هكذا أصبح شكسبير... شكسبيراً

22-11-2014

هكذا أصبح شكسبير... شكسبيراً

عام 2005، خص الباحث الأميركي ستيفن غرينبلات أستاذ الأدب الإنكليزي في «جامعة هارفرد» وِليام شكسبير بكتابٍ يستكشف فيه سيرته من خلال ترابطها مع معطيات في أعماله الإبداعية. في الأصل الإنكليزي، يحمل الكتاب عنوان «وِلْ في العالَم: كيف أصبح شكسبير هو شكسبير». وقد ظهرتْ ترجمته الفرنسية أخيراً عن «دار فلاماريون» بعنوان «ول العظيم».
في مستهل كتابه «وِلْ العظيم»، يقول المؤلف: «في نهاية القرن 16، وصل إلى لندن فتى ينتمي إلى بلدة صغيرة.
بلا ثروة، ولا علاقات عائلية، ولا تكوين جامعي. وفي غضون سنوات، أصبح أكبر كاتب مسرحي في عصره، ولربما في كل العصور. إنه يُضحك ويبكي جمهوره، محوّلاً السياسة إلى شعر، مازجاً دونما عُقَد التّهريج السوقِي بالرهافة الفلسفية، وقد كان على إدراكِ نفّاذ للحياة الحميمة للملوك وللشحاذين... كيف يمكن تفسير تحقُّق مُنْجَزٍ أدبيٍّ بمثل تلك الساعة؟ كيف أصبح شكسبير هو شكسبير؟».

طبعاً، نحن نعرف، قبل ظهور كتاب غرينبلات، أنّ شكسبير وُلِد عام 1564 في مدينة ستراتفورد-أپون-أفون، وفيها سيموت عام 1616، وأنّ أباه كان دَبّاغاً وصانع قفافيز غنياً، وحاقت به كارثة مالية. كما نعرف أنّ شكسبير تزوج وهو في الـ 18 من عمره امرأة في الـ 26، بدافع الحب، ربما، وأيضاً كونها حملت منه. لكنّ كتاب غرينبلات لا يتضمن، فحسب، سرداً لوقائع تُشَكِّل سيرةً بالمعنى المألوف، بل يشكِّل إغناءً أكيداً لسيرة شكسبير من خلال قراءة خاصة لأعماله الإبداعية. يقول غرينبلات: «من أجل فهم مَنْ كان شكسبير، ينبغي تتبع آثار القول الذي خَلَّفه لنا، وجعلنا نمضي في السبيل الذي يقودنا إلى تجاربه، السبيل الذي يعيدنا إلى العالَم الذي عاشَ فيه. من أجل أن نفهم كيف استعمل شكسبير خيالَه ليُحوّل حياته إلى آثار فنية، سيكون علينا، بدورنا، أن نكون قادرين على استعمال الخيال».حوّل السياسة إلى شعر، مازجاً دونما عُقَد التهريج السوقي بالرهافة الفلسفية

بدءاً، هذا سؤال يتبادر إلى ذهن كل قارئ لأعمال شكسبير: ما أصل شغف شكسبير بالمسرح؟ يعتبر غرينبلات أنّ ذلك الشغف بدأ يتنامى منذ سنته الخامسة. يخبرنا أنّ جون شكسبير - والد وليام - كان عمدة ستراتفورد وقتها، وكان يعطي موافقته لفرق مسرحية جوالة على تقديم عروضها ويضيف: « فهل حدث أن أخذ معه ابنه، الذي كان وقتها في الخامسة، لرؤية عرضٍ ما؟». ثمّ يبيّن من خلال عدد من معطيات، أنّه لا بُدّ قد فعل. وهكذا، يكون «السِّحْر الخالص للعرض المسرحي قد أسر الطفل إلى الأبد». وإذ كانت العروض في تزايد في ستراتفورد، فإنّ انبهار شكسبير الصغير بفن المسرح لم يكفّ عن الاشتداد». ولا شك في أنّه كان يشاهد في غالب الأحيان، ما يُنعت بـ «التمثيليات الأخلاقِيّة»، وكانت شخوص تلك التمثيليات تجريدية، تحمل أسماء مثل «شباب» أو «فضيلة» أو «بِطالة» أو «رذيلة». يقول غرينبلات: «بقيتْ لذلك النوع من العروض شعبية حتى فترة مراهقة شكسبير. ولم تكن تلك المسرحيات تهتم بسبر الأغوار السيكولوجية للشخصيات ولا بتصوير المجتمع، لكنّها كانت تجمع بين الحكمة الشعبية والكثير من السخرية المتمردة». ويضيف الباحث أنه حين يبتدع شكسبير شخصيةَ «هارون المغربي (مسرحية «تيتوس») الذي يعبّر، وهو يموت، عن أسفه كونه لم يقترف جرائم أكثر، أو إدموند (الابن اللاشرعي للكونت دو غلوسستر في مسرحية «الملك لير»)، المشحون بالكراهية تجاه أخيه إدغار، أو حين يسبر أغوار ريتشارد الثالث، الملك الدموي، «فإنّه كان يشعر مجدداً بتلك الإثارة التي مارستها عليه، وهو طفل، شخصية «الرذيلة» في عدد من التمثيليات الأخلاقية: بعض الرعب الممزوج بالتذاذ محرّم». وقد ساعدته معرفته بالتمثيليات الأخلاقية على أن يجعل للخصوصيات النفسية لشخصية ما مظهراً خارجياً يؤكِّدُها: فهو، مثلاً، يُصَوِّر لنا ريتشارد الثالث على أنّ له يداً مشلولة وحدبة. كما لا يبدو غريباً مثلاً أنّ الخدعة الشيطانية التي يحوكها ياغو ضد ديدمونة، والناجمة عن كراهيته لعطَيل، تماثل، في قسوتها الرهيبة، الخُدَع التي تلعبها «الرذيلة» في المسرحيات الأخلاقية.
مَثَلٌ آخر عن الطريقة التي يتم بها استكشاف رابط لتيمة ما في هذا العمل أو ذاك لشكسبير، مع ظرف معيش مِنْ قِبَلِه: يخبرنا غرينبلات أنّ جون شكسبير في سنة 1575 أو 1576، حين كان في قمة مجده وغناه، وقبل إفلاسه بقليل «كان قد قدّم طلباً للحصول على شعار نبالة»، باعتبار الوظائف العليا التي كان قد أداها في البلديّة، ورغم أنّ الشعار الذي يُشرى لا يكون «أصيلاً»، فالمبالغ التي تصرف للحصول عليه كانت ضخمة جِداً. فلما تدهور الوضع المادي لجون شكسبير، أصبح طلبه ذاك مثار سخرية، وتم نسيانه. لكن بعد مرور عقدين على ذلك الفشل، أي في تشرين الأول (أكتوبر) 1596، قُدِّم ذلك الطلب مجدداً، وفي هذه المرة، حظي بالقبول. من، يا تُرى، كان الذي قدم في هذه المرة الثانية؟ بعد أن يطرح غرينبلات كافة الفرضيات الممكنة، ينتهي إلى الجواب التالي: لا أحد غير وليام شكسبير الذي كانت أعماله، في مجال المسرح، مزدهرةً وقتها. ويُضيف غرينبلات «أنّ شكسبير قد بقي، باستمرار، منبهراً بما في عملية «الاستعادة» من ملذات وسخرية، حتى في أعماله التراجيدية والتراجيكوميدية. في نهاية «الملك لير»، تبوء مساعي ابنتي الملك السيئتين بالفشل؛ وبعد أن تحيق بالملك عذابات لا تعبّر عنها الكلمات، نجده يستعيد السلطة، لكنّ ذلك يحدث بعد فوات الأوان: فابنته المحبوبة كورديليا تكون، لحظتها، ممددة بين يديه، جسداً بلا روح، وهو نفسه سيلفظ أنفاسه الأخيرة في لحظة يأسٍ خالص ممزوج بتوهّم عبثي بأنّ كورديليا، ربما، لا تزال على قيد الحياة. وفي اختتام حياته الإبداعية، ستظهر لدى شكسبير نفس الخلفية السردية، خلفية «الاستعادة» في مسرحية «العاصفة».
طبعاً، فإنّ أعمال شكسبير ليست نتيجة آلية لظروف معينة مرّ بها حياته أو مرّ بها ذووه، هذا مؤكّد، لكنّ اختياره لحبكاتٍ معينة لم يكن غريباً عن أحوال عاشَها، بقيتْ تستثير في أعماقه مشاعر متجذّرة. ويقول غرينبلات في هذا الصدد: «حتّى إذا قاده خيالُهُ إلى أصقاع نائية، فإنّ هذا الخيال إنّما تَسْتحِثُّه استيهاماتٌ يبدو في الغالب أنّها نابعة، في الأصل، من ظروف واقعية مرّ بها في حياته، أو بالأحرى، من الآمال والرغبات وصنوف الحرمان التي كانت تنجم عن تلك الظروف».

مبارك وساط

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...