حنا مينة: أكره نفسي لأنني لم أحقق الذي أريد وكان الأجدى ألا أكون

16-04-2014

حنا مينة: أكره نفسي لأنني لم أحقق الذي أريد وكان الأجدى ألا أكون

سيضرب حنا مينة كفاً بكف وبكامل انتظار الموت بوصفه رغبة أخيرة له يعلنها منذ سنوات ويؤكدها في برنامج تلفزيوني: «أنظر إلى عمري الطويل والرب الرحيم لم يتفضل بقصف عمري.. عشت طويلاً وهذا يكفي.. الآن أريد أن أموت وهذا كل شيء». بهذه العبارات الموجعة وبهذا الحزن المقيم يفتح الروائي السوري الكبير حنا مينة في ظهور له على الشاشة السورية باب الأسئلة على الموت والحياة والكتابة: «لم أعد أكتب فقدت بصري وأشعر بأنه يكفي ما كتبت».

اقتضاب.. وجاذبية غامض

 في «أثر الفراشة»؛ برنامج الإعلامية ألمى كفارنة الذي تبثه قناة «سورية دراما» بدا حنا مينة؛ ضيف الحلقة الكبير منذ أيام فاقداً لكل المتع وكل الرغبات، ويبدو أكثر أنه معني جداً بـ«النهايات» ولا يأبه مطلقاً لـ«البدايات» وربما كما في قصيدة درويش «أثر الفراشة»؛ خيار التقديم المعبّر واللافت في «الشارة» بأداء المغنية ريم بنّا «هو جاذبيّةُ غامضٍ يستدرج المعنى، ويرحلُ حين يتَّضحُ السبيلُ»... «هو مثل أُغنية تحاولُ أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقولُ…» وأمْيَل للاعترافات المقتضبة والبوح الشحيح وهو يستدعي الذاكرة البعيدة بصعوبة عن «أول» و«آخر»؛ الفكرة التي يقوم عليها «أثر الفراشة»؛ برنامج كفارنة الإعلامية السورية التي نجحت في إقناع مينة ليظهر في برنامجها التلفزيوني بعد قطيعة طويلة مع الإعلام؛ النجاح الذي جاء كما تقول كفارنة «بالحظ أو ربما بالسعي» وهي التي لم تخف سعادتها بلقاء يسجل لها «قلبي يرجف وأشعر بالارتباك» سعياً منها للوقوف على «حكاية بحّار» و«هواجس تجربة روائية» مع قامة عالية وسؤال «كيف حملت القلم» لروائي بحجم مينة.

خربشات.. مسامير وتلف أعصاب

القلم الذي أراد برنامج «أثر الفراشة» أن يعرف كيف حمله مينا كان صاحبه وصفه في رسالته  إلى نصفه المجنون؛ الرسالة التي خاطب نفسه بـ«يا فصيح» «بأنه مبرد وأن هذا المبرد برى، أو أتلف أعصابه وأن القلم سكنه كنقيق ضفدعة». ولأن الكتابة عند مينا هي الخلاص والاعتراف برغبته في العيش فإن كسره القلم وطلاقه للكتابة تتويج حقيقي لرغبته في الموت: «ملأت الدنيا صراخاً وبكاء وعويلاً وصار عليّ أن أهدأ وأن أستريح» وهو الذي يعرف تماماً كيف بدأ خربشة الكلمات، لكنه لا يعرف كيف صار كاتباً مشهوراً وكان صرّح بذلك «لن أغش أحداً فأزعم أنه الحظ، لا!! هناك سهر الليالي أيضاً، والسير في حقل من المسامير، تاركاً نقطة دمع في موطئ كل قدم بعد أن طلبت العلم حتى في الصين» وقال لنفسه منذ أول «خربشات» الكتابة والقلم وبعدما وجد نفسه في الرواية: «سأكون أول روائي عرفه البحر وكنت كذلك «أديب البحر» وهذا ليس من التشوّف في شيء لكنها الحقائق جديرة بأن تقال» الحقيقة التي يكررها مينة ويشدد عليها «عندما يقولون أين البحر أقول لهم أنا البحر».

 المريخ.. والحزن

صاحب «المستنقع» الحلاق الذي كان في زمانه- كما قال في البرنامج -جائعاً فقيراً معدماً بفعل القدر ليركب بعدها «الكونكورد» من باريس  إلى طوكيو ظهر في «أثر الفراشة» حزيناً وعقّب على حزنه بالقول: «إنه مترسب في أعماقه منذ الطفولة» ويذهب مينة  إلى أبعد من ذلك وهو يرد على أسئلة كفارنة: «أكره نفسي لأنني لم أحقق الذي أريده وكان الأجدى ألا أكون» وينحاز هنا  إلى نصفه المجنون «كنت أريد الصعود  إلى المريخ»، ويلتفت أيضاً  إلى نصفه العاقل في معرفة ما يقوله العلم وما يقوله علما الاجتماع والنفس: «لا يستصغرن أحد الأشياء الصغيرة ويرى أنها غير جديرة بأن تكون».

الوحش المفترس والعاصفة

 مينة في «أثر الفراشة» البرنامج الذي تعده وتقدمه ألمى كفارنة ويخرجه حسين خلوف ويشرف عليه تميم ضويحي بدا مطمئناً وقد هجر القلق «الوحش المفترس» الذي عايشه زاداً يومياً وجعله يضطرب مثل نورس في ريح العاصفة المجنونة فوق اللجة الزرقاء التي منها أخذ شفاهه وكلماته وعمّده بالنار الملتهبة ها هو ذا- ورداً على تعقيب لـ«كفارنه»- أنه «بحر ملحه سكر» يقول: «قد يكون هذا ولا يكون، حسب ما يرى ذلك الناس ثمة ناس يأخذون أعمالي بدرجة جيدة وناس يتساءلون ويأخذون العكس» ويعقّب بكثير من الرضا والثقة «أنا لا أبالغ أعرف الطرفين وأباركهما فليسعد الطرفان إذا كان عملي جيداً أو سيئاً والخير للجميع» لكنه في الوقت ذاته يؤكد أنه «معلم الرواية السورية»، ويشير وهو يرفع يده للأعلى: «من يقل لي أنني لست معلماً أناقشه نقاشاً جميلاً».

 وسواس قهري وشكوى

وبدا أيضاً مصغياً متسامحاً معافى من «الوسواس القهري» الذي عاشه ردحاً طويلاً من الزمن؛ الوسواس الذي «يُحس ولا يرى» والذي انتبه إليه وصارعه صراعاً وحشياً طويلاً استعان خلاله بالحبوب المهدئة من جميع الأصناف والمصادر لينتقل من الوسواس  إلى الإدمان ومن علاماته كما قال ذات مقال «كثرة التدخين وسرعة الانفعال وانتفاء الرضى وخبث اللاشعور والظمأ العاطفي والبحث دون جدوى عن شيء لا يعرف ما هو» الشيء الذي كان مينة عبر عنه: «أنا نصف مجنون ونصف عاقل وأفضّل نصفي المجنون على نصفي العاقل».

وإذا كان مينة أعلن سابقاً أنه كاتب سياسي بامتياز، وأنه تعلم أبجدية السياسة من السجون والمنافي، وأن السياسة إحدى تجلياته المفضلة وأن من حقه التحرش بالسياسة، فمن هنا جاء قوله في البرنامج «باريس همها حالياً العودة  إلى سورية» وهذا ليس سرّاً برأيه «فرنسا تريد استعمار سورية مجدداً»؛ الأمر الذي يراه مينة عصياً «سورية خرجت عن الطوق وهي فقط لأهلها» أما مناسبة الحديث عن باريس فجاءت من الشعر الذي يقول مينة أنه يحبه كثيراً وأن شاعره المفضل هو بدوي الجبل مردداً أبيات له منها:

يا سامر الحي هل تعنيك شكوانا رقّ الحديد وما رقّوا لبلوانا

سمعت باريس تشكو زهو فاتحها هلا تذكرت يا باريس شكوانا

 رفة هدب.. صمت وخجل

مينة صاحب «الثلج يأتي من النافذة» الذي كرر كثيراً «الأنا» و«البحر» يقول في «أثر الفراشة» أنه لم يحب طوال حياته ولم يسكر يوماً وكان سجّل في «الجسد بين اللذة والألم»؛ كتابه الصادر عام 2012عن الهيئة العامة السورية للكتاب أن أجمل ما في الحب هو الإمساك عن الكلام عليه، وترك التعبير عنه لومضة العين أو رفة الهدب أو حرارة اليد، أو تمسيدة الشعر، أو الذهاب مع القبلة في هنيهة من تخوم البداية  إلى حافة النهاية، القبلة التي تكتب ذاتها على الشفتين، الوجنتين، العنق، حبة القلب ثم يكون الصمت أبلغ» وفي البرنامج صمت مينة كثيراً وتحدث قليلاً وهو الذي قال ذات مقالة: «نصمت، لأننا في الزمن الرديء.. فرضوا علينا الصمت ومع الأيام والأعوام، ألفناه، اعتدناه، صار خبزنا اليومي وزاده سفرنا  إلى الخجل حتى من أنفسنا».

 فطر بنفسجي ومتعة يتيمة

من المؤكد اليوم أن صاحب «حكاية بحار»- الذي قال إنه لم يعد يتذكر أول فيلم شاهده وأول مسرحية والكتاب الذي أحب- يتحرر على نحو لا شك فيه من الهواجس على تعددها، وتنوعها، وتلاوينها وتهاويلها وقد أراح رأسه من الأفكار، والرؤى، والشخوص الروائية التي لطالما طاردته طالبة أن يكتب عنها، أن يخلقها أدبياً، يجعلها ترى النور حية تسعى، وكذلك النار المشتعلة التي لازمت رأسه وراحتيه وتوهجت جذوتها بين الأظافر فطراً بنفسجياً على رؤوس الأنامل باتت برداً وسلاماً ولم تعد مطارق الشخوص تدق على صدغيه وربما وحده «الطروسي» ظل حاضراً في الذهن وهو السباح الذي نجا بأعجوبة بعدما رمي في لجة البحر، ووحدها عبارة «الربيع يأتي دائماً» تبقى حاضرة وعلى نحو شائك وملتبس، وهنا فإن متعة وحيدة أشبه بمنارة في ليل البحر بقيت لصاحب «المرفأ البعيد»- وهو البحر في زرقته تتلألأ الأشياء– المتعة الوحيدة واليتيمة « أن أنظر  إلى الأصيل وهو يغوص في البحر».

 كلمة.. مقص وروح

هكذا فإن الأحلام تأخذنا  إلى مطارح أخرى في أسئلة الحياة والموت، ذلك أن حلم صاحب «بقايا صور» كان تغيير العالم بالكلمة لا بـ«المقص» في بدايات المشوار وبعد عقود من الكتابة في الرواية التي برع فيها تخلى عن حلم تغيير العالم واعتبر نفسه كاتباً بسيطاً يؤلف حكايات رائجة ومسلية وهي في الوقت ذاته مضبوطة الإيقاع، حسنة التشويق لا تحلم بتغيير العالم لأن هذا ليس دورها وإنما تطرح القضايا طرحاً صحيحاً يصوغ وجدانات الذين يعملون لتغيير العالم عن طريق البذل والتضحية ومقاربة النار التي تتفتح أزاهير عذاب على أناملهم. أما في البرنامج فيقول مينة إن ما عجز عن تحقيقه هو، فإن سعداً ابنه الفنان والممثل المعروف يحققه، ليكتفي مينة في حلم وحيد ينتظر تحققه بعد كل هذا النتاج الروائي الغزير وهذا العمر المديد هو أن يتفضل ملك الموت بقبض الروح.

علي الحسن

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...