«البريكس» والغرب... حرب باردة زائفة

19-12-2014

«البريكس» والغرب... حرب باردة زائفة

عام 2001 استخدم جيم اونيل من مصرف «غولدمان ساكس» مختصر BRIC لوصف اقتصاديات البرازيل، روسيا، الهند، والصين، ورأى انها تمثل مستقبل الاقتصاد الدولي. لم يتصور خبراء الاقتصاد وصناع السياسة حينها ان البلدان الاربعة قد توحد جهودها ذات يوم لبناء منصة اقتصادية مشتركة. في يونيو 2009 التقى وزراء خارجية البلدان الاربعة في مدينة إيكاترينبرغ الروسية لتحويل مختصر BRIC الى «قوة سياسية دولية»، وفي «قمة ديربان» اعلن قادة البريكس (بعد ضم جنوب افريقيا) بداية عصر جديد في العلاقات الدولية، واشاروا الى ان «امكان تطور البريكس لا نهائي».

هكذا استعاد المحللون سردية الحرب الباردة، ورأى البعض في صعود «البريكس» مساراً مناهضاً للامبريالية وبداية حرب باردة جديدة، فاضحى كل حدث سياسي يفسر بربطه بصراع «متخيّل» بين بلدان «البريكس» والغرب.
في عام 1980 قدّم شارل لفنسون رؤية مغايرة لسردية الحرب الباردة، اذ كشف في كتابه «فودكاكولا» زيف الواجهة الايديولوجية لجيبولتيك الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. لقد كانت المعاملات الاقتصادية بين الاتحاد السوفياتي والغرب نشيطة للغاية. وجد لفنسون عشرات الشركات متعددة الجنسيات الغربية تعمل بالاتحاد السوفياتي ودول اوروبا الشرقية. كذلك اقر الاتحاد السوفياتي 170 مشروعاً مشتركاً في 19 دولة غربية. عام 1977 كان ثلث واردات الاتحاد السوفياتي وربع صادراته تتم مع البلدان الغربية.
وجد لفنسون عشرات الشركات متعددة
الجنسيات الغربية تعمل بالاتحاد السوفياتي

في الاتجاه ذاته، خلص غوندر فرانك إلى ان المشروعات التجارية بين الاتحاد السوفياتي والغرب كانت متجاوزة للخلافات الايديولوجية. لم يمتلك الاتحاد السوفياتي ترف العزلة، كان لا بد من ان تتجاوز المشروعات التجارية الخلافات الايديولوجية، فالتعاون مع الشركات الغربية هو الحل الوحيد لمعالجة التخلف التكنولوجي الذي كان يعانيه عشية ثورة الصناعات الالكترونية في الغرب. كي يضمن لنفسه البقاء كان على الاتحاد السوفياتي التنافس مع الدول الاخرى ما استلزم منه الدخول في لعبة الاقتصاد الدولي وفق القواعد الرسمالية.
في الجهة المقابلة، استخدمت الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي في تنافسها مع دول صديقة في العالم. وبحسب ولارستاين لقد كانت الحرب الباردة الثانية بجزء كبير منها رد فعل للتدهور الاقتصادي الاميركي. اذ استطاعت الولايات المتحدة من خلال تركيزها على الجانب العسكري في السياسات الدولية ان تتخطى موقتاً مشاكلها الاقتصادية وتعيد تعزيز تزعمها للعالم. ايضاً ادى الاتحاد السوفياتي دوراً مساعداً في تثبيت الهيمنة الاميركية اذ عمل على ضبط وتقييد التهديدات العالمثالثية للهيمنة الاميركية، التي كان من المحتمل ان تؤدي الى نشوب مواجهات عسكرية قد تتوسع لحرب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. باختصار، لقد قام الاتحاد السوفياتي باستغلال بلدان الجنوب لكنه هو نفسه كان مستغلًا من قبل الغرب خاصة من زاوية ترتيبات التجارة الدولية. كان «اللحاق» جوهر السياسة السوفياتية لكن المزاوجة الشاذة بين اقتصاد اشباه الاطراف وسياسات القوى العظمى ادت في نهاية المطاف الى انهياره.
على المنوال ذاته، يعتبر «اللحاق» جوهر سياسات بلدان «البريكس». تعتمد سياساتها بشكل رئيسي على واقعها المحلي، لذلك هي تختار التركيز على تنميتها الاقتصادية اولا، حتى في قمم مجموعة «البريكس» يعلن دائماً ان تمويل البنية الاساسية هو المنطقة الرئيسية للتعاون بدلاً من التعبير عن قيم خاصة بها.
تعكس استراتيجيات بلدان «البريكس» في التنمية الوطنية لعبها دور الوسيط بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة خاصة في المؤسسات المتعددة الاطراف. يغيب الجانب القيمي او الاخلاقي بسبب نقص الموارد المتوافرة التي تمنحها القدرة للعب دور اكبر على مستوى العالم. لذلك تستبدل هذه «الالتزامات» القيمية بسياسة بناء التحالفات في المؤسسات الدولية متعددة الاطراف لتبرز كمدافع عن حقوق البلدان النامية عبر استخدام خطاب عالمثالثي بطولي في وجه البلدان الغنية.
تسعى بلدان «البريكس» الى احداث اصلاحات في بنية وقواعد الاقتصاد الدولي، تأخذ هذه الاصلاحات طابع «التعديلية» وليس «الجذرية». بدلاً من السعي لنظام دولي جديد تسعى إلى احداث اصلاحات في النظام الدولي السائد بما يؤمن مصالحها بشكل افضل. بعبارة اوضح، لا تزال مصلحة البلدان الناشئة بالاستفادة من «قيادتها» لبلدان المحيط. لقد منحها الاندماج الناجح بالاقتصاد الدولي مكاسب هائلة في ظل بنية الهيمنة السائدة، بالتالي تفضل هذه القوى اصلاح قواعد النظام اكثر من احداث تغييرات جذرية. ومع ذلك تتسم اجندتها في جوانب محددة بالطابع الجذري، فهي تتحدى الهيمنة من الناحية المبدئية عبر تحويل قواعد نظام الهيمنة ضد فاعلية دول الهيمنة. وهذا ما يبرز بوضوح من خلال نشاطها في مجموعة العشرين داخل منظمة التجارة العالمية، كذلك تحالف IBSA الذي يضم الهند والبرازيل وجنوب افريقيا، تجمع BRICS ومجموعة BASIC التي تضم بلدان «البريكس» باستثناء روسيا في المفاوضات المناخية.
يكمن التوتر بين بلدان «البريكس» وقوى الهيمنة في الفهم المختلف للمعوقات والفرص في النظام الدولي. لذلك يرتبط التوتر بالبنية، حيث ينظر الى موقع الولايات المتحدة البنيوي على انه يمثل عقبة امام ارتقاء البريكس، وهذا ما يؤدي الى رفض التحالف التلقائي مع الولايات المتحدة.
بالتالي، تسعى بلدان «البريكس» من اجل ضمان نجاح تنميتها الوطنية الى تقييد قوى الهيمنة والحد من عدوانية سياساتها عبر المؤسسات المتعددة الاطراف. هكذا لا يعود مفاجئاً ان تحتل البرازيل والهند المرتبة الرابعة والخامسة على التوالي في اللجوء الى جهاز حل المنازعات داخل منظمة التجارة العالمية. كذلك توفر المؤسسات مساحة وامكانية للدول الاضعف من اجل بناء تحالفات جديدة تساعدها في ممارسة التأثير بما يخدم مصالحها. تبرز هذه السياسات بشكل جلي في تحالفات القوى الناشئة ضمن اطار BRICS، IBSA،BASIC . وتمكن بسهولة ملاحظة ان هذه القوى قد اصبحت تتبع اساليب تفاوضية اكثر قابلية للتأقلم في التعامل مع الصعوبات المحتملة. استخدام حجج الديمقراطية للضغط من اجل اصلاح المؤسسات الدولية، لغة التحرير الاقتصادي لمهاجمة الحمائية الاقتصادية الاوروبية والاميركية.
يلاحظ أندرو هوريل في قراءته للسياسة الخاجية لبلدان «البريك»، ان الولايات المتحدة هي محور اهتمام البلدان الاربعة في بناء وجهة نظرها للنظام الدولي واعتماد الخيارات المناسبة. ويرى ان هذه القوى سعت الى التركيز على سياسات تتجنب العدائية لصالح التعاطي الايجابي في القضايا المشتركة. تنطلق سياسات هذه البلدان من تقويم مسبق لمدى اهمية القضايا بالنسبة للاستراتيجية الاميركية. ويرتكز هامش الحركة في المقام الاول على تقويم صانعي السياسة في بلدان «البريك» (تحديداً الصين) لمدى انعكاس قراراتها على الاستراتيجية الاميركية بحيث لا تؤدي هذه القرارات الى تدهور في العلاقة مع الولايات المتحدة.
تقييد الهيمنة الاميركية يقوم ببساطة، ليس فقط، على ان «لا توازن» القوة يؤدي الى زيادة التهديدات العسكرية، بل أيضاً سوف يدفع «لا توازن» القوة الجذري بالطرف المهيمن الى حصر تطبيق القانون الدولي بالطرف الاضعف، ويحرف شروط التعاون بما يخدم اولوياته. لذلك تصبح عملية احتواء الهيمنة الاميركية عنصراً اساسياً في سياسات «البريكس» في العديد من المؤسسات وتجاه العديد من القضايا. هكذا لا تعود «تحالفات» مثل BRICS، IBSA، BASIC تعبّر عن مجموعة من القيم والمصالح والالتزامات المشتركة، او عن ترابط القوة والنموذج في مشروع طويل المدى لما تريد ان تصبح عليه، وانما محاولة لحماية تنميتها الوطنية.
بالرغم من الفروقات والانقسامات والتباينات وصعوبة التوفيق بين مصالحها على المدى البعيد، فإن حسابات الكلفة والفائدة تؤدي الى نتيجة واضحة تفيد بأن بناء التحالفات هو الخيار الافضل للبلدان الناشئة لتحقيق اهدافها. لكن التحالف الابرز كان مجموعة الـ BASIC في المفاوضات المناخية. لم تعر تلك البلدان ادنى اهتمام لبلدان الجنوب لا بل همشت مجموعة الـ 77، وهي البلدان النامية الاكثر تضرراً من التغيير المناخي، وتخلت عن الخطاب العالمثالثي البطولي لصالح التحالف مع الولايات المتحدة، بهدف التوصل الى اتفاقية تحفظ مصالحها الاقتصادية في المقام الاول. هكذا لا عداء جذري مع الهيمنة وانما تنافس اقتصادي، وتحالفات البلدان الناشئة وجدت لمنع تحول التنافس الى عداء جذري.

فادي يونس

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...