«التتمات» لمحمد دريوس اللعب مع بورخيس

24-11-2014

«التتمات» لمحمد دريوس اللعب مع بورخيس

يذهب الشاعر محمد دريوس (اللاذقية، 1973) في كتابه « التتمات وتفسير الربع الأول من السيرة الناقصة للأخير» (عن دار الغاوون، بيروت) إلى مناكفة فنية من نوعٍ آخر؛ وذلك عبر سردٍ شعري يتجاوز فيه صاحب «خط صوت منفلش» كل ما من شأنه أن يصادر على النص؛ فالقصيدة هنا تحيل دوماً على السيرة الشخصية وفق تناص واضح مع السيرة المحمدية التي ينهل الشاعر من معين وحيها؛ مستلهماً مواربةً فنيةً جديدة في توزيع الاشتباكات الدلالية للعبارة التي تبدو وكأنها تنداح عن شفاه الوحي شخصياً، «الأنا – الآخر» هنا كلعبة من يحلم بأنه كان يحلم: «ربطتُ لكَ في جمعةٍ ناقصةٍ: قالَ تبعتُ نومكَ لأرى نومَ قريشَ لأرى ضحكَ السَّاعدِ في الصَّلاةِ وإيماءةَ النَّذيرِ». لعبة بورخيسية تبدو أكثر استدراجاً للروي الذي ينهل منه دريوس متتبعاً سيرة الرمل والدم في الصحراء العربية المفتوحة على رسائل السماء ولعناتها المتاخمة لفراديسها الموعودة؛ حيث ينحو الشاعر إلى مفازات اللغة وبديعها مجترحاً فضاءً تخييلياً لمونولوجه ذي النبرة الخفيضة الذي يجعله كليماً للغيب؛ مُحاصراً بدلالات الشخصية التي التبست فيه وعليه، الأفكار والكلمات في صياغتها الجمالية وبلمحٍ قرآني يزيد العبارة انخطافاً وخشوعاً: «رغيفُ نائم ٍ كلُّ ما كانَ في جعبتي وسورةٌ نائمةٌ. وخُفْتُ خُفْتُ من أنْ لا أرى في الأصيلِ نفساً يؤنسُني؛ وأنْ لا أجدَ في الذئبِ ناباً؛ وخُفْتُ أنَّي إنْ تكلمتُ قالُوا: نطقَ عَنْ هوىً وإنْ صمتُّ قالوا :إنْ هوَ إلاَّ سجعُ كثبانْ».
مشهدية يقترفها الشاعر السوري مراهناً على المزاوجة بين الجليل والجميل؛ ثنائية تدفع ضيق العبارة إلى سعة الرؤيا؛ مفسحةً المجال أمام لغة بلاغية محكمة تجد في أقوال الشهود وأحاديثهم المنقولة ما لم يعد كافياً أو مقنعاً؛ وما تجب كتابته من جديد من منظور شاعر وقع في تشابه أسماء مزمن؛ فالصحراء التي يختبرها دريوس في كتابه «التتمات» تستعير صرعتها الصوفية من مماحكة جريئة فنياً واجتماعياً؛ هي بالأصل مماحكة لغوية تتكلم بلسان الوحي لكنها لا تنطق عن هوى: «مالي ولكَ يا غَيْبُ؛ ما لي ولكِ يا مشيئةُ، يا سيفُ مالي ولإيلاف ِ قريش. كنتُ نائماً حتَّى قرأت ُ». هكذا يبرم صاحب «ثلم في تفاحة طافية» عهداً وثيقاً مع لغة المقدّس؛ نابشاً فيها بما يتواءم مع عالمه الداخلي الذي تتفاقم شكوكه باضطراد مع كل مقطوعةٍ من الكتاب؛ فأية شعرية يمكن الإبقاء عليها ها هنا إلا تلك التي تعيد الكتابة تدبيجها ورصعها في نفس غير مطمئنة؛ نفسٍ ترتطم أبداً بسبائك اللغة ولطيف صورها؛ لغة لا تستجد إيقاعاً داخلياً بقدر ما تحاول اختبار سطوتها في القصيدة كما هي في النص المقدس؛ إذ يدأب دريوس إلى كتابة مزاميره؛ «قرآنه» النثري الخاص به: «الشمسُ في يميني والقمرُ في يساري وليسَ عندي رسالةٌ، سوى السيفِ؛ يا إلهي.. إذْ أرْوي أَزِيْدُ وإذْ أكتبُ أُنْقصُ».
إنه حدسٌ شعري متلاطمٌ في وقعه تأخذنا إليه «التتمات» محققةً انصياعها المذهل لمشيئة «سيرة» و»حديثٍ» آخرين يعرف عنه صحابة الشاعر ما لا يعرفه الآخرون؛ فمحمد دريوس لا ينفكُّ عن هذا السجال؛ مطوّعاً أدواته المعرفية والانفعالية في قصيدة نثر تعيد اكتشاف المفردات الميتة؛ بل إزالة ما تراكم عليها من قوالب شعرية استهلكت المعنى وأرهقته؛ مطوّحاً بها من عالم الغيب إلى عالم العرفان، وفي مواضع أخرى التدخل لمصلحة سيرة الحالم اليقظان؛ وما يتركه هذا الرجحان بين النوم ورؤاه؛ بين الراهن والبائد؛ بين المقيم والفاني؛ فمن الواضح أن الشاعر يقارب سيرةً تقع في النفس العربية موقعاً خطراً ودامياً؛ بل ربما كان العود في الأبد أسهل من عيادتها؛ لكنه يبقى خيار الشاعر الذي فتح باباً على نبوءة الكلمة وسرّانيتها فقال: «لمْ أكنْ مرَّةً في اسمي إذْ انتهتِ النبوءةُ مثلمَا بدأتْ بغلالٍ مُرّة ٍ وحصادٍ أمرَّ. لَمْ أَكُنْ مَرَّةً ولمْ يكنْ لدمي غرائبُ الألوانِ؛ كنتُ مساكن السُكَّرِ تهفوْ إلى طافي الثمارِ».

سامر محمد إسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...