الكذب المقدس

29-09-2014

الكذب المقدس

الجمل ـ بشار بشير:
في بداية المجتمعات البشرية كان قائد المجتمع هو الصياد والمحارب الأقوى والأشجع والذي يتمتع بالحكمة الكافية, ولم يكن هناك مجال للكذب على المجتمع في هذه الأمور فالصفات السابقة كان الجميع يراها ويلمسها على الأرض دون أي ترويج دعائي وأي تضخيم بالأكاذيب. مع تقدم المجتمعات وازدياد تعقيدها أصبح الحكم يحتاج لأسانيد أخرى فلم يعد الحاكم يستمد شرعيته من قوته بالقتال بل أصبح يستمدها من "أكاذيب" يتم إختراعها لتناسب الزمان والمكان والمجتمع. الكذبة الأولى كانت أن الحكام آلهة (أو أقرباء آلهة) وهذه كذبة ممتازة ما إن تنطلي على الجماهير حتى يتمتع بموجبها الحاكم بسلطات لا محدودة وغير قابلة للنقاش والمساءلة. عندما فقدت هذه الكذبة فعاليتها ظهرت الكذبة الثانية (من اختراع روما هذه المرة) وهي أن الملك أو القيصر يحكم باسم الشعب وهو الممثل لإرادة  وتطلعات وحاجات الشعب وهو القيم الأفضل على مجد الأمبراطورية وهكذا حكمت سلالات من القياصرة حتى لو كانوا أبعد ما يكون عن الشعب وحاجاته وتطلعاته .
بعدها انتشرت كذبة الدم الأزرق لتشرعن تميز الحكام والملوك. البعض شرعنوا حكمهم بالعودة  لكذبة قديمة مع تعديلها قليلاً , فهم لم يقولوا أنهم آلهة أو أبناء آلهة بل اكتفوا بأن يكونوا وكلاء الإله والقيمين على تنفيذ شرعه على الأرض وهكذا وجدنا منهم من يقول: أنا ظل الله على الأرض ومفتاح خزائنه .
مع تقدم الزمان والمعارف والناس والأدوات تطورت الأكاذيب المساندة لحكم الأمبراطوريات وتعقدت حتى وصلت إلى ذروتها مع الإمبراطورية الأمريكية التي بلغت القمة في الكذب والنفاق المؤسس لشرعية الحكم والحكام وأعمالهم, التعقيد الذي أصاب الحياة جعل من غير الكافي إيجاد سبب كاذب وحيد يسوغ حكم الإمبراطورية وسيطرتها بل أصبح من الضروري إيجاد كذبة ودعمها بالنفاق حول كل حركة وكل موضوع تهتم و تعمل به الإمبراطورية .
فبالإضافة للكذبة الرئيسية التي تعتمد عليها شرعية الحكم الأمريكي وهي أنها المدافعة عن العالم الحر وأفكاره, هناك عشرات الأكاذيب التي تخلقها أمريكا لتعطي شرعية لكل عمل  تريد القيام به .
أمثلة: في ثمانيات القرن الماضي وبشكل مفاجئ مترافق مع الحرب العراقية الإيرانية أصبح الشغل الشاغل للإعلام وللحكومات موضوع نضوب النفط من العالم وبدأت دراسات كاذبة تقوم بها جهات إما منافقة أوغير موجودة ومختلَقة تتحدث عن أن كميات النفط الموجودة في العالم كله لن تكفي الإستهلاك البشري لما بعد عام ألفين (أظن أن البعض لا زال يذكر تلك الدراسات والمقالات  التي انتشرت في كل وسائل الإعلام في ذلك الزمن حتى لتكاد تجدها في المجلات الفنية ومجلات الأطفال) نتيجة هذه الكذبة كانت سُعار أصاب أسواق النفط فارتفعت على أثره أسعاره لدرجة ضعضعت إقتصادات دول وهنا كان دور أمريكا لكي تصطاد في الماء الذي عكرته , فهي كانت قد خلقت في مناطق من أمريكا مغاور جوفية مهولة الحجم عن طريق إذابة الملح الموجود في باطن الأرض وملأت هذه المغاور بالنفط الذي أشترته رخيصاً من دول الخليج وعندما أصبحت مطمئنة لمخزونها النفطي أطلقت كذبتها عن نضوب النفط متلاعبة بأفكار الناس تمهيداً للتلاعب بإقتصاد بلدانهم .
القصة الثانية هي الكذبة الكبرى التي ملأت الدنيا عن وحشية وإنفلات صدام حسين الذي يقود رابع أقوى جيش في العالم (كذا) ويملك أسلحة ومصانع كيمياوية وذرية بالإضافة لأسلحة لم يصنع مثلها أحد (هل تذكرون كذبة المدفع العراقي العملاق الذي يصل طوله إلى تسعين متر والبعض قال ثلاثمئة متر) سَوَّق الأمريكان هذه الكذبة وصنعوا منها سنداً شرعياً لتنفيذ مخططاتهم التي نعرفها كلنا والتي لا زلنا نعيش مفاعيلها .
الذي ذكرنا بالكذبات الأمريكية القديمة هي الكذبات الأمريكية الجديدة التي تشابه سابقاتها , موضوع لا وجود له أو هو موضوع صغير يُخلق خصيصاً لكي تُركَّب عليه كذبة  كبيرة , ثم الكثير من النفاق والمنافقين والتطبيل والتزمير و البروباغاندا و بعد هذا لا يهم من يصدق الكذبة ومن ينكرها فهي مخلوقة لكي تكون مستند وسند لما تريد الإمبراطورية فعله (زوراً وبهتاناً وظلماً بطبيعة الحال ) . 

الكذبة الأمريكية الجديدة هي داعش التي ينطبق عليها تماماً المثل: (بيعمل من الحبة قبة) فجأة نفخت أمريكا بعض مرتزقتها  جمعت فرقاً و مجموعات منهم كان لهم أسماء وأفكار متنوعة فوحدتهم تحت مسمى واحد ثم أخرجت لهم هوليودياً إنتصارات ومعارك وأفلام رعب  ومواقف تملأ الدنيا وتشغل الناس بقدر ما كان "رامبو " ومن بعده "التيرمنيتر – المدمر" يفعلان , ثم أطلقت الصرخة بأن داعش (التي تعمل على البطارية الأمريكية التي تضعها لها تركيا وتدفع ثمنها دول الخليج) هي وحش يستطيع أن يأكل البشرية كلها وأنه لابد من تحالف الجميع (الجميع الأمريكي) لتحجيم هذا الوحش الذي تروج أمريكا أنه لايمكن حالياً أن يُهزم بل يمكن فقط خلال بضع سنين وقف إندفاعته. فعلاً لقد تفوقت أمريكا على نفسها بهذه الكذبة وبلغت مستويات غير مسبوقة في صياغة الكذب والنفاق و حشد الديكورات اللازمة لهم حتى لو كانت هذه الديكورات هي قطع رؤوس مواطنين أمريكان فكله من أجل مجد الإمبراطورية وتحقيق أهدافها وتمرير كذباتها ييهون (لم يُحظّر عرض فيديوهات قطع داعش لرؤوس الرهائن الأجانب على الأنترنت رغم أن فيديوهات أسخف بكثير يتم منعها لأن أميركا لا تريدها أن تعرض. وهناك أخبار تقول أن أميركا اشترطت على بعض فصائل الإرهابيين أن يصوروا عملياتهم التي يستخدمون بها الأسلحة الأمريكية الحديثة التي يملكونها مقابل تزويدهم بهذه الأسلحة).
ولأننا لا ننسى و لأننا ذقنا طعم أكاذيب أمريكا أكثر من مرة ولأن المؤمن لا يلدغ من جحر أكثر من "بضع" مرات  فلذلك نحن الآن غير مهتمين بكذبة أمريكا، نحن فقط بإنتظار ماذا تريد أمريكا من وراء هذه الكذبة , أي إلى ماذا تمهد وماذا ستفعل أمريكا والعالم كله مرتعب من داعش (هي بالنسبة للسوريين وللجيش السوري مجرد عصابة مسلحة أخرى) التي "تعترف " أمريكا وهي أكذب المعترفين بأنه لا يمكن إيقافها والقضاء عليها, لكن هذا الرعب والإعتراف لا يجعلان أمريكا قابلة للتعاون مع سورية المقاوم الأقوى لداعش, ولا يجعلانها قابلة للتنسيق مع دول البريكس التي تشكل نصف الكرة الأرضية, ولا يجعلانها قادرة على إظهار العين الحمرا لتركيا لتوقف إمداد داعش بكل أسباب الحياة والقتال, وأخيراً لا يجعلانها راغبة  بسحب بطاريتها من جسد داعش قبل أن تصبح فعلاً وحش خارج عن السيطرة كما أصبحت طالبان (والله أعلم , فأنا لا أستطيع أن أجزم بأن طالبان خارجة عن سيطرة أمريكا) . ما تفعله أمريكا الآن  لمحاربة داعش هو أن تقوم بحساب تكلفة الحرب مسجلة مليارات فوق مليارات من الدولارات تمهيداً لإجبار جهة ما على الدفع (كلنا نعرف من ستكون هذه الجهة).
أسمع وأتفرج على مايجري وأنا أمط شفتي إزدراءً بأمريكا التي فقدت إبداعها بالكذب فلم يعد كذبها متقناً ومقنعاً , والتي فقدت حدة أنيابها ومخالبها فلم تعد جارحة وقاتلة كما كانت وخاصة أن جزءاً مهماً من مخالب كذبها قد فقد فاعليته وأعني هنا منافقيها الإعلاميين مثل فضائيتي الجزيرة والعربية وما لف لفهما  .
ملاحظة : نظراً لخبرتنا بالكذب الأمريكي أظن أن الترويج بأن خمسين غارة عظمى على داعش قد خلَّفت عشرين قتيلاً فقط وأن الغارات يجب أن تستمر سنين لكي تعطي مفعولها هي كذبة يراد منها التحضير لما بعد الغارات وهو إما تدخل بري وإما تعاون مع سورية .
أسمع وأتفرج على ما يجري وأنا كلي ثقة بأن اللاعب الأذكى على الحلبة الآن هو الرئيس بشار الأسد الذي ساق مجرى الأحداث بحيث حوَّل: الأسد فقد شرعيته ويجب أن يرحل, إلى نرجوا أن يساعدنا الأسد بالحرب على الإرهاب .

والذي حوَّل: أمريكا ستضرب النظام لتساعد المعارضة على إضعافه وإسقاطه, إلى أمريكا تضرب (بدون سين المستقبل) المعارضة ذات نفسها. والذي حوَّل: "ثوار الحرية السلميين" إلى إرهابيين يجب على كل العالم محاربتهم . 

أزدري أمريكا (بالإضافة للكراهية العميقة التي أكنها لها) وأشمت (مع كثير من الإحتقار) بالمعارضة السورية التي بُحت وهي تدعوا كل دول العالم  لمحاربة سورية ولتدمير نظام الأسد ولشن الغارات على مواقع الجيش السوري , فحصل أن الدول التي استجابت لدعوات القصف وجهت قنابلها لمواقع المعارضة وهذا وضع يستوجب أكثر من الشماته بهكذا معارضة لم يشهد التاريخ معارضة مثلها تدعوا أياً كان لتدمير بلدها حتى لو كان المدعوا أعتى أعداءنا (بالإضافة للدعوات العلنية كان هناك تشجيع معنوي مثل "شارون عيني" ومثل "إسرائيل دولة شقيقة").
 سورية بجيشها ورئيسها و بمعونة الحلفاء الذين أتضح مدى صدق تحالفهم ودعمهم , سيكونوا أستاذة ومعلمي الصدق للبعض بعد أن فضَحا وهدَما أهم معابد الكذب وسيكونوا أساتذة ومعلمي التواضع للبعض الآخر .

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...