كيف سخر بوتين من هيلاري كلينتون

22-08-2014

كيف سخر بوتين من هيلاري كلينتون

الجمل ـ محمد صالح الفتيح: منذ أن خرج كتاب هيلاري كلينتون «خيارات صعبة» إلى الضوء منذ قرابة الشهرين، وشبكات التواصل الاجتماعي تعج بقصص منسوبة إلى كلينتون، كان أبرزها القصة المنسوبة عن أن البغدادي هو نتاج عملية مخابراتية كانت للولايات المتحدة دور مهم فيها، أو أن الولايات المتحدة ساعدت الإخوان المسلمين للوصول إلى الحكم في مصر وكانت تسعى إلى أن يحكم الإخوان كل الشرق الأوسط، وغير ذلك. ولكن الرواية الأحدث المنسوبة لهيلاري كلينتون كانت كما يلي – وأنا هنا انقل حرفياً ماتم تناقله على صفحات بعض الصحفيين والصحفيات:
«تنقل هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة في كتابها الجديد «الخيارات الصعبة»Hard choices القصة التالية عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين:أثناء الحرب العالمية الثانية كان والد بوتين جندياً في الجيش الروسي. وبعد أسابيع طويلة قضاها في الجبهة، حصل على إجازة تسمح له بالعودة إلى مدينته «لينينغراد»، التي أصبحت الآن تعرف باسمها الأصلي سان بطرسبرغ. وتقول القصة إنه ما إن وصل إلى الشارع الذي يقع فيه منزله، حتى رأى شاحنة عسكرية محملة بالجثث ومتوقفة إلى جانب الطريق الرئيس. فقد كانت قوات الحلفاء قصفت المدينة عشوائياً مما أدى إلى سقوط العشرات من القتلى المدنيين. وجرى تجميع الجثث في الشاحنة تمهيداً لنقلها إلى مقبرة جماعية أعدت لهذه الغاية في ضاحية المدينة. وقف والد بوتين أمام الجثث المتكدسة في الشاحنة المكشوفة حزيناً ومتاثراً. ولاحظ أن حذاءً في رجل جثة سيدة يشبه حذاءً سبق أن اشتراه لزوجته. فتوجه نحو بيته مسرعاً للاطمئنان على زوجته. غير أنه سرعان ما تراجع عن ذلك، وعاد إلى الشاحنة من جديد ليتفحص جثة صاحبة الحذاء، فإذا بها زوجته! لم يشأ الزوج الحزين أن تدفن زوجته في قبر جماعي، ولذلك طلب سحب جثتها من الشاحنة لنقلها إلى منزله تمهيداً لدفنها بشكل لائق. ولكن خلال عملية النقل تبين له أن زوجته لم تمت، وأنها لا تزال تتنفس ببطء وبصعوبة.. فحملها إلى المستشفى، حيث أجريت لها الإسعافات اللازمة واستعادت حياتها من جديد. ويتابع بوتين رواية القصة فيقول: إنه بعد عامين على هذا الحادث، حملت الزوجة التي كادت تدفن حية.. ووضعت صبياً اسمه فلاديمير بوتين! وهنا تنتهي القصة لتبدأ الأسئلة: ماذا لو أن السلطات العسكرية السوفييتية لم تمنح والد بوتين إجازة للعودة إلى مدينته؟ وماذا لو لم يعد في ذلك اليوم من الجبهة إلى بيته؟ وماذا لو لم يمر في الشارع الذي كانت تتوقف فيه الشاحنة؟ أو حتى لو تأخر قليلاً وتحركت الشاحنة إلى المقبرة الجماعية؟ ماذا لو لم يلاحظ الحذاء في رجل «جثة» تلك السيدة؟ أي تاريخ كان لروسيا اليوم؟ وأي دور كان لها في الشيشان وفي سوريا، في جورجيا وأوكرانيا؟ وأي علاقة كان يمكن أن تقوم بين الكرملين والاتحاد الاوروبي.. والولايات المتحدة؟ وهل إن لقصة ولادة بوتين التي يرويها هو نفسه، أي تأثير على شخصيته وسلوكه وقراراته؟»
كان انطباعي، في البداية، أن مثل هذه الرواية مختلقة بمعنى أنها منسوبة لكتاب هيلاري كلينتون، وهي غير موجودة فيه حقيقةً، وذلك لأنني قرأت أكثر من كتاب عن حياة فلاديمير بوتين ولم يرد فيها مثل هذه القصة المهمة التي لايمكن لأي كاتب سيرة ذاتية أن يتجاوزها، وخصوصاً بعد أن أصبح بوتين شاغل العالم خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية. ومازاد شكوكي هو أن التدقيق في الرواية أعلاه يظهر بعض الأخطاء الفادحة التي لايمكن أن ترد على لسان دبلوماسية عريقة مثل هيلاري كلينتون. فعلى سبيل المثال مدينة لينينغراد، التي تعرف حالياً باسم سان بطرسبرغ، كانت تحت الحصار الألماني لقرابة الثلاث سنوات، بين 1941 و 1944، وكانت تتعرض للقصف المدفعي والجوي الألماني، وليس قصف قوات الحلفاء، كماتقول الرواية أعلاه، فالحلفاء يومها كانوا حلفاء روسيا أيضاً ضد ألمانيا ولم تصل أي قوات للحلفاء إلى أوربا الشرقية أساساً، ناهيك عن لينينغراد. كما أن ظروف الحصار الشهير لم تكن تسمح بأن يعود جندي ما إلى لينينغراد لقضاء إجازته مع عائلته. والأهم أن فلاديمير بوتين قد ولد في العام 1952، أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بسبعة أعوام، أو بعد رفع الحصار عن لينيغراد بثمانية أعوام، وهذا تناقض كبير مع الرواية أعلاه التي تقول أن فلاديمير بوتين قد ولد بعد حادثة إنقاذ حياة والدته بعامين.
ولكي أقطع الشك باليقين، قمت بالحصول على نسخة من كتاب هيلاري كلينتون وقرأته بحثاً عن هذه الرواية. والمفاجأة كانت أن هيلاري كلينتون، وفي الفصل الحادي عشر من الكتاب والمخصص لروسيا وبوتين، تذكر فعلاً الرواية أعلاه، ولكن بتفاصيل مختلفة قليلاً وبدون الأخطاء التاريخية التي شرحتها في الفقرة السابقة. في ذلك الجزء من الكتاب، تقول هيلاري كلينتون أنه في شهر أيلول (سبتمبر) من عام 2012، وفي فترة كانت فيها العلاقات الأميركية الروسية تمر بمرحلة سيئة للغاية، ذهبت هي نيابة عن الرئيس باراك أوباما لتمثل الولايات المتحدة في «مؤتمر التعاون الاقتصادي الآسيوي الباسيفكي» المنعقد في مدينة فلاديفستوك الروسية. لم يذهب أوباما إلى المؤتمر يومها بحجة انشغاله بحملته الانتخابية، علاوة عن أن العلاقات الروسية الأميركية يومها كانت تمر بفترة صعبة خصوصاً بسبب الاختلاف في المواقف إزاء الأزمة السورية. تقول هيلاري كلينتون أنها عندما حضرت المؤتمر كان بوتين ولافروف ممتعضين للغاية من غياب أوباما ومن تصريحاتها – أي تصريحات كلينتون – حول الموقف الروسي الداعم للحكومة السورية. تضيف هيلاري أنه في ذلك المؤتمر بقي الروس رافضين للموافقة على عقد لقاء يجمعها ببوتين، واستمر رفضهم هذا حتى الربع ساعة الأخيرة السابقة للعشاء الرسمي. وافق الروس على اللقاء بين هيلاري وبوتين وذلك – بحسب اعتقاد هيلاري – يعود إلى أن تقاليد المؤتمر تنص على أن يجلس ممثل الدولة التي استضافت الدورة السابقة للمؤتمر إلى جانب ممثل الدولة المستضيفة للمؤتمر الحالي، أي أنه لم يكن هناك مناص من أن تجلس هيلاري كلينتون إلى جانب بوتين خلال العشاء. وهذا ما حصل فعلاً.
وما إن جلست هيلاري، التي كانت تحاول أن تحقق خرقاً دبلوماسياً في الأشهر الأخيرة الباقية لها في الخارجية الأميركية، إلى جانب بوتين حتى بدأت الحديث معه في شتى المواضيع،من الحديث عن المشاكل الحدودية الصينية الروسية والمشاكل التي تتعرض لها روسيا بسبب بعض الدويلات الإسلامية التي كانت منضوية تحت راية الاتحاد السوفيتي، ثم انتقلت هيلاري بثرثرتها،  الهادفة لكسر الجليد مع بوتين، للحديث عن زيارتها لمدينة لينينغراد، التي تسمى اليوم بسان بطرسبرغ، والتي كانت قد تعرضت لحصار قاسي جداً من قبل جيش ألمانيا النازية بين عامي 1941 و 1944. هنا قاطع بوتين هيلاري ليخبرها عما تعرضت له أسرته التي كانت تعيش في تلك المدينة. حيث أخبرها أن والده المقاتل في إحدى الوحدات الروسية في لينينغراد قد تمكن بصعوبة من الحصول على إجازة للعودة إلى أسرته وعندما اقترب من منزله مر بكومة من الجثث يتم تحميلها على شاحنة لنقلها للدفن، حيث لفت نظره حذاء في قدمي إمرأة يشبه حذاء زوجته فقام بسحب الجثة المفترضة وتفاجئ أنها تعودلزوجته، وبعد تفحصها اكتشف أن زوجته ماتزال على قيد الحياة فقام بإعادتها إلى منزله حيث اعتنى بها إلى أن تعافت وبعد هذه الحادثة بسبع أو ثماني سنوات ولد فلاديمير بوتين. هذه هي رواية بوتين حرفياً كما وردت في كتاب هيلاري كلينتون. تضيف هيلاري أن تلك كانت المرة الأولى التي تسمع أو تقرأ فيها مثل هذه الرواية. وفي وقت لاحق، كما تقول هي، قامت بسؤال السفير الأميركي في موسكو عن هذه الرواية فأخبرها أنه لم يسمع بها أبداً. هيلاري كلينتون تشير ضمنياً إلى أن تلك الرواية ليست صحيحة في الأغلب. وهكذا يكون السؤال الملح الآن هو لماذا اختلق بوتين هذه الرواية التي لم يسمعها أحد في السابق؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب التنويه إلى أن هيلاري كلينتون كانت تحاول كسر الجليد مع بوتين بالحديث عن بعض المواضيع الساخنة على أمل الوصول للملف السوري، وهذا تقديري أنا. فتكلمت هيلاري عن المشاكل الحدودية الصينية الروسية ومشاكل المتطرفين الإسلاميين ثم انتقلت للحديث عن معاناة لينينغراد ربما لتنتقل بعدها للحديث عن معاناة السوريين. ولكن بوتين هنا تدخل فأقفل الطريق عليها عندما سرد قصة معاناة والديه. فهيلاري كلينتون، وهي شبه متأكدة أن هذه الرواية لم تحصل، قد أصبحت في موقف حرج فهي إن صرحت بأنها لم تسمع بهذه الرواية سابقاً أوإن لمحت أن هذه الرواية قد لاتكون حقيقية فهي ستزيد الطين بلة وستزداد العلاقات الروسية الأميركية سوءً، وأي تركة هذه لتتركها هيلاري لخليفتها؟وهكذا لم يبق أمام هيلاري سوى تقبل رواية بوتين والتعبير عن أسفها والصمت، فكيف يمكنها بعد أن سمعت الرئيس الروسي يخبرها عن معاناة والديه، وأن والدته نجت من الموت بإعجوبة، أن تقوم بالتعبير عن انتقادها للموقف الروسي من سورية؟ أما كيف فكر بوتين بسرد مثل هذه الرواية فهذا يعود إلى المزيج الذي يمتلكه بوتين من الدهاء السياسي والخبرة الطويلة في جهاز المخابرات السوفيتي، كي جي بي. يعلق هنا أحد الصحفيين البريطانيين، بين ماكينتاير من صحيفة «ذا تايمز»، بالقول أنه «إذا كان السياسيون يختلقون الماضي بشكل غريزي،فإن رجال المخابرات يفعلون ذلك بشكل احترافي».
مافعله بوتين هو جزء من إدارة الحوار السياسي بينه وبين طرف يعتبره بوتين خصماً له. فما يحصل بين السياسيين عندما يلتقون يختلف جذرياً عن اللقاءات بين، على سبيل المثال، رجال الأعمال أو الموظفين البيروقراطيين فلايوجد محضر بنقاط معينة يجب المرور بها بترتيب معين. فاللقاء بين السياسيين يحصل بعد تحضيرات طويلة، فهو غير متاح بسهولة متى ما أراد أحد الطرفين، وبالتالي السياسي البارع هو الذي يعرف كيف يدير الحوار لكي يقود محادثه إلى النتيجة التي يريدها أو، على الأقل، يمنع خصمه من الوصول إلى هدفه. وهنا استذكر ماكتبه باتريك سيل عن الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما كان يلتقي المسؤولين من الخارجية الأميركية إبان المواجهة السورية الأميركية في لبنان صيف العام 1983 عندما كان يستهل الرئيس الأسد الكلام مع ضيفه الأميركي بسؤاله عن الطقس في بلاده فيجيب الأميركي، ببراءة سيندم عليها، قائلاً أن الطقس في بلاده أبرد من سورية فيعقب الرئيس الأسد فوراً بالقول «إن الطقس حار هنا لأن الولايات المتحدة تذكي النار!»*فهناك نوعان من الطقس في العالم: هناك طقس يأتي به الله وطقس تأتي به الولايات المتحدة فالتوترات والأزمات في المنطقة هي مسؤولية واشنطن بالكامل. وهكذا كان يبدأ اللقاء بين الرئيس الأسد وضيفه الأميركي وقد اصبح الأميركي في موقع الدفاع عن سياسة بلاده بدل أن يصبح هو في موقع الهجوم كما كان يرتجي. هذا الاستطراد كان ضرورياً لتوضيح كيف أن الرواية التي قدمها بوتين كانت خيار بوتين وسلاحه للسخرية من هيلاري كلينتون وإجهاض مسعاها.
تعليق ختامي:
لايوجد حقيقة في كتاب هيلاري كلينتون مايستحق القراءة، فهو عبارة عن توثيق لكل الخطاب الإعلامي الأميركي خلال السنوات الماضية. وفي الحقيقية كانت الجنيهات العشرة التي انفقتها على كتاب هيلاري كلينتون من أسوأ ما انفقته هذا العام.

هوامش
* كتاب «الأسد والصراع على الشرق الأوسط» صفحات 668 و 669

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...