أين أناشيد الحرب السورية ؟

23-11-2014

أين أناشيد الحرب السورية ؟

الجمل ـ محمد صالح الفتيح: يروي لنا التاريخ أن الفرنسيين في عام 1792، بعيد انطلاق ثورتهم على لويس السادس عشر، تعرضوا للغزو من قبل الملكيات الأوربية الأخرى، وعلى رأسها بريطانيا والنمسا وبروسيا وهولندا، وتراجع الثوار الفرنسيون واحتلت القوات المهاجمة بعض الأراضي الفرنسية. ومع تزايد خطر القوات المهاجمة كانت الروح المعنوية للجنود الفرنسيين تنهار بشكل درامي فما كان من عمدة مدينة «ستراسبورغ» الفرنسية، الواقعة على نهر الراين في أقصى شرق فرنسا، والتي ستكون نقطة الاصطدام مع القوات الغازية، إلا أن طلب من الشاعر «روجيه دي ليل» أن يؤلف نشيداً حماسياً يرفع من معنويات الجنود الفرنسيين المدافعين عن الراين. ألف «دي ليل» النشيد المطلوب في نفس اليوم مصوراً اللحظة المفترضة لدخول القوات الغازية إلى فرنسا وكيف أن هذه القوات ستقتل فلذات أكباد الفرنسيين ونساءهم وتفرض شريعتها على الفرنسيين وذلك في محاولة من «دي ليل» لتحفيز الفرنسيين على حمل السلاح في وجه الغزاة وليرووا السهول الفرنسية من دماء البروسيين الغزاة.
فعل نشيد «دي ليل» فعله فوراً وسرعان ما بدأ المتطوعون الفرنسيون القادمون من مدينة مارسيليا بإنشاده وبدل أن تتحول «ستراسبورغ» لموطئ قدم للغزاة، عبر المتطوعون الفرنسيون نهر الراين، متقدمين شرقاً، وصولاً إلى مدينة فرانكفورت الألمانية. ومنذ ذلك العام، اشتهر هذا النشيد الحماسي على أنه رفيق الجنود الفرنسيين وتحول لاحقاً إلى النشيد الوطني للجمهورية الفرنسية. ونسبةً للمتطوعين الأوائل من مارسيليا أصبح هذا النشيد يعرف باسم «لا مارسيليز» La Marseillaise. وإلى اليوم تتناقل روايات كثيرة مقولة، نسبت مرة لنابليون، ونسبت مرات لغيره، تقول «أعطوا جنودي نبيذاً ونشيد لا مارسيليز وسأعطيكم النصر».
الهدف من هذه المقدمة المطولة هو الإشارة إلى دور الأناشيد الحماسية في الحروب، قد لا يحتاج هذا الدور إلى الكثير من النقاش لإثبات جدواه فالأمثلة كثيرة وأكثر من أن تحصى، وأناشيد «كاتيوشا» و «مدفعية ستالين» و «العقيد شورسا» وكثيرٌ غيرها كانت ترافق الجنود الروس في خنادقهم خلال الحرب العالمية الثانية وحتى هزيمة النازية. ولعل الأمثلة التي تحضر بشكل أسرع في ذاكرة السوريين هي أناشيد المقاومة الإسلامية في لبنان من قبيل «هيهات يا محتل» و «البأس الأعظم» و «أحبائي» و «ستهزمون» وغيرها. وفي الحقيقة، استخدمت كثير من أناشيد المقاومة هذه خلال الحرب الدائرة اليوم على الأرض السورية.  وأي استبيان لرأي الجنود السوريين سيظهر أنهم لا يتذكرون أي من الأغاني الأخرى التي تم إنتاجها خلال السنوات الأربع الماضية والتي غلب عليها الاستعانة المكثفة بالمؤثرات الصوتية والبصرية وسط غياب للفكرة والرسالة. وتبقى أناشيد المقاومة اللبنانية هي الأكثر حضوراً في ذاكرة الجنود السوريين.
وبالرغم من أن هذه الأناشيد تلقى ترحيباً عند المقاتلين وعند الجمهور إلا أنها لم تكتب خصيصاً للجنود السوريين ولم تكتب لهذه الحرب تحديداً. قد لا تبدو هذه النقطة الأخيرة مهمة ولكنها في الحقيقة مهمة للغاية ولاسيما أن الحرب مع عدونا اليوم لا تقتصر على العمليات العسكرية فحسب بل تمتد إلى الشق النفسي والعقائدي. حيث تشكل الأناشيد جزءً هاماً من المادة الدعائية التي تستخدمها المنظمات الإسلامية المتطرفة النشطة في سورية اليوم، مثل «داعش» و «أحرار الشام» و «جبهة النصرة» وغيرها. والتصدي لهؤلاء الإرهابيين لا يقتصر على المواجهة في الميدان بل يمتد أيضاً إلى مواجهة ثقافتهم التي يتم الترويج لها عبر الأناشيد والمواد الدعائية المختلفة. كما أن هذه الأناشيد ستكون لاحقاً توثيقاً للحرب نفسها، وتصبح هي روايتنا نحن عن الحرب. وفي منطقة يميل سكانها إلى نسيان التاريخ والتكاسل في القراءة تصبح الأناشيد وسيلة ترويجية جبارة في توثيق روايتنا عن هذه الحرب. قد تبدو هذه النقطة الأخيرة مبالغ فيها قليلاً، ولكن بعض الأمثلة من لبنان الشقيق تثبت العكس. فالنشيد الأكثر شهرة للقوات اللبنانية، والذي يقول مطلعه «من هاك الملعب مانسينا» يقول:
«الصدفة الحمرا لعبت فينا حملونا ذنوب ذنوب
سكتنا والروح بتلوينا مرة شمال مرة جنوب
نمنا على الجرح ومابكينا وتذكرنا حروب حروب»
وهكذا تسرد القوات اللبنانية رؤيتها لتاريخها على أنها بريئة من ذنوبها وأن الظروف، والصدفة البحتة، هي من فرض عليها قرارات الحرب والعنف. وفي الحقيقة، نجحت هذا النشيد، وكثير غيره، في تثبيت هذه الرواية في ذاكرة «قواتيّي» اليوم عن حروب أبائهم منذ ثلاثة عقود.
إذاً نحن اليوم بحاجة إلى نشيد، مثل «لا مارسيليز»، يذكر الجنود بعواقب انتصار المتطرفين الإسلاميين ويحفزهم لكي يطهروا هذه الأرض من رجسهم ويرووا سنابل القمح بدماء من أراد تدنيسها ويزرعوا رؤوسهم على ثغور البلاد لتكون عبرة لمن يريد العبور مرة أخرى. نحن بحاجة إلى نشيد يذكر أجيال المستقبل بالسبب الذي دفع 50 ألف جندي لبذل أرواحهم. وإذا كان السوريون قد تخلوا منذ زمن طويل عن التساؤل حول أسباب التقصير في الشق الإعلامي من الحرب ولم يعد أحد يتساءل عن ردنا على قنوات الجزيرة والعربية أو عن التقصير في مجال التغطية الميدانية للمعارك وتوثيق العمليات العسكرية، فإن التقصير في تقديم أغاني حماسية، تكتب خصيصاً لحربنا اليوم، هو أمر غير مفهوم. وإذا كان «روجيه دي ليل» قد احتاج ليوم واحد فقط ليؤلف نشيداً خالداً للجنود الفرنسيين، فما الذي منع السوريين لأربع سنوات من أن يأتوا بنشيد خالد، واحد على الأقل، يليق بالجندي السوري الأسطوري؟

ملاحظة: كاتب هذه الأسطر ليس بشاعر أو ملحن أو بمدير شركة إنتاج يهدف لتسويق منتج ما، بل هو مجرد سوري لاحظ غياب شيء ما فكتب عنه.

التعليقات

الأستاذ المحترم محمد صالح الفتيّح لقد عملنا، مع مجموعة من الأصدقاء، لمدّة عام على هذا الأمر، وكُتيت قصائد عديدة باللهجة المحكيّة على تنوّعها، وقام ملحّنون أكاديميّون أكفّاء وموّزعون بما يجب أن يقوموا به. حتّى إننا دعونا مطربًا عراقيًّا يحبّه أهل جزيرتنا السورية ليغنّي أغنية عن الجيش، ذهل بها كلّ من سمعها، وقد أقام في بيتي مدّة أربعة أشهر على أمل أن تمرّ الأغنية وتسجّل.. وكان الأجر على الله في المشروع كلّه لأنك تريد "سندًا في البلد". حتى التلفزيون عندما يسمع مديره باسم أحدنا لا يسمح بدخوله وأنت أدرى بمهمّة الدخول الشاقّة إلى مبنى التلفزيون. الفساد يمنع كلّ شيء حتى وإن كان أغنية مهداة إلى جيش بلادنا. "شان العرب بيدك/ كل حبنا تستاهلْ وقلوبنا تريدك/ يا جيشنا الباسلْ يا جنودنا الأبطالْ/ الله محيّيكم الليل مهما طالْ/ النصر بيديكم ......."

أنت محقّ أيّها الأخ محمّد في كلّ كلمة قلتها.. وأعتقد أن أغنية جوليا بطرس الجديدة في العام 2016 بعنوان "إحذر" قد شفت غليلك.. هذا رابط الأغنية على يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=0aGjeb5GpHM ولو أنّ جوليا هي لبنانية، ولكنّها مؤمنة بوحدوية الأمّة في سورية الطبيعية.. وأرجو أن تكون أغنية جوليا قد شكّلت نعويضًا عن صعوبة تمرير الأغاني الوطنية حاليًا في سوريا..

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...