أدونيس: نعم، كذبت الشمسُ علينا

19-10-2014

أدونيس: نعم، كذبت الشمسُ علينا

 I - هِشِّك بِشِّك شو

«عَرضٌ غنائيّ موسيقيّ يحاكي موسيقى الأفراح والنوادي الليلية التي كانت منتشرة في مصر، في النصف الأوّل من القرن الماضي. أربع لوحات تتضمّن عشرات الأغنيات يؤدّيها عشرة فنّانين: موسيقيين، مغنّين، ممثّلين، راقصين، يأخذوننا إلى تلك الحقبة من الزمن الجميل».

هكذا يقدّم مسرح مترو عرضه الذي يحمل هذا العنوان: « هِشِّك بِشِّك شو «. وهو عَرضٌ لا يمكن تقويمه حقّاً إلاّ إذا نُظِر إليه في سياق الأحداث العربيّة الراهنة.

يبدو العرض في هذا السياق نقطةَ اصطدام بين الحياة اليومية والثقافيّة من جهة، والنصّ (المقدّس) والتقاليد التي صنعها، والتقاليد التي صُنِعَت من أجله، من جهةٍ ثانية.

مقابل العربيّ الذي يعيش نظريّاً في التعاليم وفي مختلف المجرّدات الغيبيّة، وعمليّاً في النِّفاق والرّياء والخِداع والادّعاءات، ينهض العربيّ الذي يعيش بقوّة الحياة ولا سلاح له إلاّ الحياة نفسها - مليئةً على الأخصّ بحضور المرأة، وبكل ما يُضيء الحياة ويُجَمِّلها ويعلو بها، في بُعدٍ كامل عن السياسة، وبخاصّةٍ في جوانبها العمليّة.

أعمق ما في هذا المسرح أنّه نقدٌ للثقافة السائدة من داخلها وبأدواتها نفسها، دون أيّ ادّعاءٍ إيديولوجيّ. وهو نقدٌ طبيعيّ، حيّ، يبدو فيه المسرح كأنّه ليس تمثيلاً، بل كأنّه الحياة نفسُها، في حركتها الإنسانيّة. الممثّل لا «يمثّل»، بل يعيش : يغنّي، يرقص، يحبّ، يعمل.

هكذا لا يبدو استدعاء «الماضي» دعوةً للعودة إليه، بل يبدو بالأحرى، نداءً لكي يندرج في الجسر الذي يبنيه الحاضر، نحو مستقبلٍ أفضل وأجمل وأكثر إنسانيّةً.

بلباسٍ تقليديّ شبه دينيّ، شبه عسكريّ يخرج الجسم من نفسه، نافياً وضعَه، يتوهّج ويتفتّح، في رفضٍ كاملٍ لتقاليد العسكرة ولكلّ ما يشلّ طاقة الحياة، أو يعرقلها، أو يشوّهها، أو يحرفها عن مسارها الإنسانيّ الخلاّق.

«هِشِّك بِشِّك شو» احتفاءٌ بالإنسان، بالحياة، بالحريّة، بالفرح والحبّ، ودعوة لتدمير الظُّلمات.
 
II - المُصَغَّر العربيّ

بيروت «مصغَّرٌ» عربيّ : جسران - واحدٌ بينها وبين نفسها، دائم الانكسار. وآخر بينها وبين ما يأتي، لكن لا أثرَ فيه حتى الآن إلاّ لخطوات ما مضى.

فوق هذين الجسرين، يرسم هذا « المُصغَّر العربيّ « أفقه. لكن بألوانٍ لا تكادُ أن ترتسِم حتى تزول.

مع ذلك، يظلّ هذا « المُصَغّر «، تاريخيّاً ورمزيّاً، كتاباً لا يحرّك في قارئه عقلَه وحده أو مخيّلته وحدها أو انفعاله وحده، وإنّما يحرّك وجوده كلَّه.

لماذا، إذاً، يبدو « مضمون « هذا الكتاب حالةً يندرُ مثيلها؟ فهو مجرّدُ «شكلٍ» في فضاء سياسيّ تيولوجيّ، تيوقراطيّ، ديمقراطيّ، برلمانيّ، ديكتاتوريّ، قبَليّ...إلخ.

تخيّلوا في هذا الفضاء،

أبا العلاء المعرّي يناقش سَبْيَ النساء، مع حرّاسٍ لأقفاصٍ يُكَدّسْنَ فيها،

ويُعرَضْن للبيع،

المتنبّي يتحدّث عن أسرار الشعر أمام سكاكين تنتظر دورها للسباحة في

أعناق «الكفّار»،

ابن رشد يتحاور مع جلاّدين للأبجديّة.

تخيّلوا كذلك بعض الأصدقاء في «الغرب الحليف»: غاليليه، ودارون،

وفرويد، أولئك الذين يتباينون في اتّجاهاتهم الفكريّة - العلميّة، غير أنّهم

جميعاً يتّفقون على هذه القضايا الثلاث:

1 ـ ليس الإنسان مركز العالم،

2 ـ هو آخر الخليقة وليس أوّلها،

3 ـ ليس سيّد اللغة ولا سيّد الخطاب.

تخيّلوا أخيراً كيف أخطأ هؤلاء جميعاً لسببٍ واحد هو أنّهم كانوا على حقّ.

من هذا «المُصَغَّر» أيضاً وفيه تبدو الحياة العربيّة كأنّها بساتين وغاباتٌ

للصيد. كأنّها «ربيعٌ» دائمٌ للصيّادين، احتفاءً بالأجزاء الذكوريّة في جسم

التاريخ الذي كتبوه ويتابعون كتابته.

هكذا يمرّ الوقتُ راكضاً وراء فريسته،

هكذا تشرب السيوفُ دماء فرائسها،

هكذا تُحاول الفريسةُ أبداً وعبثاً أن تهرب.

تجلس صارخةً:

أين أنت أيّها الحبّ لكي تردّ للفريسة أجنحتها،

أو لكي تمنحها أجنحةً جديدة ؟

بلى، ليس المطلَق في هذا «المصغَّر» إلاّ حطباً،

وليست الأرضُ إلاّ كبداً ضالّةً تُشوى على لهيبه.

* * *

معجمُ الكلمات التي تستخدمها بيروت «المُصَغَّر العربيّ»، شفويّاً وكتابيّاً، محدودٌ جداً. وهي، من زمن، تُعاني مرضاً اسمه الرّعب من الكلمات. رعبٌ يشعر فيه أبناء بيروت أنّهم يعيشون في منزلةٍ بين المنزلتين: الأرض والسماء، أو الجنّة والنار. وهي حالةٌ تصل ببعضهم إلى أن يتساءلوا: لماذا نعيش؟ ومن أجل أيّ شيء؟

وتدفع ببعضهم إلى أن يتخيّلوا أنّ المستحيل هو وحده، الممكن.

في شوارع هذا «المصغَّر العربيّ» كمٌّ كبير من الكراهية، وكيفٌ عجيبٌ من الحقد على الذّات، يؤرجحانها في نقطة ليست بعيدةً عن ضفّة الجريمة.

وأينما ذهبت تشعر أنّ الفرد ليس موجوداً في رأسه أو في بيته، بقدر ما هو موجودٌ في مكان آخر.

* * *

كلّ يومٍ يضع هذا «المصغّر» العربيّ قدميه على صدر الموت، متوكّئاً على عصا الشمس.

هكذا يعيش الشعرُ خفيةً بين أحضانه.

* * *

III - قالت بيروت

ينابيع ُالعربُ وأنهارُهم

تجاعيد في وجه الماء.

* * *
نبرع نحن العرب في تعمير الهياكل، لكن بالأشلاء.

نبدع في تأليف الموسيقى، لكن بحشرجات المرضى والموتى.

نتفنّن في كتابة التاريخ، لكن بجثث الجَمال والحقّ والخير.

هكذا يبدو أنّ الإنسانَ عندنا

ليس أكثر من بيت عنكبوت،

وكأنّ الثقافة هي نفسها الخيوط التي تنسج هذا البيت.

* * *

تلك الكواكب التي تقول عن نفسها إنها أجسامٌ تنطفىء،

وها هي تتّجه إلى الغوص في ظلمة بلا نهاية.

* * *
في الأدلوجات الإيمانيّة الشائعة،

تؤمَرُ السياسة ويؤمَرُ الواقع وتؤمَرُ الأفكار

كما تُؤمَر الريشة، ويؤمَرُ الحبر:

إنه العجز الهائل العجيب الأكثر قدرةً من القدر نفسه.

* * *

نعم، يا أخا العرب،

لقد كذبت الشمس علينا.

* * *

ليس الصمت في حدّ ذاته جريمةً،

الجريمة هي في أن يُفرَض الصّمت.

* * *

أنت تحبّ الآخر؟

لكن من قال لك: الآخر سيقبل حبَّك؟

وماذا تفــعل إن كــان يعمــل على إبادتك؟

* * *

كلاّ لن أتوقّف عن تكرار هذه اللازمة :

يا للثروات الفقيرة البائسة في البلاد التي أنتمي إليها.

* * *
 
I V - قرب العتبة

دمي يموتُ،

لكن كمثل نهر يصبّ في نهرٍ آخر.

أهذا هو الأمل؟

* * *
متى سأصرخ : أيتها العودة،

هوذا أنا أطلّ على الكون من نافذة بيتي؟

* * *
لا يزال أصدقائي يتابعون سيرهم على دروب أحلامهم

لا تزال خطواتهم راسخةً، عصيّة، جامحة.

السماء دمعٌ يجفّ بين أهدابهم،

والحقول أنينٌ أخضر.

* * *

بين الباءين: بيروت وباريس، تهبط أيامي خطوةً خطوةً.

* * *
على درج الأبجدية،

بقي لي، قرب العتبة، ورقٌ يحنّ إلى الحبر

بقيت لي قوسٌ لكي يَرمي بها قلبيَ قلبٌ آخر

بقيت سهامٌ لا تريد أن تنطلق إلاّ من يد الضوء،

بقيت عجينةٌ تختبىء في قبضة المستقبل.

* * *

لهذا، ولأشياء أخرى،

خلطتُ دمي بحبر الصّباح لكي أعرف أن أكتب،

وآلفْتُ بين عينيَّ والليل

لكي أعرف أن أرى وأن أقرأ.

* * *

غالباً،

تستيقظ النار في الغطاء

الذي فُرِش فوق رماد التاريخ.

أدونيس

المصدر: الحياة 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...