكن الخلاف تجدد في العام التالي، 1987، حول الملفات نفسها، خصوصاً بعد وقوع حوادث من قبيل حادثة «ثكنة فتح الله» في بيروت الغربية في شباط 1987. كان ذلك العام هو الأسوأ لدمشق من الناحية الاقتصادية، حيث عانت من عجز مالي كبير منعها حتى من تمويل وارداتها من القمح والمواد الغذائية. سمحت سوريا مرة أخرى للملك حسين بالتوسط مع العراق، وأثمرت الوساطة الأردنية هذه المرة عن توافق على عقد لقاء قمة ثلاثي يجمع الرئيس حافظ الأسد والملك حسين والرئيس صدام حسين. حصل هذا اللقاء بعيداً عن الإعلام يوم 27 نيسان 1987، في قاعدة عسكرية في الصحراء شرق الأردن، وذلك بعد ساعات من عودة الرئيس حافظ الأسد من زيارته الشهيرة للاتحاد السوفياتي. لا معلومات دقيقة حول تفاصيل ما حصل في ذلك اللقاء. ولكن ما هو معروف هو أن طهران تراجعت ووافقت، في 30 نيسان 1987، على منح سوريا مليون طن من النفط مجاناً، بشكل سنوي. لم تقطع العلاقة بين دمشق وطهران، لكن بدا أن ملامح جديدة رسمت لهذه العلاقة، وأن هذه العلاقة ستستمر على أساس الندية والتعادل لا الهيمنة، حتى في حال ضعف أحد الطرفين.
اليوم أيضاً، لا تزال سوريا تملك خيارات كثيرة، برغم تراجع موقفها التكتيكي. وإن كانت إيران وسوريا تحالفتا في الماضي في وجه العراق وكان تقارب سوريا والعراق ضابطاً لطموحات إيران، فإيران وسوريا اليوم متحالفتان في وجه السعودية، والتقارب السوري ـ السعودي اليوم يبدو ممكناً أكثر من أي وقت مضى مع تزايد الشكوك الأميركية بجدوى الاستمرار في الحرب ضد الرئيس بشار الأسد ووسط تهديدات «داعش» بالتوجه إلى السعودية، ووسط التقارب الأمني السوري المصري، الذي لا يبدو أن السعودية تعترض عليه. وهنا تحديداً يبدو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مؤهلاً للعب دور الوساطة بين الخصوم الذي لعبه في السابق الملك حسين، خصوصاً أن مصر تحبذ أن تعزز السعودية وجودها في المنطقة، لأن هذا سيأتي على حساب تركيا الأردوغانية. وإن كان اعتراض إيران على التقارب السوري العراقي في الثمانينيات اعتراضاً مفهوماً، بسبب الحرب العراقية الإيرانية، إلا انه من المستبعد أن تعترض إيران، بصوت مرتفع، على تقارب سوري ـ سعودي محتمل ولا سيما أن المسؤولين الإيرانيين لا يزالون يطلقون تصريحات ودية تدعو السعودية لتعزيز التعاون المشترك معهم.
لا يقصد من الفقرة السابقة الإشارة إلى أن هناك خلافاً سورياً ـ إيرانياً مقبلاً، أو أن هناك تقارباً سورياً ـ سعودياً وشيكاً، بل إن المقصود هو شرح تعقيدات شبكات العلاقات في الشرق الأوسط وشرح التوازنات التي ما زالت تضمن ضبط إيقاع التحالف السوري ـ الإيراني. وهذه التوازنات، في جوهرها، هي ما تعتمد عليه سياسة طول النفس ولعبة الانتظار السورية. وهي السياسة التي ضمنت أن سوريا لن تكون «ورقة» في جيب أحد.

محمد صالح الفتيج: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...